لعنة الذَّهبْ
قيس قاسم
في بطون مناجم مدينة “مارماتو” الكولومبية ذهب قيمته مليارات الدولارات وفي محيطها، حيث يعيش مستخرجيه، ترى الفقر ظاهر على ملامحها وملامح سكانها! على هذة المفارقة النافرة يؤسس المخرج مارك غريكو فيلمة الذي قضى ست سنوات في اعداده، أمضاها بين عمال المناجم، في جوف الجبل وفي بيوتهم، ليقدم قصة مدينة مهددة بالزوال مع سكانها بسبب “العولمة” وسياسات اقتصاديات السوق التي كتبها هذة المرة العمال بأنفسهم وقامت كامرته بتسجيل تفاصيلها.
![]() |
مارماتو
|
يكتب الأمريكي غريكو حكاية مدينة “مارماتو” وهو محصنٌ بمرجعية معرفية تعود الى إقامته الطويلة في بلدان أمريكا اللاتينية وكولومبيا منها على وجه الخصوص والتي سبق أن أنجز فيلماً وثائقياً عنها بعنوان “تدمير توباكو” مدينة مناجم الفحم، وكمصور فوتوغرافي أقام الكثير من المشاريع والمعارض عما التقطته عيناه في تلك الأماكن التي جمعت وعلى مدى تاريخها بين جمال الطبيعة واستغلال محتليها، والمنتفعين المحليين منهم، ثرواتها الهائلة فيما أكثرية سكانها يعانون من العوز. يكتبها باسلوب كاتب الريبورتاج المُقيم والمُتتبع لتفاصيل حياة عمال المناجم خلال مدة محددة تؤشر الى أبعد من اطاراتها الزمنية، وذلك حين تضاف اليها رؤية عميقة وتحليلية لمسار التطورات التي شهدتها المدينة وحاول أن يتابع تشعباتها من خلال شخصيات حية تتفاعل داخلها (عمال مناجم، عوائلهم، أصحاب شركات متعددة الجنسيات وغيرهم) كل واحدة منها تُغني جانباً من السرد الحكائي لقصة تلك المدينة المعتمدة على الذَّهبْ والمبتلية به في آن.
من بين أكثرها جذباً للأنتباه “دومار” الشاب الذي تربي في الشوارع وحين كبر ونضج أراد تغيير مسار حياته وذلك بالعمل في المناجم، ليُعيل عائلته ويُعلم بناته تعليماً جيداً يجنبهن به مرارات ذاقها بسبب الفقر وحياة التشرد. تبدو أيامه في المنجم الذي يدخله كل صباح ويخرج منه مساءً منهكاً، معقولة ما دامه يحصل على راتب ثابت. كان هذا في بداية عام 2008، والشركات الأجنبية المتعددة الجنسيات قد بدأت ـ منذ سماح الحكومة الكولومبية قبل عامين من هذا التاريخ للشركات الأجنبية بالاستثمار في المشاريع المحلية، ـ بالتوافد والشروع في شراء المناجم.
![]() |
العامل دومار
|
في بيته ثمة جوٌ معقول من الراحة والحب لكن الزوجة تشكو حالة منزلهم المتهاوي والمهدد مثل كل بيوت بالإنهيار بسبب الهزات التي تحدثها عمليات التفجير داخل المنجم الرئيس والذي يقوم به رجال يعرضون حياتهم كل لحظة للخطر مثل زوجها. الأحساسس بالخطر كان سائداً وكانت أسعار الذهب جيدة في ذلك الوقت على الأقل بالنسبة لأصحاب الشركة المالكة. هذا القسم الخاص بالعامل الكولومبي يُرشح من خلال تجربته معطيات عن التحولات التي تشهدها المدينة ومناجمها ومنها السماح لبعض المستثمرين المحليين الصغار باستخراج كميات من الذهب وبيعه. ثمة مشترك بين كل العاملين وبعض المستثمرين الصغار بأن المستقبل غير مضمون وأن أي انهيار في جوف الجبل سيؤدي الى سحق أجسادهم وبالتالي ستكون عوائلهم معرضة للتشرد فلا ضمانات مع الشركات المالكة وخاصة الأجنبية. سيسجل “مارماتو” وخلال السنوات الست التي أقامها هناك الانقلابات الحادة في حياة “دومار” ومدينته عبر رسم بياني كان يرسمه بنفسه على جدران المناجم بدخان مصباحه الزيتي، يؤشر بها الى التغيرات الحاصلة في سعر الذهب داخل الأسواق العالمية المتعاملة به. ما يميز منجز غريكو ليس الصورة المذهلة التي يأخذها ويعرف من أي زاوية يلتقطها، بل أيضاً في اعتماده على وعي العمال في تحليل كل متغير يطرأ على أحوالهم وأحوال مناجمهم وعلى تفسيراتهم المنطقية لسلوك أصحابها وسبب تدخل الدولة الى جانبهم على الدوام. لم يأتي بخبير أقتصادي الى شريطة ولم يقدم معطيات نظرية أو أرقاماً من بطون كتب الجامعات والمعاهد بل كانت قراءة العمال هي مصدره الأهم في التحليل وتفسير الأحداث في وقتها وبهذا يجوز وصف “مارماتو” بالعَيَّنة لدرجة قياس مستوى الوعي المتنامي بين عمال المناجم في تلك الأماكن والتي تؤشر بدورها الى أسباب تنامي الاحتجاجات وظهور الحركات العمالية في أمريكا اللاتينية. منذ هيمنة شركة “ميدور روسورشينير” الكندية على أكثر من 80 % من المناجم والقلق بين سكان المدينة في ارتفاع، لأنها أخذت في ابعاد المستثمرين الصغار من السوق من خلال حرمانهم من أستخدام أصابع الديناميت، والذي بدونه يستحيل قيامهم بالتنقيب عن الذَّهب، ومن أجل ضمان سيطرتهم جاء الجيش وحذر من تجاوز القرار بحجة الخوف من وقوع البارود والمتفجرات بأيدي مخربين أو استغلاله في عمليات “ارهابية” ضد الدولة.
![]() |
الجيش في مواجهة عمال المناجم
|
سيتضح بعد حين سبب التدخل العسكري المباشر في “مارماتو” فقد دخل الآن الرأسمال المحلي شريكاً مع الأجنبي وبالتالي وكحكومة تعبر عن مصالح الرأسماليين كان لزاماً عليها استغلال قوتها من أجل طمأنه أصحاب المشاريع الكبيرة من الطرفين. سيتطور الوثائقي ليكون شاهداً حياً على “سنوات الجمر” التي حلت بعد قرار الشركة الكندية اغلاق بعض المناجم، من أجل رفع سعر الذهب في الأسواق العالمية. خطوة مدروسة تأتي لضمان أكبر قدر من الأرباح لأصحابها، وذلك من خلال خفض كميات انتاجه، ما يعني عملياً حرمان عمال المناجم من مصدر رزقهم الوحيد ناهيك عن تدمير المستثمرين الصغار ودفعهم الى الاصطفاف مع العمال الأجراء. التصادمات الحادة بين أصحاب الشركة المالكة ورجال الجيش والشرطة يوثقها غريكو بمنتهى الوضوح الى جانب مرافقته لعمليات اقتحام شبه سرية قام بها بعض عمال العاطلين للمنجم الكندي، استخرجوا خلالها الذَّهب لأنفسهم ما أثار حفيظة الحكومة والشركات ورفع مستوى المواجهة الى أعلى الدرجات، ما دفع إثرها الطرفين الى التفاوض. عبر قبول الشركة المالكة فتح بعض المناجم يرصد العمال ومعهم الوثائقي كيف ينخفض وبدرجة واضحة سعر الذَّهب في الأسواق وكيف يمتلكهم شعور بالقهر لأنهم وبقواهم، فقط، يستطيعون التحكم بالأسعار ولكنهم لا يحصلون عملياً، منها إلا رواتب شهرية بخسة مهدد هي الآخرى بالإنقطاع وهذا ما حصل في بداية العام الحالي حين أَجبرَ الجيش العمال على ترك المناجم واغلاقها. مع كل رفض العمال واحتجاجاتهم، أضطر الكثير منهم للبحث عن عمل آخر غير الذي يعرفونه وفي مناطق آخرى من البلاد فالذَّهبْ صار بلاءً عليهم، وعليهم اليوم نسيان تاريخ طويل من مدينة ظهرت قبل خمسة قرون وعاشت على ما في بطون أرضها وجبالها من معادن نفيسة، واليوم تقف متهاوية، مهددة بالدمار الكامل، وناسها بين خيارين: أما الموت جوعاً، أو البحث عن عمل جديد وهذا ما لخصه مشهد ختامي يظهر فيه العامل “دومار” وهو يودع عائلته في جو محزن رُصد بكاميرة وثائقي هو من بين أجمل وثائقيات هذا العام.