إيطاليا في يوم”: آمال وأحلام وإحباطات”

أمير العمري

من الأفلام الوثائقية الجديدة المتميزة التي عرضت (خارج المسابقة) في الدورة الـ 71 من مهرجان فينيسيا (البندقية) الفيلم الإيطالي “إيطاليا في يوم” Italy in a Day للمخرج جابرييل سلفاتوريس Gabriele Salvatores، وهو المخرج الذي حصل على جائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي عام 1991 عن فيلمه “المتوسطي” Mediterraneo.

المخرج جابرييل سلفاتوريس

سلفاتوريس من مواليد نابولي عام 1950، وقد انتقل الى ميلانو حيث حصل على دبلوم الفنون الدرامية من مسرح بيكولو. وفي 1972 شارك مع آخرين، في تأسيس فرقة مسرح الفو Elfo التي أصبحت خلال سنوات محدودة مرجعا أساسيا لأجيال من مشاهدي المسرح. وقد أخرج نحو 21 مسرحية في الفترة من 1970 إلى 1980. شاهد نحو 200 ألف متفرج إخراجه لمسرحية شكسبير الشهيرة “حلم منتصف ليلة صيف” في قالب موسيقي عام 1981، التي استخدم فيها موسيقى الروك. وفي العام التالي أخرجها للسينما في أول أفلامه الروائية. وأسس مع زميلين له شركة انتاج سينمائي عام 1986 هي شركة كولورادو في ميلانو التي أنتجت الفيلم الروائي الثاني لسفاتوريس ومن هنا انطلق ليخرج 17 فيلما طويلا أحدثها هو الفيلم الوثائقي “إيطاليا في يوم”.
تقوم فكرة هذا الفيلم على جمع مواد مصورة من أناس عاديين في ربوع إيطاليا من خلال نشر إعلانات تطلب أن يسجل كل من يرغب، شهادته فيما يرى عن بلاده، ما يريده لها ومنها وما يراه فيها من عيوب أو مزايا، على أن تتم جميع التسجيلات التي يمكن استخدام كاميرا الفيديو في تصويرها أو كاميرا التليفون المحمول أو غيرها، خلال يوم واحد فقط هو الـ 26 من أكتوبر 2013، من منتصف الليل الى منتصف الليل التالي.
وقد تلقى المخرج وفريقه 44 ألف و197 شريط فيديو أي ما يوازي 2200 ساعة من المادة المصورة التي عكف فريق من 40 تقنيا على عمل المونتاج لها وربطها ببعضها من خلال شكل فني جذاب في ايقاع سريع، وباستخدام موسيقى ذات طابع مرح. وجميع الأشخاص الذين يظهرون في الفيلم قاموا بتصوير أنفسهم، باستثناء السجناء الذين تم تصويرهم بواسطة كاميرات تم ترتيب دخولها الى السجون!
ويعتبر الفيلم تجربة وثائقية غير مسبوقة، تهدف.. ليس فقط الى توثيق الجانب الاجتماعي وهموم المواطنين في ايطاليا، بل وتقديم صورة مكثفة تفيض بالمشاعر لأفكار الإيطاليين، كيف ينظرون الى الماضي والحاضر والمستقبل، ما يتوقون إليه، وما يشعرون بالاحباط تجاهه، ما يسعدهم في بلدهم، وما يصيبهم بالاكتئاب. هنا يصبح الفيلم تسجيلا دراميا للسيكولوجيا الجماعية، التي تكف عن مشاعر الغضب والحزن والفرح والهموم الشخصية والنقد والرفض والتمرد والمرح والسخرية، دون أي تدخل من جانب المخرج وفريقه، أي دون أي اضافات تشرح وتحلل وتعقلن، بل تركت الحرية للجميع للتعبير عن أنفسهم. هنا فقد أصبح الفيلم دليلا عمليا على قوة الصورة وقوة الشهادة المصورة، كما أصبح تجربة فريدة في صنع فيلم جماعي يشترك فيه الجمهور مع السينمائي صانع الفيلم، بل إن المخرج كان يتلقى أيضا الكثير من الاقتراحات الخاصة بشكل الفيلم وسياقه الفني، وكان يستجيب للكثير من تلك المقترحات.
عمليا انتهى المخرج إلى استخدام 627 وثيقة مصورة لإيطاليين يعيشون في مدن مختلفة، من ميلانو الى نابولي الى روما، تتراوح أعمارهم من بضعة أشهر الى ما فوق المائة عام. وقد تأثر المخرج في فيلمه هذا بالتجربة التي قام بها كيفن ماكدونالد والتي بثها من خلال شبكة “يوتيوب” على الانترنت تحت عنوان “يوم في حياة”.

ملصق فيلم “إيطاليا في يوم”

ويشمل فيلم “إيطاليا في يوم” صورا للايطاليين الذين يظهرون فيه من جميع مناحي الحياة، من غرف النوم إلى صالات الرقص، ومن المستشفيات إلى الحمامات العامة، ومن السجون إلى المدارس والملاعب.. وهكذا.
ورغم وجود جرعة كبيرة من المرح والسخرية من ولع الايطاليين بالطعام والكلام مثلا، إلا أن في الفيلم أيضا الكثير من لحظات التأمل التي تعكس شعورا بالقلق من المستقبل في ظل الأزمة الاقتصادية التي تلقي بظلالها حاليا على المجتمع، ولكن دون أن يتخلى الجميع عن أحلامهم وآمالهم رغم بعض الشكوك التي تنتابهم أحيانا فيما يتعلق بالهوية الوطنية وقيمتها.
في المؤتمر الصحفي الذي عقده المخرج على هامش مهرجان فينيسيا وصف فيلمه بأنه “تحليل نفساني جماعي”.. أي تحليل للسيكولوجيا الجماعية للايطاليين من خلال تلك العينات التي تظهر فيه وتعبر بتلقائية ودون أي قيود، أمام الكاميرا.. كاميراتهم الخاصة وفي ظروف تصوير من اختيارهم.
يقول المخرج في البيان الصحفي الذي قدم به فيلمه: “إنني لا أؤمن بالديمقراطية المباشرة، ولا أعتقد أن الجمهور دائما على حق، كما لا أعتقد أن الحصول على جيتار كفيل بأن يجعل من حصل عليه عازفا موسيقيا. ولهذا وجدت أن هذه التجربة يمكن تحقيقها فقط بفضل وسائل الاتصال المتوفرة اليوم، وجعلها مثيرة وممتعة وتعليمية. لقد أرسل الي آلاف الأشخاص “رسائلهم في زجاجات”. وكان الأمر يتطلب الاحترام والانتباه جيدا لما فيها. ولكنني كنت أيضا أدرك حدود دوري. إنك تروي قصتك الشخصية ولكن من خلال كلمات أناس آخرين. واليوم بعد أن أصبحنا محاطين بكل أنواع الصور.. أليست عملية المونتاج التي تصوغ لنا سياقا فنيا هي روح السينما؟”.
ولعل من أمتع لحظات مشاهدة الفيلم عند عرضه في مهرجان فينيسيا في قاعة مليئة عن آخرها بجمهور غالبيته من الإيطاليين، مشاهدة رد فعل الجمهور على ما يشاهدونه، وهو ما يمكن اعتباره جزءا أساسيا في تجربة صنع الفيلم نفسه، فأنت لا تشاهد نفسك في الفيلم فقط، أو تشاهد “الآخر”، بل تشاهد المتفرج وكيف يتفرج على أبناء جلدته أيضا، ينفعل ويضحك ويسخر ويرفض ويحتج، ولكنه يبدو متآلفا تماما مع الصور التي يراها، مستجيبا بحبٍ لما يشاهده. وهذا دون شك، جانب أساسي في نجاج تلك التجربة الوثائقية الفريدة.
وقد تم التعاقد على بيع فيلم “إيطاليا في يوم” وعرضه عبر عشرات القنوات التليفزيونية، والآن تعتزم الشركة التي أنتجته عمل فيلم آخر مشابه عن ألمانيا وفرنسا وإسرائيل. لننتظر ونرى!


إعلان