الأوديسّا العراقية
شريف عوض
“لن يمكنك تشكيل مستقبلك لو كنت لا تعرف ماضيك”

بهذه العبارة المصحوبة بموسيقى على أوتار آلة العود العربية وفنون الخط العربي المتحركة على الشاشة، يُنهي المخرج الوثائقي السويسري والعراقي المولد “سمير جمال الدين” فيلمه التسجيلي المرهف “الأوديسا العراقية” الذي يستمر عرضه 162 دقيقة، يتتبع خلالها قصة أفراد أسرته وأقاربه بما في ذلك والديه الذين شُتتوا في جميع أنحاء العالم بعد هجرتهم من وطنهم العراق منذ فترة الستينيات.
عائلة “سمير” تقع ضمن أربعة إلى خمسة ملايين عراقي مهاجر يعيشون خارج دولة العراق اليوم أما سمير فقد ولد في بغداد واصطحبه أبواه ليعيش في سويسرا وهو طفل منذ عام 1961، في حين انتشر أعضاء عائلته الكبيرة في جميع أنحاء العالم من أبو ظبي، أوكلاند سيدني، لوس أنجلوس، بافالو، لندن، باريس وزيورخ إلى موسكو حتى لم يتبقَ منهم سوى حفنة قليلة في العراق. يعود بنا سمير مرة أخرى إلى الماضي ليروي، من خلال المزج بين الصور الفوتوغرافية القديمة واللقطات الأرشيفية وتقنيات الجرافيكس الحديثة بما فيها التقنية الثلاثية الأبعاد، كيف حلم العراقيون في بناء مجتمع حديث وعادل بعد الاستقلال في الخمسينيات لكن أتت الرياح بما لا تشتهيه السفن خلال الستين سنة التي تلت.

في ثلاثة فصول يتكون منها الفيلم، يبدأ “سمير” في الفصل الأول سرد سيرة جده ودوره في النضال ضد الاستعمار البريطاني. وفي الفصل الثاني، نتتبع موجات متتالية من الهجرة حينما سعى أفراد العائلة إلى البحث عن ملاذات آمنة في جميع أنحاء العالم هرباً من سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي و هما الفترتان اللتين أسفرتا عن ثلاثة عقود ديكتاتورية سيطر فيها صدام حسين على أنحاء البلاد. لم يفُت سمير أيضاً استيعاد لحظات سقوط صدام قبل الغزو الأمريكي عام 2003، عندما أطيح بتمثاله العملاق في ساحة الفردوس. أما الفصل الأخير من الفيلم فيركز المخرج ببراعة على شهادات الأهل والأقارب ممزوجة مع وثائق نادرة من أرشيفه الخاص وما توصل إليه من لقطات نادرة سينمائية ووثائقية وأرشيفية من جميع أنحاء العالم.

عمل سمير على هذه الملحمة كمخرج وباحث على مدار أكثر من عقدين من الزمن أثناء عمله على أفلام أخرى إذ تذكر سيرته الذاتية أنه أنجز أكثر من 40 فيلماً منها “محطة القطارات وملائكتها” (2010)، “بياض الثلج” (2005)، “أنس بغداد” (2002)، “بحثاً عن وفاة” (1999)، “الجزار” (1996)، ” بابل 2″ (1993) وهو يعمل حالياً على فيلمه الروائي “مقهى أبو نواس”. واجه المخرج صعوبات في التمويل لأن المنتجين والداعمين نظروا للفيلم نظرة سطحية على أنه يروي سيرة ذاتية لعائلته لكن المخرج الذي طاف أرجاء المعمورة لتصوير فيلمه بكاميرات مختلفة منها كاميرا يابانية حديثة تعطي صورة ثلاثية الأبعاد، استطاع صناع مقدمات ترويجية مما صوّره فأقنع بعض الممولين في النهاية برؤيته السردية والبصرية التي شكلت لغة خاصة في الفيلم.
عند مشاهدة الفيلم، نلاحظ أن المخرج ترك المتحدثين يتكلمون بحرية أمام الكاميرا وهم في حالة حركة وهي طريقة تشبه التحقيق الأنثروبولوجي. كما كان أضفى اختياره أن يروي الفيلم كله بصوته حنينا وشجناً خاصاً يحرك مشاعر المشاهد وخاصة في المقابلات التي جمعته بعمه جمال الطاهر وأخته غير الشقيقة سهير.