حدس صوفي يجمع بين السينما والموسيقى
المصطفى الصوفي

تعتبر مدينة الجديدة الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر غربا من العاصمة الرباط، إحدى المدن المغربية التاريخية العريقة، التي استوطنها البرتغال، خلال القرن السادس عشر الميلادي، حيث تُشكّل المدينة العتيقة حاليا إحدى المزارات السياحية المهمة، التي يقصدها الكثير من السياح الأجانب، لاكتشاف معالمها وسحرها، وبخاصة الحي البرتغالي، الذي يضم أكثر المعالم السياحية التي تركها البرتغاليون على الواجهة البحرية الساحلية من ضفة المحيط الأطلسي.
ولأن المدينة التي كانت يطلق عليها قديما اسم (البريجة)، تعتبر عاصمة منطقة جهة دكالة عبدة، المنطقة التي تزخر بمؤهلات اقتصادية وفلاحية وثقافية كبيرة،، ظلّت على الدوام منذ غابر الأزمان محطة عبور الكثير من الشعوب والأجناس، فضلا عن الهجرة الداخلية إليها، ما منحها تاريخا غنيا، يشكل خليطا من العادات والتقاليد، فضلا عن خصوبة في التراث الثقافي والفني، حيث تُعدّ الموسيقى إحدى رموز هذا الغنى الإبداعي والفني، وذلك من خلال العديد من الأشكال والمظاهر الموسيقية الشعبية المحلية في علاقتها بإبداعات موسيقية لشعوب أخرى تعاقبت على المنطقة، وبخاصة منها الموسيقى الشعبية العريقة المحلية، وموسيقى الملحون والطرب الأندلسي وغيره من الأشكال الموسيقية الأخرى.
وقد شكّلت هذه المدينة التاريخية، للعديد من المخرجين مغاربة وأجانب، مشاهد إلهام حقيقي للإبداع السينمائي الناجح، وديكورا طبيعيا لتصوير العديد من الأعمال ذات الطابع التاريخي والوجداني والرومانسي.
تكريم حسن بنجلون وتقديم القمر الاحمر
كل هذه المؤشرات حفزّت جمعية البريجة للثقافة والفنون، إلى تأسيس مهرجان سينمائي، يكون من بين رهاناته الجمع بين الصورة كشكل من أشكال الفرجة البصرية، وبين الأدب والفنون، ثم الموسيقى، كشكل من أشكال المتعة السمعية لدى المتلقي، فتكون السينما والموسيقى، تيمة حقيقية لموعد سنوي، يتم فيه الاحتفال بالإبداع السينمائي المغربي والدولي، الذي يؤلف بين الصوت والصورة، لتكتمل المتعة البصرية للجمهور على حد سواء.
في هذا السياق، نظمت جمعية البريجة للثقافة والفنون دورتها الرابعة من مهرجان الأيام السينمائية لدكالة، وذلك من السادس عشر وإلى غاية التاسع عشر من شهر سبتمبر الجاري، دورة رغم قلة الإمكانيات المادية، تميزت بفيض من الفقرات المتميزة، وبحضور نخبة من الممثلين والسينمائيين والنقاد والإعلاميين، بهدف الرقي بالإبداع السينمائي في علاقته بالموسيقى.
وقد تم بالمناسبة تكريم المخرج المغربي الشهير حسن بنجلون في حفل الافتتاح، مع عرض لفيلمه (القمر الأحمر)، والذي اختير مؤخرا، لتمثيل المغرب في إقصائيات جوائز الأوسكار لعام 2015، في فئة “أحسن فيلم أجنبي”. وذلك طبقا للمعايير التي وضعتها الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم الصورة المتحركة. هذا الفيلم يمجد الموسيقى، في بعدها الفني والوطني والكوني.
وتكريما للمخرج حسن بنجلون، ذو التكوين الأكاديمي الفرنسي، تم أيضا عرض العديد من أفلامه التي لاقت ترحيبا واسعا لدى النقاد والمتتبعين، ومشاهدة مهمة في القاعات السينمائية المغربية، وبخاصة أفلام(المنسيون)، و(فين ماشي يا موشي) الذي يتحدث عن موجة هجرة اليهود المغاربة الى أرض الميعاد، وبخاصة من المدن التي كان يسكنها اليهود المغاربة ومنها مدينة أبي الجعد، التي تُعتبر من أعرق المدن المغربية، فضلا عن فيلم( محاكمة امرأة) و(أصدقاء الأمس) و(شفاه الصمت).
باكورة أفلام وندوة حول السينما والموسيقى

وخلال الدورة تم أيضا، عرض باكورة من الأفلام المختارة، التي تجعل من الموسيقى تيمة لها، ومنها(السمفوينية المغربية) و(الصمت الخفي) لمخرجهما كمال كمال، و(جنة الفقراء) لايمان المصباحي، و(دموع الندم) لحسن المفتي.
وخلال الدورة، التي تم فيها أيضا تكريم المجموعة الموسيقية الورشان الجديدية، مع تقديم وصلة راقصة لمجموعة (الفنون الذكية) في حفل الافتتاح، تم عقد ندوة مهمة تمحورت حول السينما والموسيقى، وشارك فيها نقاد وسينمائيون، وفنانون موسيقيون، قدموا فيها محاضرات ومداخلات مهمة، ومن أبرزها محاضرة محمد باكريم حول”الأوبرا والسينما، البنية الدرامية والحكاية المتداخلة”، نموذج (سينسو لفيسكو نتي) و(الصمت الخفي) لكمال كمال، و(السينما والعزلة في فيلم(كل صباحات العالم) لآلان كورنو، من تقديم الباحث الأكاديمي يوسف آيت همو من مراكش، فضلا عن مداخلة للفنان وعازف العود محمد الاشراقي حول “الفنان الموسيقي المغربي في الأفلام المغربية أي حضور؟”، ثم “وظائف الموسيقى في السينما” لبوبكر الحيحي.
وقد أكدّ مدير الندوة أحمد سيجلماسي بالمناسبة، أن التعاون المكثف بين السينمائيين والموسيقيين أفرز أجناسا فيلمية قائمة الذات كالأفلام الاستعراضية والموسيقية والأفلام الغنائية، كما عملت الأفلام الوثائقية والروائية عبر التاريخ بالصوت والصورة، لكبار الموسيقيين ولأهم المدارس والتيارات الموسيقية في العالم، بل وأصبحت الأغاني والموسيقى، من أهم توابل السينما التجارية الحالة البوليودية كنموذج.
وقد أجمع المتدخلون في أطروحاتهم، على أن علاقة السينما بالموسيقى، علاقة وطيدة ومتآلفة، حيث لا يمكن تخيل سينما بدون موسيقى، هذه الأخيرة التي تشكل النسمة المنعشة في وردة السينما، والهمسة الشاعرية، درامية أو كوميدية، التي بإمكانها السمو بروح المتلقي إلى سماء التشهّي، ما يجعل السينما في هذا الإطار، إبداع فني رقيق، له سلطة قوية على التأثير، ومنح الانتعاش للمتلقي والجمهور.
غياب الموسيقى في المشاهد يخلق الفراغ
وكتتويج لهذا المهرجان الفريد، وضمن منشورات الأيام السينمائية لدكالة تم إصدار كتاب متميز، تم تقديمه وتوزيعه خلال الدورة، وقد شارك في هذا المؤلف وهو من اعداد خالد الخضري، نخبة من الأكاديميين والنقاد والباحثين، وهم لطيف لحلو رئيس المهرجان وخالد الخضري مدير المهرجان، فضلا عن الكاتب محمد صوف والناقد والقاص مبارك حسني والناقد الدكتور بوشتى فرق زايد والناقد محمد شويكة والمخرج سعد الشرايبي والأكاديمي إدريس القري، والناقدة ندى مهدري وبلعيد العكاف، الذي تحدث عن الموسيقى التصويرية وعبد الرزاق الزاهير الذي تطرق إلى موضوع الكوميديا الموسيقية.
بالمناسبة قال المخرج السينمائي لطيف لحول في مداخلته، أن الموسيقى والسينما فنانان أساسيان، وأن السينما كما وصفها الناقد الفرنسي جورج سادول(حصيلة تركيب لعدة فنون أخرى) وهذا الفن الجمع هو الذي يمنح فن السينما كل طاقته الانفعالية وسحره الفردي وروعته المبهرة، فالفيلم السينمائي يُمثّل بإيقاعه وتواتره توزيعا موسيقيا حقيقيا، حيث تثير الموسيقى مع كل جملها الموسيقية تعاقب صور، وتدفع النفس البشرية إلى التخييل.
وتساءل لحلو ماذا يكون ضمير الفيلم السينمائي دون الإسهام الهام لمستواه الصوتي؟، إن الأصوات والحوارات الموسيقية، الضجيج والأجواء ـ يقول لحلو ـ تصاحب الصورة وتتمها عن طريق المؤثرات التعبيرية، حيث يخلقان معا عالما من الانطباعات الهاربة والمولدة للسحر والانفعال.
واكد أنه لا يمكن تخيل أو فهم أو استيعاب الفيلم السينمائي بطريقة حسية دون استحضار مستواه السمعي خاصة الموسيقي، وغياب الموسيقى في مشهد من مشاهد الفيلم يخلق نوعا من الفراغ انطلاقا من دلالة معينة، موضحا أن العيون والأذان اعتادت على المشاهدة والاستماع معا، وأن التأمل والاستمتاع بالموسيقى وحدها كفن تعبيري عن الأحاسيس والمشاعر تشعر بفراغ حقيقي، ونحن نشاهد فيلما سينمائيا بدون موسيقى.
وشدّد على أن السينما تظل محاكاة حقيقية للطبيعة، وهي تخلق رابطا بين الإنسان وبين الزمن، وهذه الطاقة التي لا تضاهى، هي التي تشكل أبكر إسهام إلى جانب الصورة السينمائية ومن ثمة فن الفيلم.
وأوضح ثانية أن استعمال الموسيقى في السينما يشمل عدة أشكال، وان الجانب الإشكالي يظل تصورا شخصيا يختلف من سينمائي إلى أخر، وكل مبدع يرجج وظيفة معينة لكل فن من الفنون، الا ان تآلف هذه الفنون وإسهاماتها المتبادلة هي التي تخلف هذا التناغم مما يحقق اندماج المتفرج ـ المستمع.
كيف يمكن تخيل فيلم سينمائي بدون موسيقى

من جانبه أكد مدير المهرجان خالد الخضري أن السينما والموسيقى كتيمة لمهرجان الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة، يعود إلى عوامل عدة، منها ما تزخر به جهة دكالة عبده، من أصناف موسيقية متنوعة عصرية وشعبية كفن(العيطة) و(السواكن) و(المحلون)، فضلا عن (العونيات)، و(الغيطة والمقص واللعابات وعبيدات الرما) وغيرها، فضلا عن احتضان المنطقة لتظاهرات عدة، لها ارتباط وثيق بفن الموسيقى بدء من بمهرجان الملحونيات والاندلسيات بالجديدة وجوهرة وموسم مولاي عبد الله امغار الخاص بفن الفانتازيا والفروسية التقليدية.
وابرز الخضري عوالم أخرى محفزة ما له علاقة بالطابع الفني، والذي يعود إلى فن السينما بعلاقته بعدد من الفنون والأشكال الإبداعية وعلى رأسها الموسيقى، وبين حاستين أساسيتين وهي السمع والبصر، وبالتالي فنين متقاربين، حيث تساءل كيف يمكن تخيل فيلم سينمائي بدون موسيقى. كما ذكّر بأول فيلم ناطق في تاريخ السينما والذي يعود الى فيلم موسيقي بعنوان(مغني الجاز) عام 1927، وحتى قبل هذا التاريخ، في عهد السينما الصامتة، حيث كان يرافق عرض الأفلام عازف بيانو فعلي تحت الشاشة او بجانبها.
كما استحضر الخضري بالمناسبة، عددا من الافلام الأجنبية والمغربية، التي ركزت على تيمة الموسيقى، واهتمت بشخصيات موسيقية شهيرة ككوكب الشرق وموزار، كفيلم (الوتر الخامس) سلمى بركاش و(السمفوينية المغربية) لمخرجه كمال كمال، و(خربوشة) لحميد الزوغي وغيرها.
الصوت عنصر مهم في بينة الدراما الفيلمية
أما محمد صوف فقد أكد ان السينما المغربية تعرف الموسيقى موضوعا منذ البداية، وذلك من خلال التجارب السينمائية لفنانين مغاربة كعبد الوهاب الدكالي، وعبد الهادي بلخياط في فيلم (الصمت الممنوع) لمخرجه عبد الله المصباحي، حيث أن الموسيقى لم تكن موضوع الشريط بل حضرت بحضور عبد الهادي بلخياط وأغانيه.
واستذكر بالمناسبة الراحل حميد بن الشريف الذي عشق أغنية القمر الأحمر التي لحنها الراحل بعد السلام عامر فاس عليها شريطه خطوات في الضباب مانحا دور البطولة للمهدي الوزاني. ثم جاء ودور الراحل محمد الحياني بصوته الرمادي ليكون الشخصية الرئيسة في فيلم (دموع الندم) للمخرج الراحل حسن المفتي.
وذكر الناقد الدكتور بوشتى فرق زايد بأن عملية الانتقال من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة لم تكن ذات أهمية قصوى حسب الناقد الفرنسي الكبير اندري بازال في مؤلفّه الشهير”ما السينما؟”، لأن الأمر يتعلق بمكونين اثنين، الأول يخص الصورة في بعدها التشكيلي، ثم الثاني يخص التوضيب، بيد ان هذا التفكير ـ يقول فرق زايد ـ غير مقنع حينما يتعلق الامر بالموسيقى، ليس كعنصر مصاحب للإحداث ولكن كمكون أساسي داخل متن الشريط.
وقال فرق زايد في أطروحته مع مرور الوقت تطورت المكونات التقنية فأصبح الصوت عنصرا مهما في بينة الدراما الفيلمية بل وأصبحت الموسيقى تلعب دورا أساسيا من داخل المتن السردي وتحتل مكانة الشخصية الى جانب الفضاء والديكور والشخوص.
ايزة جنيني طفرة نوعية في الفيلم الوثائقي
من جهته اكد الناقد محمد شويكة انه لا يمكن لأي موسيقى ان تناسب اية لقطة او مشهد وانما يلزمها موسيقار او مؤلف موسيقي مرهف الإحساس، يستطيع النفاذ الى عمق الحالات والتفاعلات والأحاسيس، فيضيف الى عمل المخرج ومدير التصوير جمالية أخرى، مبرزا ان وعي المخرجين والمنتجين المغاربة يختلف بقيمة الموسيقى الأصلية للفيلم، فتتفاوت ميزانيات الاستثمار فيها والاهتمام بها كما تختلف طرق اشتغالهم عليها.
واشار شويكة إلى أن السينما المغربية وظفّت الموسيقى توظيفات مختلفة ومتنوعة سواء على مستوى الأفلام

الروائية الطويلة، أو على مستوى الأفلام الوثائقية، حيث تشكل أفلام المخرجة ايزة جنيني طفرة نوعية من حيث الاشتغال على التراث الموسيقي المغربي بكل أهازيجه وروافده الثقافية، ومن أشهر منجزاتها في هذا الشأن (المغرب جسد وروح) و(أصوات المغرب)، فضلا عن فيلم(دموع الشيخات) لعبد الاله الجوهري و(نساء بدون هوية) لمحمد العبودي.
وأوضح شويكة أن أصحاب هذه الفيلموغرافيا اختاروا الاستناد على تيمات تهم الموسيقى وقضاياها، فكانت الموسيقى التيمة الرئيسة للفيلم، ولم تكن مجرد مدلول من مدلولاته أو تدعم الصورة والحكاية وتصاحب الشخصيات، لقد كانت الموسيقى والموسيقيين وقود الدراما وأساس الرهان على نجاح الفيلم لدى الجمهور. كما راهن المخرجون المغاربة على أهمية الموسيقى في إثارة عواطف المتفرج وتوليد الأحاسيس التي تخلقها بعض الآلات كالكمان والبيانو وغيرهما، وهي أحاسيس ترتبط بالقلق واللاطمأنينة والخوف والحيرة والرومانسية والنوستالجيا والتأثر.
وأجمل شويكة أطروحته في تمييز عدة امتدادات موسيقية داخل السينما المغربية في موسيقى أصيلة خاصة بالفيلم، وتأليف أغاني خاصة، فضلا عن الاشتغال على سجلات خاصة. كما خلص إلى التأكيد على أن الموسيقى تسعى إلى إنجاح التواصل بواسطة الصورة السينمائية التي تدمج كل التفاصيل الفنية والجمالية والتقنية في قالب فني واحد، فالصناعة السينمائية لم تغفل عبر تاريخها مسألة التلقي، لذلك كانت الموسيقى في قلب المعادلة سواء كفنّ أو كإشهار، كما أن رواج بعض التجارب السينمائية القوية في المغرب لم يكن مفصولا عن الموسيقى، والموسيقى الهندية والمصرية خير مثال، حيث يتكفل بالموسيقى الفيلمية كبار الملحنين، وتستقطب كبار العازفين والمغنيين والراقصين، بل قد يتحول بعض هؤلاء إلى ممثلين بارعين، أو يضطّر بعض الممثلين إلى الرقص والغناء، وذلك ما يزيد من مضاعفة عدد الجمهور.
الموسيقى سند طبيعي للشريط الصوتي
أما المخرج المغربي سعد الشرايبي، فقد أكدّ في مداخلته على أن موضوع السينما والموسيقى له تاريخ متطور، وأن الموسيقى لعبت دورا أساسيا في فترة السينما الصامتة، كعنصر مكمل للصورة في غياب الصوت، لكن تاريخ هذين الفنين عرف تطورا متناميا على مر العصور، حيث غدت الأفلام تعتمد أكثر فأكثر على الموسيقى كسند طبيعي للشريط الصوتي، بل وكسند جمالي ودينامي يكثف من تعبيرية الصورة أياً كان النوع المختار، دراميا مأساويا احتفاليا أو كموسيقى مرافقة، أي ما يُطلق عليه بالموسيقى التصويرية.
عموما تبقى الموسيقى وفي كل هذه الحالات ـ حسب المخرج الشرايبي ـ عنصرا رئيسيا في التعبير السينمائي لتؤدي أدوارا مختلفة، وذلك حسب ثلاث مستويات، الأول ترافق مشهدا أو عدة مشاهد، الثاني تكون عنصرا مساهما في دراما المشهد، والثالث تكون الموسيقى عنصرا تعبيريا مستقلا حيث تغدو هي المؤسّس الفعلي له وللفيلم ككل في بعض الحالات.
وأكدّ أن العديد من الأفلام أصبحت توظّف الموسيقى كتيمة رئيسية للمحتوى، من خلال أفلمة حياة الموسيقيين أنفسهم، أو من خلال نقل وتوظيف مقطوعات موسيقية عالمية إلى الصورة، حيث في جميع الحالات يشهد تاريخ السينما الموسيقي على غنى العلاقة وتبادل التأثير بينهما مما يمكنهما من النهل من بعضهما البعض في سبيل إسعاد المشاهدين في نهاية المطاف.
حدس صوفي بين الموسيقى والسينما
أما الناقد إدريس القري فقد أكد أن تاريخ الفنون عامة وتاريخ السينما خاصة، عرف في علاقته بالموسيقى، تطورا متعرجا منذ ظهور الصورة المتحركة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأت العلاقة وظيفية، تجلت في مرافقة الموسيقى للسينما لتأثيث فراغات غياب الصوت وقصور فن السينما آنذاك عن التقاطه.
وتحولت العلاقة ـ حسب القري ـ شيئا فشيئا نحو تعبيرية مشتركة عن تداخل الموسيقى بمكونات الصورة السينمائية المزيجة بطبيعتها، إلا أن هذه العلاقة عرفت مسارا صعبا لم يكن سببه سوى تبعية الصوت بخاصة للتطور التكنولوجي الذي احتدم الصراع فيه بصفة خاصة، بين الفرنسيين والأمريكيين واليابانيين، وهؤلاء الثلاثة كانوا روادا في معركة تدجين تمرّد الصوت على كل استجابة للتناغم مع الصورة خلال عرضها، وهو الأمر الذي لن يتحقق بشكل كامل ومتحكم فيه إلا مع ظهور الصوت الرقمي.
كما أبرز الناقد القري أوجه العلاقة الفكرية والروحية التي قد تبلغ حد الحدس الصوفي بين الموسيقى والسينما وذلك بغض النظر عن الوظائف التقليدية للموسيقى في بناء الفيلم، هذه الوظائف لا يمكن تجاوزها إلا بعد التمكّن منها حرفيا ومهنيا، ومن تلك الوظائف تجسيد مصدر الموسيقى المرئي على الشاشة، التعبير عن أحاسيس ومشاعر شخصيات الفيلم، التعبير عن الانفعالات المصاحبة لما يحدث أو ما قد يحدث لاحقا، التهيؤ لحدث في المشهد اللاحق، ثم تجسيد هوية الفيلم الحكائية وتميّزه السردي.
رؤية سوسيولوجية لفيلم (أبي فوق الشجرة)
من جهتها قدمت الناقدة ندى مهري، وهي إعلامية وكاتبة جزائرية مقيمة بالقاهرة في مشاركتها، رؤية سوسيولوجية لفيلم (أبي فوق الشجرة) بمخرجه المصري حسين كمال، عام 1969 عن قصة لإحسان عبد القدوس، وبطولة المرحوم المطرب العربي الكبير عبد الحليم حافظ، وعماد حمدي ونادية لطفي وميرفت أمين. والذي اعتبر آنذاك من أقوى الأفلام الاستعراضية العربية على الإطلاق، والذي دام عرضه 58 أسبوعا محققا إيرادات مهمة.
وأضافت مهري أنه في تاريخ السينما العربية نجد أن الأفلام الغنائية ازدهرت كثيرا على يد محمد عبد الوهاب وأم كلثوم قطبي الغناء العربي منذ الثلاثينات من القرن الماضي، وتواصلت على يد عدد من المطربين والمطربات كعبد الحليم حافظ، ومحمد فوزي وفريد الأطرش وأسمهان ووردة ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد وغيرهن.
كما أوضحت الكاتبة الجزائرية، أن المتتبع للحركة السينمائية في الوطن العربي، سيجد أنها تضم أيضا الأفلام الاستعراضية التي اهتمت بتقديم الغناء في قالب حركي راقص، وهذا النوع من الأفلام ساعد على ظهور ألحان موزّعة بشكل اوركسترالي، بالإضافة إلى التخفيف من قيود الألحان التقليدية باتجاه أكثر انفتاحا على الموسيقى الغربية وتحديدا الإيقاعات الخفيفة.