العجوز والحسناء

قيس قاسم

الأفلام الوثائقية التي تعالج الجوانب النفسية قليلة، حالها حال الروائية وأن بدرجة أقل لأسباب تتعلق بصعوبات نقل الأحاسيس الجوانية الى صورة والتي تتطلب عند الشروع بها جهداً استثنائياً من صانع العمل الى جانب قلة الإقبال عليها جماهيرياً، ومع هذا قبلت المخرجتان جيليان هرانكوفسكي وأبريل بوتلر خوض تجربة إنجاز وثائقي من هذا النوع بفارق أنه يجاور صنفه بمعالجة اجتماعية لموضوع يتعلق باستغلال بعض كبار السن من الغربيين لقوة أوضاعهم الاقتصادية شباباً (فتيان وفتيات) من الدول الفقيرة والذي يأخذ عند تحليل الظاهرة أبعاداً كثيرة (اقتصادية، اجتماعية، سياسية) وإختلافاً واسعاً في الحالات الفردية، لكن في النهاية أُتفق على تسميته ب” السياحة الجنسية”.
ستلعب أبريل بوتلر دوّران في الفيلم: الأول كمصورة والثانية لنسميها مجازاً “محاورة”. محاورة، ويا للغرابة، لوالدها. فقصة الوثائقي عن ذلك الوالد الذي فجأة غادر كندا الى الفيلبين وأعلن لها بعد مدة وجيزة أنه ينوي الزواج من شابة فيلبينية تصغره بحوالي خمسين سنة! صدمتها كانت الدافع الأول لفكرة إنجاز فيلم عن تجربة والدها وعمره 73 سنة، لكن الدافع الجواني الأقوى كانت الرغبة الحقيقية في التعرف على والدها لأنها اكتشفت ودون مقدمات أن من كانت تظن انها تعرفه جيداً وفي ذهنها صورة محددة لشخصيته قد ظهر على غير ذلك، فذاك الرجل عنده أكثر من شخصية كل واحدة تخفي أخرى ومن هنا جاء اقتراحها على زميلتها جيليان هرانكوفسكي بأن تسمي فيلمها “شخصيات والدي” أو حتى يمكن ترجمته ب”وجوه والدي”. معترفة بامتلاكه أكثر من وجه وأنها تريد التعرف، بعد أعلان عزمه الزواج، على بعض تلك الوجوه المخفية داخله من خلال الذهاب الى الفيلبين أولاً والتعرف على الفتاة عن قرب، وعلى الأرض، التعرف على الظروف التي يعيش فيها والدها في ذلك البلد البعيد.

المصورة أبريل مع والدها

تعترف أبريل بعد مجيئها الى البلد الغريب ان كاميرتها وفرت لها نوعاً من التواصل الحر بينها وبين والدها لأنه بمستطاعها وهي تقف خلفها طرح أي سؤال عليه، كما أن تسجيل الوقائع في بيته ومع زوجته سيسهل عليها الاقتراب من الفتاة التي ستصبح، بعد الزواج، جزءًا من العائلة وهذا ما كان يثير قلقها لأسباب تتعلق بنشأتها وثقافتها الغربية المعاصرة والمحملة بانحياز “أنثوي” الى جانب الخوف الدائم من الغريب! لم تستسغ فكرة زواج والدها من فتاة عمرها يقارب عمر ابنتها: أي أن الجد سيتزوج بفتاة في سن حفيدته. ثمة شيء لا يستقيم في المعادلة، وما سجلته عن تفاصيل علاقة الفتاة الفليبينية، واسمها جيرلي، بوالدها أسس لموقف منحاز ضمناً اليها. لم تكن الصبية تخدمه كزوجة عادية كما تفعل الكنديات مع أزواجهن، فالعلاقة القائمة بينهما هي أقرب الى العلاقة بين سيد وخادمه. كانت تلبي كل طلباته وتوفر له كل أسباب الراحة المنزلية دون أن يتحرك من مكانه قيد أنملة. في المقابل كان يوحي لابنته بأنه عاشق يعيش تجربة حب مع فتاة تصغره، ما وضعها في حيرة من أمرها لأنها وفي هذة الحالة لا يحق لها الحكم على العلاقة من منظور شخصي أناني لا يريد السعادة لأقرب الناس اليه. على هذا المنوال، أي تأسيس الموقف وهدمه سيشتغل المتن الحكائي طيلة الفيلم، ما يجعل الحيرة والتعقيد أهم علامات مساره الدارمي الملتبس والشديد التغيُّر.
للتوغل في دهاليز الجانب الثاني قررت أبريل زيارة عائلة جيرلي ومن خلال لقاءاتها بهم تعرفت على جانب نفسي تكوَّن من خلال إرث استعماري يمجد اللون الأبيض وتفوقه العرقي لدرجة عبرت فيها والدتها عن سعادتها بإرتباط ابنتهم برجل غربي أبيض، لأنه سيكون عندها مستقبلاً أحفاد زرق العيون! هل كان هذا هو السبب الوحيد لترحيبهم بوالدها بينهم؟ ستكتشف من خلال بحثها عن الإجابة أن والدها كان يغدق على ابنتهم الأكاذيب والوعود ويقدم نفسه لها كرجل أعمال غني في حين أن وضعه الحقيقي أقل من عادي. فهو متقاعد بسيط بالكاد يستطيع تدبير مستلزمات عيشه في بلده. لدى حضورها حفلاً لمجموعة من الغربيين وجلّهم من كبار السن ستسمع حقائق عن ممارساتهم وطريقة عيشهم المبنية على أكاذيب ومحاولات تفريغ عقد نفسية تراكمت في أوطانهم يريدون هنا التخلص منها بفضل مبالغ من المال يأتون بها أو وعود كبيرة يوزعونها على أبناء البلد الفقير لا يحققونها في الغالب.

العجوز والحسناء

لم تستطع بعدها المصورة السكوت فقررت مفاتحة والدها بما عرفته وسمعته بنفسها ليدخل الوثائقي فصلاً جديداً عنوانه: المواجهة والبوح النفسي، ومن خلاله سيتكشف لها وجهاً أو شخصية جديدة لوالدها لم تعرفها من قبل. كانت تختلج دواخل دالي كراهية لمكانه الأول ولا ينفك من محاولاته للتخلص من ماضي العائلة الأليم ومن ذكريات موت زوجته وكتعبير عن الحرمان النفسي والجسدي لم يكن يتردد في الذهاب بعيداً لأشباع رغباته الجنسية والكذب دون ملل مع مزيد من الوعود الوهمية مثل وعده لزوجته المقبلة بالعودة سوية الى كندا لأكمال دراستها هناك. من أين له الإمكانية لدفع تكاليف تعليمها وكيف يوفر له ولها ضمانات عيش حياة سوية بدخله الشهري البسيط؟ أسئلة أحالت أبريل للذهاب الى الصبية التي لم تخف خطتها المبُيتة في السفر والتعلم على حسابه مقابل ما تقدمه له. هنا بدأ الإنحياز الأنثوي بالتراجع ليحل بدله سؤال عن أي من الطرفين يستغل الآخر؟
في مراحل طويلة من الشريط النفسي نستمع الى مونولوجات داخلية تبوح من خلالها الكندية ��مشاعرها وخيبة أملها في التعرف على ذاك الأب الذي عرفته، أو الذي تمنت أن تجده كما ترسخ في ذهنها من قبل. لكن الأمنيات غالباً ما تصطدم بالواقع الذي، يفضح الخفايا والأسرار النفسية وحتى أحلام الكائن المشروعة ويضعها على المحك. فأحلام الشابة الفيلبينية في العيش في بيت كبير والسباحة في حوض أزرق الأرضية مثل البحر والتنقل بسيارة فارهة كلها وجدت تحقيقها ممكناً في الارتباط بالرجل العجور. والعجوز يريد استعادة شبابه وراحة باله ليتخلص من وحدته المخيفة التي يكرس وقتاً جيداً للحديث عن آثارها النفسية القاسية، من خلال شابة عمرها 21 عاماً. هل كان عمرها 21 حقاً؟ سيُنشط السؤال الوثائقي ليتحمل أعباء رحلة جديدة الى أندونيسيا التي ادعى الأب أنه يريد قضاء شهر العسل فيها. سيتضح أن الأمر كله خدعة، تعاون أهل الفتاة جيرلي معه من أجل التستر على سر لم تعرفه المصورة  إلا بعد حين. لقد ظهر أن الشابة قاصر وانها لم تبلغ سن الرشد بعد وقانون دولتها يحرم زواجها في هذا العمر في حين تتساهل أندونسيا مع الوافدين من الخارج اليها وتسمح لهم بتسجيل عقود زواجهم دون تدقيق كبير. لقد إلتبس الأمر على أبريل وبتأثير الصدمة لم تعد تميز جيداً بين الطرفين، المتفاهمين على استغلال كل منها للآخر في سلوك لم تتحمله لأنه يشكل بالنسبة اليها خرقاً للقيم الأخلاقية وكذباً صارخاً لطرفين يستثمران حاجات كل منهما بطريقة ترضي رغباتهما الأنانية وتحط من قيمتهما كبشر لهم الحق في العيش بسوية ولكن ليس بالطريقة التي عرفتها من خلال تجربة والدها الذي بدا لها كائناً بعشرات الوجوه وبدواخل نفسية غاية في التعقيد والألتباس، وجدت خير طريقة للتخلص منها بالعودة الى بلدها وترك حياتها تأخذ مجراها الطبيعي بعيداً عن “الشخصيات” التي تعرفت عليها متأخرة!.


إعلان