ميراث.. سيرة ذاتية تفكك تاريخاً طويلاً من الهجرات

قيس قاسم

“لقيت حالي من جديد عم أترك كل شي وأهرب، بس هذه المرة مع عائلتي.. شفت حالي وبدون تفكير عم أقلعهم من بيتهم لأخذهم الى مكان آخر.. ليش؟” من هذا السؤال الذي يطرحه المخرج فيليب عرقتنجي على نفسه وهو يركب السفينة التي ستقله من بيروت الى فرنسا بعد حرب تموز 2006، يمكن الدخول الى تاريخه الشخصي الذي أراد أن يروي منه فصولاً وأن يُقلب عبره بعض صفحات من تاريخ بلاده: لبنان، المليء بالهجرات والرحيل.

فيليب عرقتنجي

لسردها بصرياً تعمد عرقتجني تعقيد وسائل التعبير عنها، سينمائياً وحكائياً، لأدراكه بأن أنجاز وثائقي جيد يجمع الشخصي بالعام يشترط بالضرورة الأنفتاح على مساحات جغرافية وتاريخية واسعة. فتخوم العلاقة بين الأنا والكُل تسمح بسبب من تداخلها الشديد، بتجريب وسائل كثيرة وتجاوز أعتبارات تقنية من أجل أتمام موضوع مركب بالأساس لا يمكن الفصل بين مكوناته الداخلية لكنه يمكن، سينمائياً على الأقل، تغليب مكون على آخر وبمقادير محسوبة بدقة علينا الأعتراف أن عرقتنجي عرف كيف يوازن فيما بينها فوفر بذلك واحداً من أهم شروط نجاح العمل الوثائقي: المصداقية. ثمة أنطباع يتولد من المشاهدة بأن الحكاية نابعة من أحساس عميق بالحاجة الى سردها وليس لأهميتها، فالحكايات والقصص الفردية ليست بالضرورة كلها عظيمة وذات أهمية كبيرة ولكن بمجموعها، وبكتابتها دون تأجيل، أنما تؤسس لقراءة في تاريخ البلاد وبها تتشكل نواة الذاكرة البصرية للناس وتتسع مع تعدد أصوات سردها، وفيما بعد ينفتح المجال للتباري على مستويات نضجها وعمقها بين كُتابها، وعرقتنجي واحد منهم، حكاء جيد، متحرر من شروط اللغة، ما يُسهل فهم أسباب أختياره اللهجة اللبنانية دون الفصحى ليوفر لفيلمه عبرها، كوسيط لغوي سلسل، مناخاً عائلياً محلياً بأمتياز، يُسَهَل سرد قصته الشخصية التي أستخدم الى جانبها وسائل تعبير سينمائية آخرى وهذا ما عمق عملياً من قوتها وسمح لها بالتداخل والتفاعل على مساحة النص الوثائقي المتعدد المستويات، فرأينا كيف مضى الروائي مع التسجيلي في أنسجام رائع والتعليق تناسق مع المأخوذ من الأرشيف ما وضع “ميراث” بين الأفلام العربية القليلة التي روضت التقني للمتن وأنفتحت على كل ما يفيد الغرض دون خوف.
في المشهد الافتتاحي ل”ميراث” نرى أطفال المخرج يلعبون ويشاركون ممثليه الأستعدادات لتصوير لقطات عن رحلة جدته وديعة من تركيا الى فرنسا مع نهاية الحرب العالمية الأولى على متن سفينة، ومن تفاصيل الرحلة يراجع عرقتنجي علاقة عائلته اللبنانية بالهجرات المتكررة داخلها. فالسفينة، بعمق ما تفرضه من تداعيات ذهنية ترتبط بفكرة السفر الطويل وأحالاته: التعب والأغتراب والمغامرة ـ  ستلعب دوراً محورياً، نفسياً، في وثائقيه، سيما وأن هروبه الذي عقب حرب 2006 قد تم على سفينة عسكرية فرنسية  ليتذكر وهو يتصفح جوازه اللبناني على متنها أنه قد ركب البحر نحو قبرص أكثر من عشرين مرة وترك لبنان ثلاث مرات، مكرراً على نحو مختلف حكاية جدته التي كانت تقصها عليه في طفولته عن أيامها في تركيا وكيف غادرتها بعد مغادرة فرنسا لها.

ملصق الفيلم

بالروائي يعيد رسم حكاية الأجداد وباللونين: الأبيض والأسود، ليعطي عمقاً للأحداث التاريخية التي غطتها السياسة وكانت سبباً في ما سيحل بأجداده من مصير. يجرؤ عرقتنجي على أعادة كتابة تاريخ جزء من الصراع المسيحي الإسلامي في تركيا بصرياً، مستخدماً قوة صنعته على تسجيلها أنطلاقاً من الخاص ليفسر ضمناً ما سيلاقيه لبنان لاحقاً على المستوى العام. يعيد تصوير جدته التركية المسيحية وهي تستقبل في مدينة كليكا مثل غيرها من أبناء جلدتها الجيش الفرنسي بالترحاب والذبائح. كانت، مثل أغلبية مسيحي الشرق، تأمل بخلاص من هيمنة عثمانية فرضت نفسها عليهم قرابة 400 سنة، ورأت في فرنسا المُخَلص لأضطهادهم وعودة حميدة للغرب المسيحي بعد غياب دام ستة قرون، غير أن مسارات التاريخ لا تجري وفق أهواء الناس فتغير حال الجدة، بعد توقيع أتفاقية سحب الجيش الفرنسي عام 1921 من تركيا وتَعرض المسيحيين لأنتقام الأتراك فقررت مع عائلتها الهروب الى فرنسا وعلى متن سفينة عسكرية أيضاً. لم تمضي الرحلة الى نهايتها المرجوة فكان الرحيل والمقام في لبنان عبر سوريا، لتأسس نواة عائلة عربية مسيحية من بين أحفادها سيكون فيليب عرقتنجي، والذي بدوره سيكتشف أن والد جدته وديعة، التي لم تخرج عن منفاها الأجباري، وكما قالت مرة: “المنفى ما بيكسرك.. المنفى بيهريك.. شوي شوي!” قد سبق له أن ركب البحر على ظهر سفينة مهاجراً من لبنان عام 1860. سفينته الفرنسية بدورها أضطرت للتوقف في ميناء مرسين التركي لتعيد التاريخ ثانية: فقد توقفت جدته قبل تسعين عاماً في ذات الميناء وهي على متن قارب كان يقلها الى منفاها الإجباري.
 بأشباعه البحث في تاريخ عائلته وهجراتهم، وأعادة تصويرها سينمائياً بمهارة لافتة، أنما يريد قص حكايته ضمن سياق تسلسلها التاريخي، دون أنقطاع، وهو بذلك يدخل الى الشريط ليس بوصفه مخرجاً فحسب بل مشاركاً وبطلاً ضمن مجموعة أبطال هجراتهم المتكررة ومصائرهم في المنفى تكتب جزءًا من تاريخ بلاد تتعرض بدورها لموجات حروب متكررة تدفع أبناءها لتركها والعودة اليها بعد حين.
كلما أقترب من نفسه أقترب من كتابة الصفحات الخاصة بالتاريخ المعاصر للبنان والتي، ضمن سياق ما يقدمه الشريط، هي الأكثر حاجة للمراجعة النقدية والسينما الوثائقية اللبنانية سواء في “ميراث” أو غيرها أنما تكرس منجزاً واعياً لدور صناعها في قراءة تاريخ لبنان وبالتالي المساهمة في تغييره أو على الأقل تجنب حدوث مآسيه ثانية، ومن هذا الباب يلوج “ميراث” في العمق ليقدم آثار ما تركته الأجيال التي ذاقت مررات الأغتراب والحروب وآخرها جيل توزع بين مكانين وظل حائراً في الوجهة التي عليه المضي بها ويجسد هذا الصنف أولاد فيليب نفسه، أما والده فينتمي الى سلالة المهاجرين الذين جاءوا من بلدان عربية ليستقروا في موطن جديد بأكبر قدر من المصالحة معه.

يكرر عرقتنجي في فصل “الشك” مخاوفه من حالة أنعدام الرغبة العامة في تسجيل التاريخ أو محاكمته لأننا وحسب تعبيره “في كل حروبنا لم يوضح أحد لنا بالضبط مَن كان الغالب فيها ومن هو المغلوب؟” وبالتالي يمكن أعتبار “ميراث” محاولة لقراءة نتائج الحروب التي دخلتها لبنان والسؤال عن مسببات خوضها في الأصل وما هي الآثار التي تركتها على الذين عايشوها، وهو من بينهم. فقد شهد حرب عام 2006 وأمضى مراهقته في ظل حرب أهلية تركت ندوباً في روحه وتمنى أن لا يرى مثلها في نفوس أطفاله ولهذا أخذ قسماً من فيلمه وكرسه لتوضيح ما عاشه أثناء تلك السنين على أمل أن يستوعبوا أطفاله وأمثالهم دروساً منها بوصفه شاهداً عليها يعود بعد سنوات المنفى بوعي لقرائتها وبحيادية جد معقولة لرجل لا ينفصل تاريخه عن تاريخ بلاد مازالت تشهد أنقساماً سياسياً ومذهبياً وجذوة نار حروبه الأهلية لم تنطفأ بعد وبالتالي هو يسبق نشوبها مرة أخرى بأعلان ما رآه من فضائع لا يريد لأحد أن يعيشها، مقترباً عبرها من تحليل بنية المجتمع اللّبناني عبر تجربة والده المهاجر القادم من سوريا بعد قيام الوحدة المصرية السورية وعلاقته باللهجة المحلية والمحيط العربي من جهة واللغة الفرنسية وثقافتها من جهة ثانية. وعلى المستوى الاجتماعي يحلل ويفكك عبر حوارات مع والدته أو من خلال أستعاداته الذهنية لتجربته الحياتية الى طبيعة أنتمائه الديني والعرقي وصلته مع الطوائف الآخرى التي تشكل بدورها هيكيلية اجتماعية أثرت في قراءته لها تجربته في المنفى الفرنسي واقترانه بزوجته الموزعة الهوية (فرنسية لبنانية) وأطفاله الذين أنسحب عليهم تأثير الأختلاط الجغرافي ـ الثقافي وما نتج عن كل هذا من وعي أغنته تجربة “عائلية” تجسدت سينمائيا بمنجز حاول حاول عرقتنجي تقديمه وفق منطق بصري مشروط بتفاعل المتلقي معه وبقدرته على أقناعه بأهمية أعادة التفكير في التاريخ بوصفه بياناً قابل للتحليل والتفكيك وهذا ما حاول فعلة “ميراث” بدرجة مُرضية جداً.  

ميراث
Heritages

لبنان
• 90 دقيقة
• سيرة ذاتية
• وثائقي
• إخراج:
• فيليب عرقتنجي
• اديان عرقتينجي


إعلان