“الملكة والوطن”: العودة إلى الذاكرة
أمير العمري
كان من دواعي السعادة أن اشاهد الفيلم الجديد للمخرج البريطاني الكبير جون بورمان John Boorman (81 سنة) الذي يعتبر أحد أكثر أبناء جيل الستينيات في السينما البريطانية موهبة، إلا أنه مخرج مقل في أعماله، فعلى الرغم من أن أول أفلامه، وهو فيلم”إلحقنا إذا استطعت” Catch Us if You Can أنتج عام 1965 ، إلا أنه لم يخرج حتى يومنا هذا سوى 17 فيلما روائيا طويلا، وكان آخر ما قدمه هو فيلم “ذيل النمر” The Tiger’s Tail عام 2006 قبل أن يعود بفيلمه الجديد “الملكة والوطن”Queen and Country الذي نجحت تظاهرة “نصف شهرالمخرجين” الشهيرة في مهرجان “كان” السينمائي في التقاطه وعرضه واستضافة مخرجه الذي بدا متألقا مليئا بالإحساس بالمرح وهو يقدم فيلمه للجمهور رغم تقدمه في السن

أمل ومجد
جون بورمان يستكمل في فيلمه الجديد ذكرياته الشخصية التي بدأها قبل 27 عاما في فيلمه الأشهر “أمل ومجد” Hope and Glory (1987) الذي نال عددا كبيرا من الترشيحات لنيل جوائز الأوسكار وجوائز الكرة الذهبية في هوليوود، رغم أنه فيلم “إنجليزي” تماما من حيث مضمونه، فأحداثه تدور في أحد أحياء لندن الشعبية في الفترة من 1943 الى 1945 أي في الفترة التي تعرضت خلالها لندن لقصف عنيف من قبل الطائرات الألمانية خلال الحرب العامية الثانية، ويبدأ الفيلم وبورمان طفل في لسابعة وينتهي مع نهاية الحرب وقد بلغ التاسعة.
وكان من أبرز مشاهد الفيلم تلك التي تصور الدمار الهائل الذي لحق بالمنازل، واضطرار كثير من العائلات الى الفرار من المنطقة، كما يصور كيف اضطرت أسر كثيرة الى نقل أولادها الصغار الى استراليا طبقا للنظام الذي أقامته الحكومة في ذلك الوقت، لحماية الأطفال من الغارات الجوية وتجنبيهم آثارها المعنوية أيضا وهم يرون آبائهم يفقدون حياتهم. وكان هو نفسه سيذهب رغم مقاومته العنيفة الى استراليا مع شقيقته الصغيرة إلا أن أمه- كما نرى- تتراجع عن الفكرة بعد أن شعرت بالأسى لمفارقة إبنيها.
والطريف أن بورمان أصر وقت إنتاج الفيلم على أن يبني ديكورات شارع كامل من شوارع لندن بمنازلها المميزة، داخل باحات الاستديو، مع كل ما يترتب على القصف من أطلال ودمار في المنازل التي تحولت الى أماكن للعب الأطفال، وساعده مصمم مناظر استطاع تجسيد كل العناصر المكملة للصورة التي تضفي عليها واقعية تامة. وكانت المفارقة أن الفيلم، رغم ما يصفه من أجواء الحرب والدمار إلا أنه كان يتميز بروح المرح والدعابة، وكانت الأحداث تروى من عيني الطفل “بيل روان” (المعادل لشخصية جون بورمان نفسه)، الذي يستعيد هنا ألعابه ومشاجراته مع أقرانه في الحي والمدرسة، وذكرياته عن أخته “المتهورة” التي كانت تصر على الخروج ليلا رغم حداثة سنها، وكيف أقامت علاقة مع جندي كندي ثم تزوجته ورحلت معه لكن زواجها فشل. ويصور أيضا اضطرار الأسرة إلى الانتقال للعيش في منزل الجد في منطقة خارج لندن، هي عبارة عن جزيرة صغيرة بديعة داخل نهر التايمز حيث يتعين ركوب قارب للوصول الى المنزل، وكيف كانت معلمته في المدرسة تتغنى أمام الطلاب بأمجاد الامبراطورية البريطانية في حين كانت الامبراطورية نفسخها تنهار وتشهد آخر أنفاسها بفعل ضربات طائرات هتلر وما تواجهه من تحد لقواتها في شتى أنحاء العالم.
بداية عصر جديد
وإذا كان “أمل ومجد” يؤرخ بطريقته البسيطة التي تعتمد على تدفق الذكريات في سياق سينمائي لا يلتزم بالحبكة والتقليدية في القص، لبدايات انهيار الامبراطورية وزوال عصر كامل وتلاشي فكرة الامبراطورية “التي لا تغرب عنها الشمس” وهو ما كانت المعلمة تصر على ترسيخه داخل عقول التلاميذ الصغار، ففيلم “الملكة والوطن” هو عن نهاية الامبراطورية نفسها، وتفسخها وتحللها من خلال تصوير ما يدور داخل “المؤسسة العسكرية” أي الجيش البريطاني من مساخرتصل حد المهازل، باعبار ان الجيش هو أكثر المؤسسات رسوخا والتزاما بالتقاليد الصارمة.

يبدأ الفيلم من حيث انتهى الفيلم السابق، عندما نشاهد “بيل” وهو يرى كيف تحول مبنى مدرسته الى أطلال بعد ان قصفته الطائرات الألمانية وتكون عبارة “شكرا ياهتلر” التي يرددها بسعادة، أبلغ تعبير عن عبثية الواقع كما كان يراه في ذلك الوقت. وعلى الفور نقفز تسع سنوات إلى الأمام، بعد أن يكبر “بيل روان” ويصبح في الثامنة عشرة من عمره، ويلتحق بالجيش لأداء الخدمة الإلزامية وقتذاك. وداخل الجيش يتعرف بشاب في مثل عمره، وسرعان ما يرتبطان بصداقة ويشتركان معا في عدد من المقالب الجرئية الموجهة خصوصا للسخرية من ذلك الضابط المتجهم الفظ الذي يرمز للامراطورية الغاربة، والسخرية منه الفيلم ومن تزمته واصراره على التلويح للجنود الشباب بارسالهم الى الجبهة التي كانت مشتعلة بالحرب في كوريا التي عام 1952.
وشأنه شأن الفيلم السابق، لا يقوم البناء هنا على قصة محكمة الأطراف، بل يعتمد على المواقف المتفرقة، وعلى تواتر المفارقات، التي تسخر من العسكرية البريطانية، ويصور كيف يقضي الجنود أوقاتهم في التدريبات العقيمة، وكيف يقوم بيل وزميله بتعليم الجنود الملتحقين حديثا الطباعة على الآلة الكاتبة (هل هكذا يخدم الملكة والوطن- كما يسخر في أحد المشاهد!).. وكيف يطاردان الفتيات.. الى أن يقع بيل ذات يوم في غرام فتاة مدهشة الجمال، غامضة، يدعوها “أوفيليا” على اسم ابنة النبيل بولونيوس الرقيقة حبيبة هاملت في مسرحية شكسبير الشهيرة. لكن هذه العلاقة لا تتحقق أبدا رغم رومانسيتها وجمالها، ولعل المقصود هنا الإشارة إلى أن الزمن نفسه كان قد تغير وأصبحت مثل هذه العلاقات غير قابلة للحياة.
وينتقل الفيلم الى منزل الجد الذي رأيناه في الفيلم السابق، حيث نرى الأسرة مجددا: الأب والأم والشقيقة التي أصبحت تعول طفلين من زواجها الفاشل، والخالات الثلاث وبالطبع الجد ذو المظهر المتزمت ومع تمتعه بروح المرح.
هناك بالطبع الكثير من المفارقات والأحداث التي تربط بين الشخصيات، مثلا يقع صديق بيل أثناء زيارة له الى منزل العائلة في غرام شقيقة بيل التي تبدو بدورها منجذبة إليه، ولكن شخصية “أوفيليا” (التي تقبل بالمناسبة هذا الإسم ولا تبوح لبيل أبدا باسمها الحقيقي) تظل شخصية يحوطها الغموض، رغم الإشارة الى أنها لابد وأن تكون منتمية للأسرة الملكية (نشاهد صورة لها في حفل من حفلات الملكية). وبعد وفاة الملك جورج السادس يتم تنصيب ابنته الملكة اليزابيث الثانية على العرش، وهو ما ينتهي به الفيلم في إشارة إلى بداية عصر جديد في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كعادة بورمان يعتمد أسلوب الإخراج هنا على السيطرة على المكان وعلى الأداء التمثيلي الا أن اختياره للممثل الذي يقوم بالدور الرئيسي وهو الممثل الشاب كالوم تيرنر، لم يكن موفقا كما لم يوفق في اختيار “كاليب لاندري جونز” للقيام بدور صديقه “بيرسي” الذي يسرق ساعة ضخمة كانت في مكتب الضابط ويقوم بتهريبها خارج المعسكر مما يجعل الضابط يستشيط غضبا ويصر على تقديم الاثنين للمحاكمة العسكرية. ولعل أداء الممثل ديفيد تيولس David Thewlis في دور الضابط هنا هو أبرز ما يتميز في هذا الفيلم من ناحية التمثيل. لن نرى بالطبع تلك اللقطات الطويلة المتحركة (ترافيلنج) بالكاميرا على سطح الماء، كما رأينا في فيلم “أمل ومجد”، فبورمان يميل أكثر الى اللقطات الثابتة والحركة الأفقية (بان) أحيانا. وهو يستخدم أيضا بعض اللقطات الوثائقية (بالأبيض والأسود)، كما يستخدم بعض اللقطات الثابتة للعائلة من فيلمه السابق. وكلها تلعب دورها في الربط بين مفاصل الذاكرة. ولاشك أن المتفرج الذي سبقت له مشاهدة الفيلم القديم سيكون بمقدوره الاستمتاع أكثر من غيره مما لم يشاهده.
كان الفيلم السابق يصور كيف أن الرغبة في الحياة بزخمها وتدفقها لا تتوقف، بل وتنتصر في النهاية على الحرب الموت والدمار. أما في “الملكة والوطن” فالطابع العام للفيلم هو طابع الكوميديا الإنسانية الخفيفة، التي تعتمد على المفارقات والتعليق الساخر. ولانه يعتمد على ذكريات أصبح فيما بعد مخرجا سينمائيا كان لابد من الإشارة في عدد من المشاهد ، إلى بداية إهتمام جون بورمان بعالم السينما، منذ أن كان يشاهد تصوير بعض الأفلام في المنطقة الواقعة في زمام استديوهات شيبرتون القريبة من حيث كان يقيم.
ويضفي المصور على الصورة طابع الفترة من خلال الإضاءة الساطعة والألوان المميزة الداكنة البني والأصفر والأسود والأخضر. قد يكون هناك بعض التكرار في الفكرة، وبعض الرتابة في طريقة الحكي التي تسير إلى الأمام دون أن تصل الى ذروة ما، وقد يكون هناك أيضا هبوط في الإيقاع العام بعد الثلث الأول من الفيلم، ولكن التجربة في حد ذاتها، تمتلك عناصر جاذبيتها من ذلك التألق المثير للإعجاب من جانب بورمان، وحضوره الذهني كمخرج وقدرته على التقاط التفاصيل وإعادة وضعها في سياق قصصي سينمائي. إنها دون شك، عودة سعيدة لمخرج قدير.