فهود الضواحي

قيس قاسم

من المؤكد أن تزامن عرضه مع الانتخابات البرلمانية السويدية قد منحه دفعه قوية، كونه يناقش قضية اجتماعية تتعلق بحياة المهاجرين في أطراف المدن الكبيرة والمقيمين في ضواحيها، لكن المفارقة، والحديث مازال خارج السينما، أن نتائج الانتخابات جاءت لصالح اليمين والمعادين للأغراب، ما سيدفع النظر إلى فيلم “فهود الضواحي” باعتباره نصاً وثائقياً يحمل مضامين تنشد عرض رؤية أصحابه إلى الحراك الاجتماعي المتغير في البلاد والذي من علاماته سيطرة القوى اليمينية المتشددة على مساحات واسعة من المشهد السياسي في بلد لم يعرف لهم حضوراً بهذة القوة من قبل، ما يثير مخاوف من ارتفاع المزاج الاجتماعي نحو عدائية أكبر للمهاجرين وهنا تأتي السينما لتقدم أفكارها بوصفها جزءاً من النشاط الإبداعي والفكري، وينبغي النظر إلى “فهود الضواحي” أيضاً، كجزء من المشهد العام الذي يدفع السينما إلى توثيقه والبحث عن الكامن تحت سطحه.
خلال أكثر من ثلاث سنوات لاحق المخرجان أنديش روندبيرغ وليو بالمَستول أعضاء حركة “فهود الضواحي” السلمية التي انطلقت من ضاحية بيسكوبغوردين في بلدية غوتنبرغ السويدية، واتخذاها إطاراً لفيلمهما، الذي قَدَم، بأسلوب أخاذ، مقطعاً عريضاً من حياة المهاجرين في السويد، قد تضعه بين أهم الأفلام التي تتناول الظواهر الاجتماعية بأسلوب سينمائي شديد البساطة إلى درجة يعتقد كل من يشاهده أن بإمكانه إنجاز مثيل له فقط لو توفرت له نفس الإمكانيات التقنية. الأسلوب نفسه سيقودنا إلى مناقشة الكلام الذي يردده كثر حول “السهولة” الشديدة التي صارت عليها صناعة الفيلم الوثائقي اليوم بفضل تطور التقنيات الخاصة بصناعة “الفيديو” وتفاصيله، لكن نظرة أكثر عمقاً ل”فهود الضواحي” تُبيّن خذلان هذا الرأي المتداول “بسهولة” ودون تمحيص، وبدلاً عنه ينبغي التفكير في القدرة المدهشة عند بعض السينمائيين لتحويل موضوع عادي من صلب الحياة اليومية إلى موضوع سينمائي سجالي في إطار يستوفي كل شروط صناعة الفيلم.

شخصياته الرئيسة هم أعضاء في المنظمة وأغلبيتهم من المهاجرين، وتسجيل تفاصيل نشاطهم فيها يعطي بعداً أكثر شمولية لمشكلة تتفاقم يومياً في الدول الغربية عنوانها: المهاجرون ومدنهم المعزولة، وتحت يافطتها يكمن الكثير من الصراع الجاري بين قوى تريد تحقيق مصالح سياسية على حساب تخويف الناس منهم (بشكل خاص المسلمين منهم) وبين أخرى تنشد العيش بسلام مع المجتمع وتشعر بأنها جزء منه لكنها تعاني من عزل سكاني وتهميش ولهذا تحاول إيجاد حلول لها بأشكال مختلفة وبطرق تعبير شديدة التفاوت أحياناً. ينطلق “فهود الضواحي” لعرض الحالة العامة، الأكبر، من حالة أصغر! على مطلب محدد لشبابها بفتح مركز لقضاء أوقات الفراغ، في منطقتهم، يحيك نسيجه الدرامي، ويمضي في مشوار طويل (3 سنوات وأكثر) في ملاحقة نتائج المطلب العادي والمشروع لشباب لا يريدون أن يقضوا جل وقتهم في الشوارع وفي ساحة المنطقة التي غالباً ما تكون مصدراً لزج بعضهم في مشاكل وقد تجرّ قسماً آخر إلى عصابات المخدرات وتناولها، وبدلاً من تضامن سياسي المنطقة الواسعة نرى التردد والمماطلة من جانبهم إلى درجة سنفهم معها لماذا تأسست هذه المنظمة أصلاً ولماذا حظيت بقبول معقول بين المهاجرين.

 

بهذا المعنى شريط  أنديش روندبيرغ وليو بالمَستول ليس عن المنظمة نفسها بل عن الدوافع التي تؤدي إلى التفكير بأخذ المطالب عن طريق ذاتي، وفي إطار شرعي، ما يعطي للحركة مصداقية وينقل الفيلم من طبيعة دعائية إلى بحث إشكالي في العلاقة المتناقضة بين المهاجرين والجهات الرسمية البيروقراطية والتي تعبر عن قلة تعاطف السياسيين المحليين مع أولئك المهاجرين ومطالبهم. في كل خطوة وتحرك لأعضاء المنظمة الشبابية يرفق الشريط صوتاً خارجياً مؤثراً من الموقع نفسه، ليعطي إحساساً بالقلق المصاحب لها، كأن نسمع صوت طائرة هليكوبتر أثناء تجمعهم أو صفارات إنذار سيارات الشرطة ما يؤكد مخاوف جاهزة وأحكاماً مسبقة بأن أولئك الشباب هم من المجرمين والمتطرفين وكلمات أحد منظمي مظاهرة مطلبية تكثف التعبير الدرامي الداخلي المصنوع بحذر ودقة بارعة “متطرفون؟ هل نحن حقاً متطرفون لأننا نظمنا معسكراً ترفيهياً لثلاثين شاباً وشكلنا فريقاً لكرة قدم أو لأننا نطالب بفتح مركز لقضاء أوقات الفراغ؟” أسئلة سيتابع بصبر الوثائقي ليعرف كيف يستقبلها الطرف الثاني الغائب طيلة الوقت عن الصورة! ليس بإرادة مصور الشريط بل لأنه لا يظهر إلا لماماً يقول كلاماً غامضاً يعَد ولا ينفذ.  طرف مؤثر في المعادلة يجر العربة إلى الخلف فيما الشباب يتلظى بنيران الواقع الضاغط. فبين فترة وأخرى يموت أحد شباب المنطقة في حوادث لها صلة بالعصابات المنظمة التي تستغل الحالة التي عليها الصغار لمصالحها الإجرامية فيما تستغلها وسائل الاعلام لتشويه صورة مدن الأطراف وتقدمها لمتلقيها وكأنها بؤر تهد المجتمع ومستقبله الآمن.

يسجل “فهود الضواحي” التنازع الشديد بين الأعضاء أنفسهم ومكر السياسيين الذين يتدخلون بقدر قليل محسوب يكفي لإثارة الفتن فيما بينهم، وعلى مستوى آخر يؤشر إلى الوعي المتنامي عند شبيبة هذة المناطق بضرورة التماسك وعدم الانجرار إلى العنف أو التطرف حتى يقطعوا الطريق على اليمين وعلى من يريد إبقائهم في عزلة مؤذية، أبدية. سندخل عبر كاميراته إلى المدارس وإلى بيوت الناس وإلى مدن أخرى ونستمع إلى وجهات نظر تتبلور ببطء خلال ثلاث سنوات وسنرى نتائج عمل صبور. هل يمكن أن يقدم “فهود الضواحي” درساً ما؟ ربما  على مستوى المنجز الوثائقي السجالي البسيط التكلفة.. نعم. فالمُشاهد سيجد نفسه أمام عمل بسيط، سهل لكن فيه ما يسحبه للمضي معه في تجربة التعرف على عالم متشابك ومعقد التكوين، النظرة إليه مختلفة موضوعياً وملتبسة لسوء الفهم المصاحب لها على الدوام. فبالنسبة للمهاجر سيكون مرآة تعكس واقعاً يعرفه جيداً، وبالنسبة لغيره اكتشافاً لصورة جديدة مختلفة عن تلك التي رسخها آخرون في ذهنه بقوة. الشك وزعزعة اليقين مراد متحقق في نص وثائقي قدم الواقع وترك الحكم عليه مفتوحاً. سجّل حراكاً متفاعلاً بعين تعرف كيف تسجل التفاصيل وكيف توائم بين الشخصي والعام. كل شخصية فيه يمكن صناعة بورتريه وثائقي منفصل عنها. وكل تفصيلة في المشهد العام يمكن الاشتغال عليها سينمائياً. ولكن مساحته “السينمائية” أبعد بكثير إلى درجة يبدو فيها وكأنه منجز بصري عن أوروبا اليوم. عن تمييزها العرقي وعن صعود اليمين المتطرف فيها، كتب بأسلوب السهل الممتنع.


إعلان