“المازني” يدعو للاهتمام بالوثائقي وإنصافه إعلاميا
ضاوية خليفة – الدوحة

أثبت شباب تونس في الكثير من المناسبات ومن خلال عديد التجارب وعيه الكامل بقضايا وطنه، التفافه حوله وتفوقه في مجالات الحياة، وإدراكه لاختياراته السياسية والفكرية، وشكّل الفن أحد أكبر اهتمامات النخبة وعامة الشعب في نفس الوقت، مما أفرز جيل مثقف وذواق يمتلك رؤية مميزة ويعمل على توظيف تلك المكونات لحمل مشعل من سبقوه، منهم الإعلامي والمخرج “بلال المازني” أحد الشباب الحالم بغد أفضل لتونس وسينماتها والذي يرى أنه حان الوقت لمنح الفرصة للشباب وتأسيس مدرسة فنية جديدة تقوم على مبدأ تكافؤ الفرص بين المبدعين، ولذا يدعو صاحب فيلم “حكاية صغار” من خلال هذا الحوار الذي أجري على هامش مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية في دورته العاشرة، المسؤولين عن قطاعي الثقافة والإعلام في تونس إلى الاهتمام أكثر بالفيلم الوثائقي الذي لم يأخذ حظه كاملا وهذا من خلال الترويج له.
كيف يرى القادم من الإعلام إلى السينما تعامل الإعلام التونسي مع الفيلم الوثائقي بعد ثورة 14 يناير؟
للأسف الإعلام التونسي لم يقم بمهمة الترويج للسينما الوثائقية والآن تقع عليه مسؤولية كبيرة لجعل الجمهور يتعود أكثر عليها مثلما تعود سابقا على أنواع فنية أخرى، فدور الإعلام هو صناعة مشاهد لديه قابلية أكثر نحو الأفلام الوثائقية، لكن اليوم نلاحظ أن عرض الوثائقيات في القنوات التونسية أصبح شبه منعدم، يحصل أن نصادف برمجة عمل أو أثنين لسد فراغ وهذا لا يساعد المتلقي ولا يخدم السينما، بل يهدد بشكل أو بأخر عادة الذهاب إلى صالات العرض خاصة وأن ثقافة الأفلام الوثائقية في تونس متأخرة والإعلام أحد أسبابها لأنه لم يكن جديا في التعامل معها ولم يروج حتى للمهرجانات التي تعنى بالوثائقي، وبالتالي هذه الوضعية كانت سبب تراجع صناعة الأفلام الوثائقية بتونس، والإعلام أغفل هذه التفاصيل بدل أن يقوم بواجبه ودوره التنويري والتوعوي والإعلامي في نفس الوقت، مع العلم أن ما مر به البلد في السنوات الأخيرة والتفاف المبدعين حول تورثهم لتوثيقها يمكن أن يثري كثيرا الرصيد السينمائي للبلد خاصة ما تعلق بالفيلم الوثائقي، أيضا هناك نقطة هامة يجب ذكرها وهي قضية استقطاب الفنان وهذا مشكل لا يقتصر على تونس بل يشمل حتى البلدان العربية، والاهتمام يحصل من قبل مؤسسات غربية تجدها تولي للفنان قيمة وأهمية أكثر من المؤسسات الوطنية سواء كانت مؤسسات إعلامية أو هيئات ثقافية وفنية، مما يجعل الفنان اليوم في السينما والمسرح، أو الموسيقى يميل في تعامله إلى المؤسسات الغربية أكثر من مؤسسات الدولة، والتوجه إلى السوق الغربية يفقد قضايانا قيمتها، ويؤثر سلبا على الإنتاج.
مع احتكار بعض الأسماء المحسوبة على نظام “بن علي” المشهد الفني وحصولها في كل مرة على الدعم والتمويل، كيف حاول المخرج التونسي فرض نفسه بين الفترتين، اخذ فرصته والظفر بدعم حكومي لمشروعه ؟
المشكلة يمكن اختصارها في الاحتكار الذي فرضته أسماء ولوبيات معينة كانت تشتغل في قطاع السينما وبقيت تحتكر الصناعة السينمائية الوثائقية في وقت كنا ننتظر أن تمنح الشباب الفرصة حتى يعبر أكثر عن مجتمعه ومشاكله ولكن هذا لم يحصل، فالفجوة كانت أيضا على المستوى الفكري قبل الثورة كنا نقول أن المشهد السياسي ضيق على حرية التعبير وعلى صناعة الأفلام وعلى الفن عموما وبعد الثورة زالت هذه الهواجس، لكن المشكل لم يحل بل بقينا نعاني من بيروقراطية في التعامل مع الشبان، حتى أن الأسماء التي كانت تشتغل في الساحة الثقافية قبل الثورة تقريبا هي نفسها التي بقيت تعمل وتنتج وتأخذ الدعم والمساعدة المالية واللوجستية من الحكومة، وبالطبع كل هذه التفاصيل أثرت سلبا على المشهد السينمائي والثقافي والفني بتونس، ما أحوجنا اليوم إلى جيل جديد من الفنانين والسينمائيين والمثقفين الذين يمكنهم إحداث نقلة نوعية في القطاع تؤسس فعلا لمدرسة فنية تختلف عن المدرسة القديمة في طرحها ورؤيتها للواقع بعيدا عن أية قطيعة بين الجيلين أو تنكر لجميل وانجازات من سبقونا، إضافة إلى قضية الاحتكار هناك مشكل أخر مثلا اليوم بوزارة الثقافة التونسية أغلب أعضاء اللجنة المكلفة بانتقاء الأفلام لا علاقة لهم بالفن، وفي هذه الحالة إذا أردنا التغيير والإصلاح لا بد أن نبدأ من الأساس، فقد بات ضروريا إعطاء الفرصة لمن يستحقها والابتعاد عن المدارس القديمة ومحاولة إيجاد البديل الذي يكون فيه المخرج والمنتج صاحب القرار، في هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن مبدأ تكافؤ الفرص، والفصل بين اللوبيات القديمة والموجة الجديدة من المبدعين هو الحال الأنسب.
لكن ليس من مصلحة الشاب أن يبقى ينتظر لسنوات التفاتة أو دعم حكومي قد لا يأتي بل عليه انتزاع هذه الفرصة بنفسه على خطى نماذج سينمائيين شباب عرب أليس كذلك ؟
تماما، ليس من مصلحة الفنان أن يبقى ينتظر الدعم والإصلاح، وإلا سنعود إلى سياسة الخضوع للأخر والتسليم بالواقع كما هو في انتظار البديل الذي قد لا يأتي مثلما قلتِ، كما أن الإصلاح الذي ننتظره من أعلى الهرم قد لا يأتي أيضا وهذه ليست نظرة تشاؤمية بل واقع نتمنى أن يحرك الشباب الموهوب ولا يقلل من عزيمته، ومن الحلول القريب والممكنة أن يتجه الشباب للبحث عن بدائل أخرى وهنا أقدم تجربتي نموذجا، فيلمي “حكاية صغار” الذي يتحدث عن الديانات الثلاث بتونس أنتجته من مالي الخاص دون أخذ دعم من أية جهة رسمية أو غير رسمية، هذا لا يعني أني صاحب مال ولكن مؤمن بمشروعي ومقتنع بفكرتي، الشيء الذي يواسيني لأجسد ما رسمته في ذهني حبا لعملي وخدمة للسينما التونسية، فالأهم عندي هو ترجمة الأفكار إلى شكل فني نتقاسمه مع أكبر قدر ممكن من المشاهدين حتى وان كان على حسابنا الخاص، وكفنانين لا يجب أن نبقى ننتظر الدعم بل يمكننا مثلا أن نوسع دائرة معارفنا ونبحث عن مصادر تمويل تتوافق وأفكارنا والسينما التي نقدم.
مع أن عامل الرقابة لم يكن مطروحا بعد الثورة كالسابق إلا أن الكثير من المخرجين التونسيين تسابق لإنتاج أعمال وصفت بالاستعجالية ما تعليقك ؟
من الانشغالات التي كانت تقلق صناع الأفلام الوثائقية ما قبل الثورة هو تضيق الخناق عليها، لكن بعد 14 يناير اتسعت مساحة التعبير ولم يعد الوازع النفسي الذي يجعلك دائما تفكر في السلطة والرقابة قائما، وتسابق السينمائيين بعد هذا التاريخ أفرز أعمال استعجالية بالفعل أغفلت المضمون وأخطئت الهدف، وتكالب بعض المخرجين إن جاز استعمال اللفظ وسعيهم لتسويق أعمالهم على حساب المحتوى والنوعية جعلهم ينقسمون إلى منصف للثورة ومقصر في حقها ومسيء لها، علينا أن نتجرد قليلا من السياسة وأن نبحث في أعماقنا عن الإنسان العربي بزوايا وجوانب جديدة، لذا أدعوا زملائي في تونس إلى الابتعاد عن السياسة فهناك مواضيع أخرى تستحق الاهتمام كتيمة الطفل والمرأة والبيئة فهذه المواضيع بالكاد نراها اليوم رغم أنها توثق لمراحل هامة من ثقافة وحضارة وماضي البلد خاصة أن الأمر يتعلق بالتاريخ الإنساني الذي يجب تدوينه جيدا حتى نحارب كل أشكال التزوير التاريخي للأحداث، فالأمر ليس مجرد مرحلة انتقالية في سياسة دولة، بل يتعلق بحياة الأفراد.
من كلامك نفهم أن ما صور وما أنتج لحد الآن لم ينصف بعد الثورة التونسية ؟
. لم أرَ بعد عمل يوثق حقيقة للثورة التونسية، ربما بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات سيظهر لنا عمل فني جيد أنصفها وتكلم عنها وعايش أحداثها بكل جوانبها وبزخمها الفني والثقافي والاجتماعي وبعدها الإنساني أيضا وليس عملا براغماتيا يسعى لتسويق المنتج فحسب.
بعد مشاركتك في مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية واطلاعك على التوجهات التحريرية للجزيرة الوثائقية، هل تفكر في البحث عن دعم وتمويل منها ؟
الجزيرة الوثائقية لها مقاييسها الخاصة التي تعتمدها لقبول أو رفض أي عمل، لذلك أظن أنني يوم أتقدم بقراءة بصرية أو بمعالجة لصورة أو موضوع ما يجب أن تكون في مستوى القناة، ويا حبذا لو تتبنى المشروع، فأي منتج أو مخرج يتمنى العمل مع قناة كهذه لها تاريخ محترم وانتاجات مشرفة، حاليا منشغل بالبحث عن مواضيع وأفكار تتطابق وتوجهاتها التحريرية يمكن أن تكون السنة المقبلة فاتحة تعاون مشترك.
ما هي المواضيع التي تهتم بها أكثر وتريد العمل عليها مستقبلا ؟
أميل إلى المواضيع التي تنقب وتبحث في التاريخ لنعرف منه حقائق غير التي تلقيناها في المقررات الدراسية، فذاك التاريخ مكتوب بقلم واحد وهو قلم السلطة، بعد البحث والتمحيص فيه أكيد سنجد أشياء جديدة، أحداث وشخصيات صنعت مجد هذا البلد لم تأخذ حقها وواجبنا دراستها وتسليط الضوء عليها، كما أن كتابة التاريخ سينمائيا والتعامل مع هذه المادة الحساسة يعني التعامل مع الذاكرة والخطأ غير مسموح بل يتطلب جهد إضافي لتنوير العقول، ومن هذا المنطلق ستكون لي مستقبلا مواضيع في هذا الجانب وسيرتكز اهتمامي على بعض الحقائق التي لم يتم تناولها أو التطرق إليها من قبل، لعلي أصل إلى أشياء جديدة وإجابات لبعض الأسئلة التي تطرح استفسارات كثيرة.
أخذ المبدع الحرية ولم ينل الدعم بعد، بناءا على كل المعطيات المذكورة كيف تتصور مستقبل السينما في ظل المتغيرات التي تعرفها تونس ؟
سأقول رأيي في الموضوع بعيدا عن تلك المعطيات وبناءا على بُعد شخصي واجتماعي، كل واحد منا حتى وإن لم يكن أكاديميا في تكوينه هو قادر على إنتاج فيلم وثائقي ولو بموبايله باعتباره من أكثر الوسائل استعمالا وتوفرا وأقل تكلفة، هناك قصص بسيطة يمكن التوثيق لها شرط أن تقدم بطريقة جيدة ونسق فني جميل يُعبر عن عمق الفكرة المطروحة، فيكون قيمة مضافة للعمل ولصاحبه وللسينما الوثائقية، إذن وجب إعطاء الفرصة للشباب حتى يقول كلمته ويجرب، فإن نجح فيقابل بالشكر والثناء على ما أنجز وتجدد الثقة فيه لتحفيزه أكثر، وان لم يوفق وأخفق فعلى الأقل يكون قد أخذ فرصته، وعليه سيقيّم تجربته لينطلق بأفكار جديدة بعزيمة أكبر، وفي الأخير يمكنني القول “لا خوف” على السينما التونسية التي تمتلك أسماء كبيرة وطاقات هائلة تستحق كل الدعم لتقديم مواضيع تليق بسابع الفنون والبلد، وسوف لن نبق مكتوفي الأيدي بل سنعمل حتى تحل المشاكل وتعطى لكل منا الفرصة التي ينتظر ويستحق.