حَريْم من البلاستيك

 
محمد موسى

قبل ثمانية أعوام، سافر الفنان التشكيلي المصري الهولندي الشاب طارق صادومة، الى القاهرة ليستقر هناك، وبعد أن عاش حياته كلها في مدينة أمستردام الهولندية، وهي المدينة التي ولد فيها من أب مصري وام هولندية. سيواصل الفنان، الذي درس في واحدة من أكبر كليات الفن الحديث الاوربية تجريباً (أكاديمية ريتفيليد في أمستردام)، إشتغالاته الفنيّة الجريئة، فأنجز من القاهرة قبل عامين مشروعه الفنيّ “حَريْم البلاستيك”، والذي يأخذ عمليات التجميل في العالم العربي كموضوعة أساسية، ويعيد تقديمها عبر تماثيل مُبالغ في قبحها وتشوهها وإغوائها، كتأويل فني للإنحطاط والإنهيار الأخلاقي الذي ترمز اليه هذه العمليات في الثقافة الشعبية العربية المُعاصرة.

تتميز التماثيل النسائية أيضاً بتفاصيل جسدية تعود لتاريخ طويل من لعبة الأغواء الأزَلِيّة. لكن الفنان يرى في هذه العمليات أيضاً، الحراك النِسْوِيّ الوحيد الموجود في الوقت الحاضر، وتعبير عن إستعادة نساء المنطقة السلطة على أجسادهن، في مجتمعات ترزح تحت ثِقْل الكبت النفسيّ والجنسيّ.
يسجل المخرجان الهولنديان غابرييل بروفاس وروب شرودر ما يقترب من المتابعة اليومية لمشروع طارق صادومة الفنيّ في القاهرة في فيلمها التسجيلي “حَريْم البلاستيك”، والذي وصل الى العرض التلفزيوني في هولندا أخيراً. كما يرافقان الفنان الى العاصمة اللبنانية بيروت، حيث سيقدم المشروع لأول مرة للجمهور، وأيضاً الى مدينة دبي الإمارتية، كنموذج للمدينة الثرية التي تلهم طالبي الغنى والمُتع. تهمين شخصية الفنان المصري على الفيلم، الى الحد الذي يتحول الأخير أحياناً لمنصة للترويج للفنان الشاب. كما سيواجه الفيلم، ولضعف عمليات الإعداد له او تفاعله مع المحيط حوله، معضلة إرتباطه بالمشروع الفني التشكيلي والى حد التماهي، فالأفكار غير المكتملة وأحياناً غير الناضجة للمشروع الفنيّ، ستتسلل الى الفيلم، ولا يقوم هذا الأخير بجهد حقيقي لسبر أغوار التجربة الفنية، او توسيع دائرة بحوثه ومشاهداته الخاصة، لتقديم التجربة الفنية الحديثة ضمن إطار أوسع، ليساعد على فهمها او لفهم المجتمع الصعب المراس الذي أتت منه، او الدوافع الأساسية التي تقف خلف رغبة الفنان لتقديم أعمال جريئة عن المجتمع الذي يعيش فيه، لا تبالي أحيانا بقيم ذلك المجتمع الأخلاقية والتاريخية.
يعتبر طارق صادومة إن مغنيات بوب عربيات شهيرات، هن من يقفن وراء شيوع ثقافة عمليات التجميل في العالم العربي. كما يحلل الفنان تركيبة مُثُلٌ “الجمال” لهؤلاء المغنيات، وكيف إنه يرتكز على موروثات من التراث العربي. هؤلاء الفنانات سيكونن المثال لآلف من الفتيات العربيات. لكن الفيلم لن يكون وثيقة تسجيلية واقعية للموضوعة التي يقدمها، فيقدم مثلاً نساء عاديات يقبلن على هذه العمليات، بل سيتجه الى تقديم العالم السفليّ لكواليس الفنانات وعيادات تجميل، والتي تقترب أجوائها من الغرف السريّة، التي تشهد على عمليات “التجميل”، او “التشويه” اليومي لطالبات وطالبي الجمال العرب. وإذا كان “التابو” الذي كان يحيط عمليات التجميل في الغرب قد خفت حدته في العقد الأخير، يصر فيلم ” حَريْم البلاستيك” على الجذور الإغوائية الجنسية لعمليات التجميل، وكيف إن من أطلقها (مغنيات البوب العربيات)، يقدمن في “الفيديو كليبات” الخاصة بهن، مجموعة منتقاة من الإشارات الجنسية التي تخاطب وعي وغرائز المستمعين والمشاهدين. يقدم الفيلم في هذا الخصوص مشهد طويل لطارق صادومة، وهو يحلل فيديو مُصور لواحدة من أشهر المطربات العربيات اليوم، وكيف إن هذه المطربة، والتي تواجه إنتقادات منذ سنوات، تعنتي بشدة بجميع تفاصيل ظهورها الجماهيري، حيث لا تقدم أي حركة بدون حسابات مسبقة.

صورت أغلب مشاهد الفيلم بعد غياب الشمس، وكأنها انعكاس ليوميات الفنان الشاب في القاهرة، ثم في بيروت او دبي. يظهر الفنان وكأنه جزء من العالم الخاص السفلي الذي يقدمه، ربما كان هذا مقصوداً، أي لإجل تصوير الإنحطاط والإستلاب، عليك أن تعيش بنفسك هذا العالم. سيشرك الفنان المصري الهولندي المشاهد  بتفاصيل عن حياته، عن علاقاته العاطفية السابقة (ستحضر صديقة سابقة للفنان تعيش في بيروت بقوة في الجزء الثاني من الفيلم)، وأفكاره عن الثورات العربية، ويأسه من نتائجها بغياب ثورة إجتماعية شاملة. إضطر الفيلم، ولحساسية موضوعة عمليات التجميل وقلة الراغبين بالحديث الصادق عنها خاصة مع المقاربة الغير معتادة للفيلم، أن يركز على الفنان نفسه. هو يحضر في معظم مشاهد الفيلم، هذا بدوره سيثقل الفيلم، خاصة إن بعض أفكار وخلاصات المخرج غير مكتملة التشكل. كما غابت، ولأسباب غير مفهومة، الخلفيات التاريخية الضرورية لفهم ما يجري أمامنا على الشاشة او دوافع الفنان للتوجه وجهات معينة في مشروعه الفنيّ.
لكن الفيلم يؤكد مجدداً إن هامش الحريات الذي تتحرك فيه الأفلام التي تتناول قضايا عربية او مسلمة ويقف خلفها مخرجين أجانب، هو أوسع كثيرا عند مقارنته بذاك في أفلام زملائهم العرب. يدخل الفيلم أحياناً في محظورات يتجنبها معظم مخرجي المنطقة، ويتناولها بحرية لافتة وبدون أي تردد. كما يبدو إن الأبواب تُفتح أكثر للمخرجين الأجانب عندما يقدمون أعمالاً عن المنطقة. فالفيلم يلتقي شخصيات عربية جدليّة، من عالم الصحافة والفن، ويدخل في بيت مُطرب إماراتي معروف، لينقل شذرات من الحياة المغلقة التي يعيشها فنانين عرب من بلدان مختلفة، والتي إقتربت أحياناً بجنونها وإنفلاتها من العوالم الخاصة التي تقدمها أفلام المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني، والذي كان مهووسا بالنماذج البشرية الغريبة، والأفعال الشاذة الغير سويّة.

 


إعلان