قيس قاسم
في الرابع والعشرين من أبريل العام الماضي، انهارت بناية مؤلفة من ثمانية طوابق في مدينة شافار البنغلاديشية، وتحت أنقاضها دُفن أكثر من ألف عامل وعاملة خياطة. حجم الخسارة في الأرواح وضعها بين أسوأ كوارث العمل خلال أكثر من قرن، والوثائقي البريطاني “ملابس الموت من أجلها” اعتبرها جريمة بحق فقراء أبرياء لا بد من كشف ملابساتها على المَلأ، كاملة وبأهمية تذكير العالم بأن المُتسبّبين فيها كانوا على دراية كاملة بما ينتظر عمال البناية المتداعية والآيلة للسقوط من مصير.
أرادته مخرجته وثائقياً يسرد تفاصيل الفاجعة على لسان الضحايا ومن خلال شهادات الذين عايشوها وعرفوا تفاصيلها والتي توحي كلها بأن هناك حاجة لتحريكها ثانية لا من أجل كشف الحقيقة فحسب بل من أجل رفع صوت الذين لا صوت لهم في ظل انتشار الفساد وغلبة روح الجشع عند المتنفذين من أغنياء البلاد، التي تُعدّ من بين الأفقر في العالم ولكن إقبال الشركات الغربية لصناعة الملابس والموضة على معامل الخياطة، الرخيصة التكلفة، فيها خلال الثمانينات من القرن الماضي، حَسنَ من اقتصادها نسبياً وفتح المجال أمام العمالة المحلية وبخاصة النساء منها، بشكل لم يسبق له مثيل.
يفرش الوثائقي، مثل فنان تشيكلي يرسم لوحته، هذة الحقيقة على أرضيته ليؤسس عليها متنه الحكائي والدرامي عبر تسجيلات تُظهر حجم الاستهلاك المتصاعد للملابس في الدول الغربية وانخفاض أسعارها بالنسبة إلى دخول مواطنيها وبين عاملات بنغلاديشيات يفضن طيبة يحكين عن تجاربهن في العمل وكيف تركت أغلبيتهن القرى واقامتهن في مدينة شافار بعد حصولهن على فرصة عمل كخياطات مقابل أجور زهيدة ولكن بالنسبة لأوضاعهن في القرى يعد جيداً ويساعد على تحسين أحوالهن لهذا أقبلن بحماس وإخلاص على العمل المرهق الذي كان يستنزف كل طاقتهن، ومع هذا كن قابلات به وشاكرات للنعمة التي هن عليها.
صورتان لعالمين مختلفين، جمعتهما المخرجة زارا هيز في عبارة قالتها لها إحدى العاملات، ربما لوحدها تكفي لتُلخّص مضمون الصورتين:”نحن نخيط هذه الملابس الحلوة ولكن لا يمكننا ارتداءها، ربما النساء هناك جميلات وهذه القطع التي نخيطها تلائم أجسادهن”.
البحث عن الضحايا
إلى جوار الصورتين أعاد الوثائقي حقائق تتعلق بحالة السوق المزدهرة والتي تغوي أصحاب رأسمال المال والمتنفذين من ساسة وغيرهم لدخوله فالخمسة عشر مليار دولار (تدخل إلى البلاد كل عام بفضل سوق الخياطة) تغوي طمع الطامعين ومن بينهم سوهيل رانا الذي أراد أخذ قطعة كبيرة من الكعكة.
رانا نموذج لسياسي البلدان الفقيرة والذين يجمعون عادة بين احتراف السياسة وربح المال والفساد. باع الكثير من أراضيه واشترى بها معامل خياطة وبسبب تولّيه مسؤولية المنظمة الشبابية لأكبر حزب في البلاد استطاع الحصول على الموافقات الرسمية لفتحها دون مشاكل. كان يحيط نفسه بمجموعة “شقاوات” تخيف الناس ولا يجرؤ أحد من عمال مصانعه على الإعتراض.
سيدفعه طموحه والأموال التي صارت تسيل بين يديه إلى فتح معمل جديد للخياطة وسيُطلق عليه اسمه: “رانا بلازا” كان ذلك عام 2009 وكان المبنى الذي شُيّد بخمس طوابق، يحتوى على عدد كبير من ماكنات الخياطة والمحولات الكهربائة ويعمل داخله آلاف من العمال.
بعد مدة وبعد الطلب المتزايد على معامل البلاد ومنها معامله قرر توسيع مبناه وإضافة ثلاثة طوابق جديدة حصل على تصاريح بنائها بسهولة. لم يُراعِ طبعاً مواصفات الأمان المطلوبة كمخارج الطواريء وغيرها، مثلما لم يراع قوانين العمل كعدم تشغيل الأطفال والالتزام ب8 ساعات عمل، من جانبهم غضّ أصحاب الشركات الأجنبية الطرف عن شروطهم للتعاون مع الشركات المحلية لأن هدفهم كان تحقيق الأرباح قبل سلامة الفقراء. لقد تعاون رأس المال الأجنبي والمحلي على العمال الذين كان عليهم تلبية الطلبات وإلا فالطرد سيكون مصيرهم.
بهذه الصورة المُشكّلة بعناية والمُلمّة بمسؤولية كل الأطراف المشاركة في معادلة الانهيار المريع، سيصل الوثائقي إلى اللحظات التي تسبق الفاجعة، والتي لعبت الصحافة المحلية دوراً مهماً في التنبيه مبكراً لها ما يسجل لبعض العاملين فيها ويسلط بدوره الضوء على واقع حريات التعبير في بلدان تدعي “الديمقراطية الآسيوية” وفي مضامينها الكثير من العيوب كما يتجلى في الوثائقي الرائع.
المخرجة زارا هيز
من الخوف الذي اعتراهم، بعد انتشار خبر ظهور شقوق في حيطان البناية وتصدعات في سقوفها، وكتابة وسائل الاعلام عن احتمال انهيارها إلى اللحظة التي أجبروا فيها بالعودة إلى أعمالهم يغطي الوثائقي تلك المساحة بالحديث مع الخياطين عن قلقهم وحيرتهم بين مغامرة الذهاب إلى المكان الذي ما عاد آمناً وبين احتياجهم لمصدر رزقهم من أجل إعالة عوائلهم، بعدما أوَصَل إليهم رجالات السياسي ورجل الأعمال الفاسد رسالة واضحة: “إما العودة أو الطرد.” ولأن الحدث تزامن مع اقتراب استلامهم أجورهم الشهرية والخشية من ضياعها كما هدد محاسبو الشركة بذلك فقد قرر عدد كبير منهم الرجوع إلى المبنى/المقبرة. على المستوى الإعلامي ظهر رانا قبل يوم من الكارثة مرتبكاً لكنه أصرّ على سلامة البناية “وأنها قابلة للبقاء أكثر من مئة عام”.
بعد ساعات على كلامه وليس أعوام سيُقتل 1134 عاملاً. يعرض الوثائقي تفاصيل اللحظات التي شهدت سقوط البناية وكيف هرع الناس العاديين لإنقاذ بشر سحقوا تلك أحجارها. أما شهادات الناجين منها فليست أقلّ رعباً من المشهد المُقدّم بوضوح. وصفهم للّحظات التي عاشوها في رعب بين الموت والحياة تُظهر حجم المأساة الحقيقية وحجم الجريمة التي ارتكبت بتعمد وبدم بارد.
لهول ما حدث سارعت الشرطة للبحث عن المالك الذي حاول الهروب إلى الهند عبر الحدود لكنها نجحت في إلقاء القبض عليه. في عرضه لردود فعل الجهات الرسمية وشركات الملابس العالمية الكثير من الادانه لها. فالحكومة اكتفت بإلقاء القبض على المسؤول الأول عن الجريمة ولكنه لم يُقدّم إلى المحكمة حتى الآن، أما تعويضات الشركات العملاقة للضحايا وعوائلهم، فلم تُقدّمها إلا بضع شركات وضآلتها تدعو إلى السخرية منها.
في كل الأحوال لا الموتى استلموا التعويضات ولا المقابر عرفت كل المدفونيين فيها، فقد ظهر أن مئات منهم لم يتم التعرف عليهم لأن صغار السن منهم كانوا يتعمّدون تقديم معلومات شخصية خاطئة حتى يحصلوا على العمل ناهيك عن مجيء بعضهم من قرى لا يعرف أهاليهم شيئاً عن تفاصيل سفرهم ونوع العمل الذي يقومون به، ما أفرز حركة تضامن مع الضحايا قادها متطوعون إلى جانب عوائل خرجت مطالبة بمعرفة مصير أولادها وبناتها الذي مازال مجهولاً حتى اللحظة تحت التراب.
مشهد تراجيدي اشتغل على رسمه وثائقي يعرف كيف يجمع التفاصيل وكيف يقدم مرافعة محكمة في إدانة الجناة.