تقنين الديمقراطية
مروي صبري
أقول أننا بحاجة إلى حركة ديمقراطية لأننا بحاجة إلى ديمقراطية.”
من حوار “كاجا ريبين” الناشطة بحركة التحرك للإصلاح
هكذا بدأ دينيس ترينور جونيور فيلمه الوثائقيّ الدعائيّ وبلا مقدمات ألقي بالمشاهد في قلب الهدف أو بمعنى أدق، ألقى بالهدف في وجه المشاهد. فيلم تقنين الديمقراطيّة “Legalize Democracy” صدر في طليعة العام الحاليّ، 2014 ومدته تقترب من نصف الساعة.
![]() |
عنوان الفيلم الساخر يشبه الدعوات المعروفة في أمريكا باسم تقنين الحشيش “legalize marijuana”، حيث يحارب بعض الناشطين من أجل تقنينه للدواعي الطبية. فالعنوان يبين أنّ ممارسة الديمقراطية بمعناها الصحيح من حكم الشعب للشعب، مخالف للقانون الأمريكيّ ولابد من تقنينه. هذا الانتقاء للعنوان ولجملة البداية يحسب لترينور كمخرج صاحب رسالة. فهما إمّا محل قبول أو محل صدام وكلاهما جاذب للانتباه،مطلوب.
المتابع للأفلام الوثائقية الأمريكية يرى بوضوح تبلور كيان ثوريّ من خلال هذا الفن. فصناعة الأفلام الوثائقيّة صارت وسيلة شعبية لإيصال الرسائل التي تعجز أو تتغافل الوسائل الإعلامية الرئيسية عن إيصالها. نعم. فحتى في أمريكا بلد حرية التعبير لا يمكن الاعتماد على وسائل الإعلام الرئيسية في إيصال صوت المعارضة. وهنا تتجلى أهميّة الأفلام الوثائقيّة. كل ما تحتاجه، تكاليف متواضعة ومحتوى ثريّ. ومع هذا الإيمان برسالة الفيلم إلا أنّه لا يرقى بأي حال إلى حد المنافسة في الإخراج أو العرض إنّما تنبعث أهميته من أن تمويله خارج من جيب الشعب الأمريكيّ أو ما يسمى بالحركات الشعبية grassroots movements . بدأت تلك الحركات في الانتشار في الولايات المتحدة بتنسيق برزت ملامحه وكان من نتاجه دعوة “احتلال وول ستريت” الشهيرة.
الفيلم يرّسخ مباديء ديمقراطية رئيسية تظهر عناوينها على لوحة لخارطة الولايات المتحدة ثمّ يتبعها لقاءات توضح غياب هذه المباديء وأسباب المطالبة بها مزوجها المخرج بمقاطع لوقفات واعتصامات شعبية من ولايات مختلفة.
المبدأ الأول
“يمكن أن يكون لدينا ديمقراطية في هذا البلد، أو أن يكون لدينا ثروة عظيمة متمركزة في أيدي البعض، لكن لا يمكن أن نملك الإثنان.” ( لويس د. برانديس، قاضي المحكمة العليا، 1916-1939)
وبهذا حدد ترينور المحور الأول في حوار الضيوف وهو عن الشركات وتضخم سلطتها في الولايات المتحدة الأمريكية مما يتناقض مع الديمقراطيّة. وليتفهم المشاهد مدى سيطرة تلك الشركات على مناحي الحياة فقد استضاف ترينور أربعة أعضاء في الحركة فتحدث الأول، ديفيد كاب عن صورية العملية الديمقراطية في أمريكا وإن كان الشعب يذهب لصناديق الانتخاب كل عامين لأربعة أعوام لكن تصويته يكون على أحد إثنين سبق انتقائهما من قبل النخبة الحاكمة. اللقاء الثاني مع فارايداي جورج، وتحدثت عن الرعاية الطبية وأنّ توفيرها من الأولويات ولا يجب أن تتربح منها شركات الأدوية. اللقاء الثالث مع دانيال لي، وتحدث عن السجون وخصخصتها. فمنها ما هو ملك للقطاع الخاص ويشترط أن لا تقل نسبة إشغالها عن 90% مما علق تجريم الأمريكيين بالربح. وختم ترينور المحطة الأولى بحديث آشلي ساندارز والتي روت كيف تتحكم الشركات حياتها اليومية. فهي تتنفس غازات صناعاتهم وتشتري الأطعمة التي حددوا لها سعرها والتي عادة ما تكون سيئة لصحتها أو تحوي سمومًا. ثمّ تذهب لاجتماعها بالمواصلات التي تسمح لها بها الشركات الكبرى ثمّ يتخذون في الاجتماع قرارات لا تخرج عن الحيّز الذي تسمح به الشركات الكبرى. وفي طريق العودة تحاصرها لوحات الدعاية التي تخبرها كيف تتلائم مع المجتمع وما يجب عليها ارتداءه.
ترتيب اللقاءات على هذا النحو خاطب عقليات أمريكية متباينة فلابد لأي مواطن أمريكيّ أن يهتم بأحدهم مما يبين حرص ترينور على تفويت فرصة تجاهل الرسالة. ولكي يكسر الملل فقد تخلل اللقاءات مقاطع من خطابات حماسية سجلت من وقفات للحركة كما صحب اللقاءات مشاهد لدخان المصانع والمستشفيات والمحال التجارية لدعم حديث الضيوف.
المبدأ الثاني: “من الممكن قراءة تاريخ هذا البلد كصراع طويل لمد الحرية المرسخة في دستورنا لتصل لكل فرد في أمريكا.”
مولي إيفينز
![]() |
ينتقل الفيلم لمجموعة أحكام قضائية رفعت الشركات إلى مستوى الأفراد من حيث الحماية أمام القانون. كان من الطبيعيّ بعد ذلك أن تتغلب الشركات بما لديها من قوة مال حتى وتدريجيًا قلصت سلطة الشعب وأفردت سلطة الشركات. كان من تداعيات هذا أيضًا أن تساوت الأعمال المحلية الصغيرة والشركات العملاقة متعددة الأفرع حتى لو كان عملهم ضار بالعمال أو
البيئة أو المجتمع المحلي وحتى لو كان عندهم سوابق في مخالفة القانون.
يتخلل اللقاءات دعاية لحركة “التحرك للإصلاح”، على لسان أحد الأعضاء ككونها الحركة الوحيدة التي تملك خطة واضحة لما يجب فعله. فهيّ -بحسب كلام الضيف- تتبنى أن الشركات ليست أشخاصًا وأنّ المال ليس خطابًا.
المبدأ الثالث: “إنّ روح الديمقراطية ليست شيئًا ميكانيكيًا يمكن تعديله بإلغاء أو تشكيل، إنما يتطلب تغيير من القلب.”
مهاتما غاندي
الآن نلاحظ أنّ المبدأ الأول ماخوذ من قاض أمريكيّ. والمبدأ الثاني مأخوذ من صحافية أمريكية أمّا المبدأ الثالث فمن مهاتما غاندي الهنديّ وهو الشخص الوحيد الغير أمريكيّ الذي يظهر اسمه. فهل يعني ترينور من ذلك أنّ الديمقراطية رسالة عالمية أم أنّه يستحضر روح الكفاح من أجلها والتي يعد غاندي رمزًا لها؟
تحت هذا المبدأ كرّس ترينور أدواته الفنيّة لإقناع المشاهد بالاشتراك في الحركة، فسرّعت الموسيقى التصويرية وتلاحقت اللقاءات والوجوه وتغيرت الصور لتزداد روح الحماسة والتأثير العاطفي، توالت اللوحات تعرض وقائع من التاريخ الأمريكي لحريات اكتسبها المواطنون بالمطالبة بها.
دينيس ترينور جونيور كمخرج
![]() |
المتتبع لتاريخ ترينور يجد اسمه يتردد في عشرات الأفلام واللقاءات والبرامج لكنّه لم يصل إلى الشهرة بعد. ربما يرجع ذلك لعدم تخصصه بل نراه يرتدي قبعات عدة. فله محاولات في إخراج فيديوهات يتحدث فيها عن قناعاته السياسية صورها وأخرجها بنفسه، وكثير منها كان في مستوى الهواة من حيث الإمكانات والصوت ومواقع الكاميرا. المؤكد أنّ تملكه لأدواته الفنية يتطور بشكل ملحوظ ويعد الفيلم الذي بين أيدينا مثال واضح على هذا التطور لكن ما زال أمامه المزيد. فنلاحظ أنّه في بعض الحوارات بالغ في تغيير زاوية الكاميرا من اليمين إلى الشمال إلى الواجهة ثمّ يكرر ما سبق في حوار يقل عن الدقيقة بلا مبرر فنيّ ظاهر. فاستعانته بلقطات مصاحبة للحوارات كاف لدفع الملل.
أفلام ترينور تتميّز بقصرها فالفكرة بالنسبة له واضحة وقضيته واحدة. فقد أخرج، “الطبقة الحاكمة هي العدو” ولم يتعد ستة دقائق ونصف وقام فيه بالرواية أيضًا. ويبدو أنّ عمله كمذيع صعّب عليه الابتعاد عن العدسة أو على الأقل عن المايكروفون إلا أنّه ترك مجال كبير في تقنين الديمقراطية للأحداث وللضيوف ليوصلوا الرسالة.
ضيوف الفيلم
نوّع ترينور في اختيار المتحدثين من حيث الفئة العمرية ومن حيث اللون والجنس والطبقة الاجتماعية ومحل الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية. تميز ضيوفه باللباقة والثقافة والوعيّ ويظهر ذلك في لغة الحوار وفي جلستهم للحديث. فالزوايا تباينت وتوحد هدف الخطاب وبدت على جميعهم الثقة في أنّ هذه الحركة ستنجح في تحجيم سيطرة الشركات والأموال على السياسة الأمريكية.
لكن هذا التوحد في وجهات النظر محرج كون الفيلم وثائقيًا. فالفيلم الوثائقيّ يزداد صلابة بشرح وجهات النظر المتباينة ولو من خلال ضيف أو إثنان لكن تقنين الديمقراطية على الرغم من توثيقه لتاريخ الصراع من أجل الحريات في أمريكا عن طريق القضاء تارة وعن طريق الشارع تارات إلا أنّه تغافل عن أي أي رؤية مغايرة لرؤية الحركة. فلم يحاول ترينور أن يفصل بين توثيق تاريخ القضية وبين الدعوة للانضمام لحركة التحرك للإصلاح دون غيرها. بل قدمها على أنّها السبيل الأوحد للإصلاح. وبهذا فإنّ ترينور يوجه حديثه خاصة لجمهور يتفق معه في الرؤية مما قد يصد من يختلف معه إذ لم يدع مجال للاختلاف.
الخلفية الموسيقيّة
![]() |
غاير ترينور في استخدام الإيقاع ما بين صمت تام وبين إيقاع بطيء يسّرع في الأوقات الحماسية. وعلى الرغم من حسن
اختيار السرعات إلا أنّ اختيار اللحن في مجمله كان من نقاط ضعف الفيلم. فالإيقاع متكرر إلى حد الرتابة بل والإزعاج وهو بطيء، وحين يسرّع يعلو فوق صوت الراوي.
انتهى الفيلم ونزل “تيتر” النهاية مع أغنية خاصة بالحركة على موسيقى كانتري country”” أمريكية خالصة مع كلمات عن مشكلات أمريكية معاصرة محلية ودولية اجتماعية وسياسية واقتصادية وكلما عرضت مشكلة خلص المغني إلى أنّ الحل في حركة “Move to Amend” أو التحرك للإصلاح. مما يؤكد انتماء الفيلم إلى ما يمكن تسميته وثائقيّ دعائيّ.
الأفلام الوثائقيّة التي تخرجها وتنتجها مثل هذه الحركات الشعبية هي بمثابة قطرات المياه التي تتجمع لتهد الجسور أو تنّمي الأشجار. فكل منها ضعيف على حدا لكنّها تطمح أن يقوي بعضها بعضًا وأهم ما يميزها هو التعاون فيما بينها. فحركة التحرك للإصلاح تجمع تحت مظلتها مئات المنظمات ومئات الآلاف من الأعضاء ويزداد العدد تباعًا. مع ذلك فمثلهم مثل أي معارضة لديها قصور في الوصول لعامة الشعب. فتقنين الديمقراطية رغم توفره بالمجان على يوتيوب إلا أنّ عدد مشاهداته لم تقترب من العشرة آلاف مشاهدة فقط منذ صدور الفيلم في يناير وحتى شهر يوليو، تموز 2014.
هل ستنجح هذه الوسيلة الفنيّة في نشر رسالة المعارضة؟
ربما لا تنجح وحدها بهذا العدد البسيط من المشاهدات لكنّها حلقة في سلسلة محاولات تستحق المتابعة. فإذا ما تطورت الأحوال السياسية داخل الولايات المتحدة لصالح المعارضة فسيذكرها التاريخ حتمًا.