“موتى خلف القضبان” في بلدٍ متحضر

عدنان حسين أحمد

آدم راشتون

يُعدّ الفيلم الوثائقي “موتى خلف القضبان” للمخرج البريطاني سام إيميري من الأفلام الصادمة في الوقت الحاضر لأن المُشاهد لا يتوقع أن السجين البريطاني يمكن أن يقوم بعملية إيذاء للنفس أو يقْدِم على الانتحار داخل سجنه الفردي أو الجماعي لأن هناك نزلاءً آخرين يعتدون عليه ويقرّعونه ليل نهار.
استلهم سام إيميري فكرة هذا الفيلم من تقرير رسمي صادر عن وزارة العدل البريطانية عام 2012 يكشف بالأدلة القاطعة أن هناك 80 سجيناً بريطانياً تتراوح أعمارهم بين 24 سنة فما دون قد أقدموا على الانتحار داخل السجون البريطانية خلال العشر سنوات الأخيرة لأسباب عديدة أبرزها تعرُّضهم للإساءة والاعتداء من قبل نزلاء آخرين يتميزون بسلوكهم الوحشي الفظ الذي يشكل خطراً دائماً على بقية السجناء العاديين أو الضعفاء بدنياً أو المصابين بأمراض عقلية أو نفسية.
تقوم بنية الفيلم على ثلاثة أشخاص أقدموا على الانتحار داخل السجون البريطانية ووضعوا حدّاً لحياتهم القصيرة التي لم تجتز العشرين عاماً آخذين في الاعتبار أن عدد السجناء البريطانيين الذين انتحروا من مختلف الأعمار خلال العشر سنوات الأخيرة قد بلغ 163 شخصاً بحسب تقارير وزارة العدل أيضاً، وهو رقم مخيف في بلدٍ متحضر يحترم حقوق الإنسان ويسعى لتكريسها كل يوم على أرض الواقع فكيف تحدث مثل هذه الانتهاكات المروِّعة لحقوق الإنسان البريطاني الذي ولج مرحلة الرفاه الاقتصادي منذ سنوات طويلة؟

التوحّد وقصور الانتباه
يستهلّ المخرج سام إيميري فيلمه بشخصية السجين جيك هاردي حيث نعرف من خلال أمه وشقيقته وصديقه أن عمره 17 سنة، وأنه مُصاب بحالة نفسية اسمها “قصور الانتباه وفرط الحركة”، ومع أن نسبة هذا المرض النفسي قد تصل إلى 5% في كل الشعوب التي تعيش على كوكبنا الأرضي إلاّ أن المصابين يحتاجون إلى رعاية خاصة تختلف عن رعاية السجناء العاديين. كما كان جيك يعاني من صعوبات في التعليم ومشاكل ذهنية أخرى سوف تؤرق الناس المحيطين به في الأسرة والمدرسة الخاصة على وجه التحديد. وأكثر من ذلك فإن لديه تاريخا من الإيذاء النفسي الأمر الذي يحمّل القائمين على سجن الأحداث واليافعين مسؤولية نقله إلى “وحدة خاصة” بالمرضى المتوحدّين الذين قد يقدمون على إيذاء النفس في أقل تقدير إذا ما تعرضوا إلى المضايقة أو الإزعاج أو الاعتداء.

ليز هاردي

تشاجر جيك ذات مرة مع صديقته فهدّدها بالسكين وحينما حاولت انتزاعها منه خشية أن يؤذي نفسه جرحها مما دفع الشرطة لاعتقاله ليصبح هو نفسه هدفاً سهلاً للإساءة والإيذاء من قبل السجناء الخطرين في سجن الأحداث في هندلي. وعلى الرغم من أن جيك قوي البنية وطويل القامة إلاّ أن لديه عقل طفل كما تقول أمه ليز هاردي فلا غرابة أن يهددهُ السجناء بالطعن بعد أن أخبروه بأن رائحته كريهة، ونعتوا أمه وعائلته بكلمات بذيئة دفعته لأن يخبر حرّاس السجن لكنهم لم يحركوا ساكناً ولم يتخذوا أي إجراءات بحق المعتدين. فالقصور يكمن في القائمين على السجن من حراس ومسؤولين إداريين. لقد خصصت إدارة السجن موظفاً خاصاً لمتابعة حالة جيك لكن هذا الموظف لم يقرأ التقارير الموجودة عن تاريخ النزيل الطبي ولم يعرف بأنه مصاب بقصور الانتباه وفرط الحركة، ولم يُدرك أن هذا النزيل يمكن أن يؤذي نفسه في أي لحظة يفقد فيها توازنه ولا يستطيع السيطرة على نفسه. بل إنه كان يعتقد بأن جيك قادر على حماية نفسه لأنه يمتلك جسداً ضخماً من دون أن يعرف ضعفه الذهني وسلوكه المرضي الذي قد يشكل خطراً عليه قبل الآخرين.

تفاقمت الحالة النفسية لجيك حينما لم يُتح له الاتصال بوالدته. كما أنه لم يستطع الانسجام مع بيئة السجن الجديدة لأنهم كانوا يعتدون عليه ويؤرقونه بشكل متواصل الأمر الذي يدفعه للانخراط في البكاء في بعض المكالمات الهاتفية مع أمه. كشفت كاميرات المراقبة التي تغطي زنزانات السجن برمتها اعتداءات السجناء وإساءاتهم لجيك لكن الحراس لم يحركوا ساكناً فكان رد فعله هو أن يرفس الباب بقدمه مرات عديدة لكنه يتلقى بالنتيجة المزيد من الإساءات.
تصف الأم ليز هاردي ولدها جيك “بأنه تابع وليس قائداً” وذلك بسبب حالته النفسية. وقالت “بأنه لا يعرف الصحّ من الخطأ” وأنه “يتصرف بعمر صبي من سن الثانية عشرة، وإذا لم يتناول حبوبه فإن سلوكه يصبح طائشاً ويؤذي نفسه في خاتمة المطاف”.
تحتفظ ليز هاردي بجوارب ابنها بعد أن انتحر داخل السجن حيث شنق نفسه على سرير النوم المزدوج. وذكرت بأنها تحمل معها هذين الجوربين أينما ذهبت فما تزال رائحة قدميه فيهما. لم تستطع الأم أن تنام ليلة واحدة، فهي تحلم به على الدوام وتقول بأنه مات تحت رعاية الدولة خلال 46 يوماً، بينما لم يمت وهو كنفها خلال سبع عشرة سنة. وصفت السيدة ديبورا كولز مديرة مؤسسة إنكويست الخيرية “بأن موت الأطفال واليافعين في السجون البريطانية يجب أن يكون فضيحة وطنية تخجل منها الدولة”. فالدولة لم توفر وسائل الحماية للنزلاء الضعفاء، كما أنها لم تمنع عنهم الإساءة والاعتداء.

هاجس السرقة

آنيت راشتون

ينحدر آدم راشتون من مدينة بوويز وسط ويلز وبدا سعيداً حينما تبنته عائلة من برنسفورد وهو في سن السابعة. لا تختلف السيدة أنيت راشتون عن ليز هاردي في رهافة مشاعرها تجاه ابنها بالتبنّي آدم لكن اللافت للنظر في شخصية هذا الطفل هو تعلّمه السرقة منذ الصغر وبما أن أخويه التوأم صغيران ويحتاجان إلى التغذية فقد كان يذهب إلى بيوت الجيران ويأخذ قناني الحليب الموضوعة عند عتبات المنازل لكي يبقي أخويه على قيد الحياة. لم تكن السرقة هي الخصلة الوحيدة التي تأصلت فيه حيث تذْكر أمه بأنه كان نشيطاً جداً، ومُولعاً بإيذاء الآخرين، فإذا دخل المرحاض أغرقه بالماء أو حطّم شيئاً من الأشياء الموجودة فيه، فقد كان يميل إلى تدمير الأشياء، وتمزيق كل ما يصادفه في طريقه. ولم تنفع معه كل الرحلات الترفيهية التي تحققها له أمه، فحينما يعود من شاطئ البحر أو من سفرة مدرسية يتدهور سلوكه من جديد، ويعود لعاداته القديمة المتأصلة.

وهو يعتقد في قرارة نفسه “بأنه إنسان غير محبوب”. وهو لا يختلف كثيراً عن جيك حيث أُصيب هو الآخر بحالة “قصور الانتباه وفرط الحركة” والمريض في هذه الحالة يحتاج إلى اهتمام كبير من قبل المحيطين به وإلاّ فإنه سوف يعتقد بأنه منبوذ وغير مرغوب فيه. وبسبب هذا السلوك العدائي طُرد من المدرسة فعاد إلى البيت من جديد. وحينما شعر بالضيق والاختناق قرر أن يغادر المنزل وهو في سن السادسة عشرة ويسكن في نُزُل قرب مدينة نيوتاون. لقد فشل آدم في كل شيئ تقريباً، كما ترى أمه، لكنه نجح في السرقة التي تمكنت منه وأصبحت تجري في عروقه مثل الدماء، بل إن فعل السرقة هو الشيئ الوحيد الذي كان يُشعره بالفرح ويميّزه عند أقرانه الصغار الذين يستغربون جرأته في هذا المضمار. سُجن آدم عشر مرات لارتكابه أخطاءً صغيرة لكنه قرر في خاتمة المطاف أن ينتحر بنفس الطريقة التي انتحر بها جيك هاردي وفي نفس الزنزانة!
لم توافق السيدة أنيت على الذهاب لمشاهدة المكان الذي انتحر فيه ابنها وقد وصفت مشاعرها المرهفة حيث قالت: “حينما أدخل السجن أرى 30 أو 40 وجهاً مثل وجه آدم، وبنفس التعابير المرسومة على وجوههم”. ثم تختم كلامها بالقول: “نعم يستحقون العقاب لكن كان على الدولة أن تفعل شيئاً من أجلهم”.

محاولات انتحار متكررة

سونيا

ما يميز رايان كلارك هو ضعفه وضآلته لكن مشكلته الرئيسة تكمن في داء السرقة الذي تمكن منه فلقد سرق العديد من الهواتف المحمولة، بل همّ بسرقة حُلي مرشدته الشخصية حينما التقاها ذات مرة. تعرض رايان بشكل مستمر للاعتداء من قبل أقرانه السجناء ولأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً أو يرد على المعتدين كان يضرب رأسه بالحائط، وحينما يسقط من الألم والإعياء يتركه الحرّاس مغشياً عليه دون أن يكلفوا أنفسهم عناء أخذه إلى الطبيب. ثمة أمور صغيرة في حياة هذا السجين الضعيف المتعلق بأمه الذي لم يسمحوا له بأن يتصل بها في “يوم الأم” الأمر الذي دفعه لأن يعتكف في السجن لمدة سبعة أيام لكنه سرعان ما يحطم هذه العزلة ليندمج مع أقرانه الذين يعادون الكرّة في إيذائه والإساءة إليه.
لابد من الإشارة إلى أن صديقاً لرايان قد حاول الانتحار سبع مرات لكنه لم ينتحر وكأن هذه المحاولات السبع هي جرس الإنذار الذي كان يقرعه في كل مرة منبهاً الحراس والموظفين إلى حالته النفسية المتدهورة التي كانت تضطرهم لأخذه إلى المستشفى بينما كان رايان يلوذ بالعزلة والصمت اللذين أفضيا به إلى الانتحار  في سجن وذربي عام 2011 وهو في السابعة عشرة من عمره.

القصور الإداري
يعتقد كل الذين شاركوا في التحقيق بقضية موت السجناء البريطانيين خلف القضبان بأن الدولة كانت مقصرة بشكل أو بآخر تجاه النزلاء وخاصة المرضى منهم حيث لم يتم وضعهم في وحدات خاصة بهم تبعد عنهم شبح الإساءة والعدوان الذي قد يصل في بعض الأحيان إلى درجة التعذيب القاسي بحيث يدفع صاحبه إلى الانتحار ووضع حد لحياته المؤلمة. وبما أن الزنازين جميعها مراقبة فلماذا لم يقم الحراس أو الموظفون المسؤولون عن المراقبة باتخاذ إجراءات سريعة تحاسب المعتدين وتضع حداً لتجاوزاتهم، وتحمي الضعفاء منهم. رب سائل عن سبب وجود الأسرّة المزدوجة طالما أن الشخصيات المريضة نفسياً تستعملها كمشانق؟ ألا تستطيع دولة بحجم المملكة المتحدة أن تضع أسرّة منفردة في هذه السجون بدلاً من الأسرة المزدوجة التي تسببت بموت 164 سجيناً خلال عشر سنوات؟ ألم يكن بإمكان الحكومة البريطانية أن تودع المرضى المصابين بالتوحد وقصور الانتباه وفرط الحركة وغيرها من الأمراض النفسية في سجون خاصة كي تتفادى الأضرار التي يمكن أن تلحق بهم في السجون الاعتيادية التي تضم مجرمين يشكلون خطراً جدياً على حياة السجين المريض أو من ذووي الاحتياجات الخاصة؟

لابد من الإشارة إلى أهمية المونتاج في هذا الفيلم المركّز الذي يُظهر براعة المونتيرة أماندا باكستير التي شذّبت الفيلم من زوائده. فكما هو معروف أن قنوات البي بي سي الإنكليزية برمتها لا تعرض أفلاماً مترهلة تفتقر إلى الخطابات البصرية الجمالية والمضامين الإنسانية ولهذا أرادت لهذا الفيلم أن يكون مكثفاً ليسرد فواجع الناس البسطاء في بلد متقدم يفاخر بحماية الحريات الفردية والعامة.

جدير بالذكر أن المخرج والمنتج البريطاني سام إيميري قد أنجز نحو عشرين فيلماً وثائقياً نذكر منها: “الإثراء في زمن الركود: الرجل الذي يشتري كل شيئ”، “يوميات عقل محطّم”، “أريد أن أغيّر جسدي”، “أطفال خلف القضبان” وغيرها من الأفلام الوثائقية المميزة التي لا تغادر ذاكرة المتلقي بسهولة.


إعلان