ياسين الإدريسي: “لا أؤمن بالواقع في الفيلم”
عُرض في النصف الأول من هذا العام فيلمين تسجيلين للمخرج المغربي الشاب ياسين الإدريسي، أحدهما عن الثورة السورية المتواصلة منذ ثلاثة أعوام، قام بإنتاجه التلفزيون الهولندي الحكومي وحمل عنوان “ياسين يذهب إلى سوريا”، وفيه يقدم المخرج رحلته إلى سوريا لتصوير فيلم عن الحياة اليومية هناك، إذ إختار المخرج التوجّه بنفسه، كأول مخرج عربي يخرج فيلماً تسجيلياً طويلاً عن سوريا، وبدل الجلوس أمام شاشة التلفزيون ومتابعة ما يجري عن بُعْد. أما فيلمه الآخر “فيلم إيراني”، والذي عُرض في مجموعة كبيرة من المهرجانات السينمائية المرمُوقة، فيمزج المخرج بين مجموعة من الأساليب السينمائية، ليقدم رحلة تستلهم السينما الإيرانية كمصدر للتجريب والترميز الفنيّ، لكنها تنطلق من الواقع السينمائي المغربي كأرضية معقدة، فيقدم المخرج نسخة درامية عن ذاته، ويوثّق رحلته، أي كمخرج مغربي شاب، في سعيه لتصوير فيلمه الأول في المغرب، مقدماً الصعوبات الإنتاجية والاجتماعية التي تواجهها الصناعة السينمائية هناك.

عن فيلميه الأخيرين كان هذا الحوار مع المخرج ياسين الإدريسي:
· شرحت في بداية فيلمك “ياسين يذهب الى سوريا” الأسباب التي جعلتك تُقرر أن تذهب إلى سوريا لعمل فيلم عن الثورة هناك، عندما تعود للتجربة الآن، هل تعتقد أن هناك بعض الخطوط العامة والتفاصيل التي كان يُمكن أن تنجزها بشكل مُختلف، أم الذي تَمّ كان مُناسب لتلك الحُقبة؟
الفيلم كانت تجربتي الأولى في الحرب. كان هميّ الأول كيف أدخل وأخرج بدون خسائر، وأتعلم أكثر عن الحرب، ثقافتها، ديناميتها، المجموعات المسلحة، الأسباب الشخصية التي تجعل الناس يشاركون في الحروب، علاقتهم بالقتل والقتال، كنت أريد أن أعرف كيف يُمكن لشخص عادي أن يحمل السلاح ويقتل شخصاً آخر بغض النظر عن المبررات. كانت عندي أسباب كثيرة لعمل الفيلم. أنا كمخرج وإنسان عادي مُتعاطف مع الثورة، وأردت أن أساعد بشيء، ومؤمن بالقضاء والقدر، فإذا كانت نهايتي بسوريا فليكن ذلك. كمخرج استفدت كثيراً من التجربة، تعلمت كيف يُمكن أن أكون في المكان الصحيح، تعلمت أشياء عن الحرب والعمل في أجوائها، أكثر مما تعلمت عن الجوانب الإبداعية للعملية الفنيّة. كنت أريد أن أصور فيلم طريق، أي أُقدم الناس الذين أصادفهم في رحلتي في سوريا، ولا أختار من أصور بل أدع تجربتي هناك تُحدد مسّار الفيلم.
· دعني أسالك عن التحضيرات للفيلم، نعرف من مُقدمة الفيلم إنه كان لك إتصال مع شاب في سوريا، لكن عندما وصلت، هل كان لديك خطة واضحة عما تنوي فعله؟

عملت تحضيرات قبل سفري، سألت ناس من هناك و كان عندي أصدقاء سوريون أثق بهم، لكن النتيجة التي وصلت اليها بعد وصولي هي صعوبة الإتصال عندما تكون في سوريا، الحياة هناك بعد الثورة لا تُشبه العالم العادي الذي نعرفه، في المكان الذي كنت فيه في سوريا لم يكن هناك أي هواتف أو وسائل اتصال طبيعية. إذا التقيت هناك بشخص وأعجبك وأردت أن تصور معه، فهناك إحتمال كبير بأنك لن تجده في اليوم التالي، ربما يذهب للقتال ولا يعود أو يختفي هرباً من مشاكل الوضع الأمني، فقررت ألا أنتظر وأصور كل الأشخاص الذين يحيطون بي. صورت مشاهد عديدة، لذلك كانت عملية التوليف صعبة كثيراً، كان لدي حيرة كبيرة في اختيار المشاهد والشخصيات التي يجب أن تظهر في الفيلم. الفيلم هو موجه للجمهور الهولندي والأوربي (بسبب الجهة المنتجة)، وهو الأمر الذي فرض اختيار شخصيات بعينها. الفيلم يقف خلفه التلفزيون الهولندي وهذا فرض أسلوب مُعين في العمل، لو كان أنتج بميزانية مستقلة وموجه للعرض للمهرجانات السينمائية، لكان يمكن أن يكون فيلماً مُختلفاً وشخصيات أكثر ونهاية مختلفة. قررنا في المونتاج قرارات عديدة بخصوص المادة النهائية، أما أثناء التصوير فلقد تبعنا أحاسيسنا وبدون التفكير الكثير، لأن التفكير تركز وقتها في كيفية الحفاظ على حياتنا.
في سوريا من الصعب أن تثق بمن حولك، فكان التركيز الكبير وقتها هو كيف أخرج بدون خسائر من سوريا، أنا والمُصور المغربي الذي رافقني . كما إن كمية المعلومات والأحاسيس التي تمر عليك كل ساعة كان مرهقاً عاطفياً وفكرياً.
للأسف القنوات التلفزيونية الكبيرة مثل “الجزيرة”، أو “بي بي سي” البريطانية وتقريبا معظم القنوات الأوربية، تضع أُطراً عامة للمخرجين لكي تنتج لهم أفلامهم، فتحرمهم من الحرية الإبداعية الكاملة بمفرداتها الأسلوبية والشكليّة والزمنية. الوقت هو مُعضلة أقل، أحياناً القصة تفرض عليك شروط إبداعية مُعينة، لكن التلفزيون يبحث عن شكل واحد للتقديم، شكل معروف بنجاحه، يفضله على الإستثمار في أسلوب لا تُعرف عواقبه، وهو أمر مُعيق للإبداع، لذلك أتحاشى العمل مع التلفزيون، لأنهم يريدون أن أعمل أفلام تُشبه ما يعرضوه عندهم، وأنا لا أريد أن أنجز أفلام تُشبه أفلاماً أخرى، أريد أن أُقدّم أفلاماً خاصة تتفاعل مع محيطها.
· ما هي المشاهد التي لم تظهر في الفيلم، وعلى أي أساس اختيرت شخصيات مُعينة واستبعدت شخصيات أخرى؟
أعطيك مثلاً، كان هناك شخص اسمه “حسن” قُتل في معركة ضد “داعش”، هو كان قائد مجموعة في الجيش السوري الحرّ، أنا صورته في مشاهد عديدة، عندما عُدت إلى تلك المشاهد بعد فترة وجدتها مُختلفة عما أتذكره عنه ولا تُعبر عن الشخصية الراحلة، أحياناً كثيرة الفيلم لا يشبه الحقيقة، ولا يُعبر عن رأيك أو حقيقة الشخص. كنت في هذا الفيلم أصور بإحساسي، بدون خطط أحياناً، وأحاول أن أصنع لقطات ومشاهد، وهي طريقة مُختلفة عن أعمالي الأخرى والتي جرى التخطيط لها بعناية.
المشهد الذي ظهر فيه شباب يتحدثون عن سوريا الإسلامية أو سوريا الديمقراطية هي مُهمة، خصوصا للمشاهد الأوروبي، لأنها تُظهر التنوع بين المقاتلين السوريين، وكيف إنهم لا يحملون أفكاراً واحدة عن مستقبل سوريا، كل واحد عنده ألمه وأحلامه المُختلفة رغم إنهم يشتركون في معركة واحدة. هناك لقطات أخرى لم تصل للشكل النهائي للفيلم، لأن بعض الأشخاص اختفوا بعد التصوير، وهناك من رفض بعد التصوير أن يظهر في الفيلم لأسباب أمنية، هناك شخص أسرّ لي بأنه قائد كتيبة، لكن حتى أصحابه لا يعرفون ذلك، هو أخفى ذلك لأن الإغتيالات كانت تُصيب قُوَّاد الكتائب، كما إنه لا يرغب بالشهرة. هو شخص مهم جداً وذكي جداً وتحدّث بطريقة واعية عن المستقبل والأسباب التي جعلته يُخفي هويته. هذا كله لم يظهر في الفيلم لما يُمكن أن تُشكّله من خطورة على سلامة الشخص ذاك.
· لكن لماذا وافق على التصوير إذن؟
هو ظهر في البداية بشكل خاطف في الفيلم لكن شخص عادي، ولم يتم الإشارة إليه كقائد ميداني. لكني قررت بعدها أن أحذفه من الفيلم نهائياً.
· حسب علمي أنت أول مخرج عربي يصور ثورة سوريا، هل تعتقد أن المخرج الآتي من خلفية مشابهه للسوريين يرى الواقع هناك بعين مختلفة عن تلك للمخرج الأجنبي؟

بالطبع لأنه يفهم خلفيات المواقف، لأنك كمسلم مثلاً أو شرقي تعرف لماذا يتردد شخص في تصوير زوجته أو بناته، حتى علاقة الأشخاص هناك بك هي علاقة مُختلفة عن تلك مع المخرج الأجنبي على ما أظن. المخرج الأجنبي يواجه مشكلة اللغة، والتواصل، الديانة، هناك حذر وخوف ربما، لأن السوري يعتقد أن المخرج الغربي لا يفهمه، أو يفهم مواقفه، أظن أن المخرج العربي يمكن أن ينقل أفضل طبيعة الأشخاص العرب، لأنه يعرف خلفياتهم. كمخرج لن أصور فيلماً عن الصين، الا إذا قُمت قبل ذلك ببحث لعامين مثلاً عن الموضوع الذي أودّ تصويره، كوننا عرب نتعامل بطريقة مُختلفة مع الأخبار القادمة من مناطقنا، أنظر مثلاً لما تُقدّمه قناة الجزيرة العربية وقارنه بما تقدمه النسخة الانكليزية لنفس المؤسسة، هناك اختلاف كبير لأنهما يتوجهّان لجمهورين مختلفين. أعتقد أنه يجب على المخرجين العرب أن يعطوا اهتماماً أكبر للقضايا الآنية في مناطقهم.
· حبيت أن أسألك إذا كنت قد شاهدت أفلاماً عن الثورة السورية، هل تعتقد أن الأفلام التي عُرضت اقتربت من تصوّر الجحيم الفعلي هناك، وإلى أي حد يُمكن للسينما أن تنقل الواقع بأمانة؟
أظن أن السينما هي أقرب وسيلة لنقل ما يجري في الواقع، لكنها ليست كافية، أؤمن بالواقعية في السينما لكن ليس الواقع في الفيلم. مثلا الفيلم التسجيلي السوري “العودة إلى حمص” كان من أحسن الأفلام التي جعلت الناس تفهم الثورة السورية، كان من أهم الأفلام التي نقلت الثورة إلى العالم وكيف يتحوّل الناس العادين الى مقاتلين، مثلا شخصية “عبد الباسط” في الفيلم ذلك كان نموذج لتحوّل شخص عادي إلى مقاتل ثوري. هناك قصصاً كبيرة يمكن أن تُصوّر، ومازلنا قاصرين عن تصويرها لقلّة المخرجين الذين لهم الجرأة والإهتمام الكافيين لمقاربة هذه المواضيع.
· دعنا ننتقل لفيلم “فيلم ايراني”، الفيلم هو نوع من التفاعل بين المخرج والواقع، فإلى أي حد كان الفيلم مُرتجل وكيف يُمكن أن تصف عمليات كتابة السيناريو للفيلم؟
الفيلم هو تجربة خاصة كثيراً، كتبنا السيناريو بطريقة التفرّعات والإحتمالات، فمثلاً كنا نقول نذهب إلى هذا المكان ونُجرّب، فإذا قبلوا الناس نُصوّر هنا، أما إذا رفضوا فسنتوجّه إلى مكان آخر. وكل اتجاه كان له تفرعات على حسب احتمالات التنفيذ، كنت ألعب شخصيتي لكن بتضخيم، أي شخصية تستند على الحقيقة لكن فيها بعض المُبالغات المقصودة. هو انعكاس لتجاربي الأولى في السينما. في “فيلم إيراني”، كنت كمخرج أُصوّر فيلمي الأول، هذا بالحقيقة تم لضرورات درامية تخص الفيلم، فالفيلم لم يكن فيلمي الأول، فلي قبله أفلام تسجيلية وقصيرة. القصة كانت تحتاج هذا التفصيل، ردود أفعال الناس في الفيلم حقيقية، ومن هنا يأتي الجزء الواقعي في الفيلم، إذا جاز لنا تقسيم الفيلم إلى قسم واقعي ومُتخيل.
· هل الفيلم انطلق من حاجتك كمخرج لكشف “المغرب” كمكان صعب للعمل للمخرجين الشباب؟
من خلال تجربتي في تصوير أفلام أخرى في المغرب كنت أكتشف صعوبات كبيرة ومتنوعة، عندها فكرت، إن هذه الصعوبات هي قصة لذاتها وتصلح لأن تكون فيلماً، كنت أريد أن اشارك المُشاهد بهذه التجربة، لأنها تجربة صعبة وأليمة بشكل عام، أليمة بسبب هموم الوصول إلى الإبداع، وهناك ألم قلّة الإمكانيات، لأن الأحلام دائماً أكبر من الإمكانيات. “فيلم إيراني” يحكي هذه القصة، أي رحلة شاب يملك أحلام كبيرة يصطدم بضعف الإمكانيات. اخترت السينما الإيرانية لأنها وصلت للعالمية بإمكانيات بسيطة وذكاء، لأن رأس مال الفيلم هو ذكائه أيضاً، آمل إذا شاهد الفيلم مخرجون جُدد أن يساعدهم على المُضي في أحلامهم وأن يبدأوا الخطوة الأولى، ممكن أن يقوموا بأفلام ذكية، مثل ما تُنتجه السينما الإيرانية، التي لا أقول إنها الأفضل، لكنها من الأفضل، وهي مثال قريب لنا بسبب قلّة الإمكانيات المشابه.
· الفيلم يُعتبر تجربة جديدة في السينما المغربية، وخاصة في شقها التسجيلي، كيف كانت ردود الأفعال على الفيلم في المغرب؟
الفيلم عُرض مرة واحدة في المغرب، في مهرجان للفيلم الوثائقي، الذين شاهدوا الفيلم وقتها صُدموا به، لأنهم كانوا يتوقعون فيلماً تسجيلياً تقليدياً فوجدوا فيلم غريب. الفيلم عُرض في أوربا في عدد من المهرجانات السينمائية الكبيرة، والتفاعل كان جيداً. في المغرب كان هناك تردد حول الفيلم، البعض أحبه، والبعض تردد باتجاهه، بالنسبة للمشاهد العادي الفيلم غير تقليدي، وخاصة للمشاهد المعتاد على أفلام تقليدية، وهذا شيء إيجابي، فلعلّ الفيلم يُشجّع المشاهد على التفكير بأن هناك سينما لا تسير على الطريق التقليدي الذي اعتاد عليه.
· لقد أنجزت فيلمين مختلفين وبفترة قصيرة، هل تعتقد إن جيلك مُختلف عن الأجيال السابقة لجهة الإمكانيات، وما هي الفرص المتوفرة لمخرجي جيلك والتي حُرم منها المخرجين من عقود سابقة؟
أظن إن الوضع يختلف لأن هناك ديمقراطية في الإنتاج، والتكنولوجيا، لأن الكاميرات أصبحت رخيصة،أصبح لكل شخصٍ القدرة على الانتاج ولم يعد الإنتاج مقتصراً على القنوات والشركات الكبيرة، في نفس الوقت هناك كثرة في الإنتاج، التنافس كبير، والمستوى عالي، هناك فرص عديدة لعمل سينما، لكن تبقى صناعة الأفلام عملية صعبة كثيراً، يحتاج الأمر لصبر كبير. أنا تعلمّت الصبر من مهنتي السابقة في الصحافة، لو لم أكن صحافياً لكنت شخصية مُختلفة، العمل في الصحافة كان صعباً، قلّة الوقت وضغط العمل هما الغالبان هناك، هذا خَلقَ مني شخصاً صبوراً وأعمل بجد أكثر ( يضحك)، لا أعتقد إن كثير من الشباب له القدرة الكبيرة على التحمل، أُعاني كثيراً من أجل أن اقوم بما أقوم به، أخسر من وقتي ووقت عائلتي حتى أُخرج هذا العدد من الأفلام في زمن قصير. وفي نفس الوقت أكملت دراستي في الجامعة. لا أظن إني سأستمر بهذه الوتيرة، ربما سأتعب في يوم من الأيام ( يضحك).
· مشاريعك القادمة، أي اتجاه سوف تأخذ ؟ تسجيلي روائي؟
عندي كثير من الأفكار والمشاريع، لكني لا أحب أن أتكلم عنها حتى تُصبح حقيقة أو نصف حقيقة، أُفكّر بمجموعة من الأفكار، كلما تسقط تفاحة من شجرة أفكر بفيلم كما يُقال، أشعر أني إسفنجة أمتصّ كل ما يحصل حولي، ولا أعرف ماذا سيظهر من كل ذلك في الأفلام القادمة. أعرف في المقابل صعوبة المحيط، وصعوبة الإنتاج. أنا واقعي لكني أحاول ألا أتوقف كثيراً عند المُعوقات وأيضاً أسعى لأن استغّل كل يوم من حياتي في الإبداع.