سيرة أليس ووكر: الكفاح والإبداع ثمنا للعيش

طاهر علوان


” أنا امرأة يسعدني أن أّقدِّم للعالم وردتين هما : الأمل والعدل “

بهذه الكلمات تُحّلق الروائية والكاتبة الكبيرة والمناضلة “أليس ووكر” لتُلخِّص سيرتها الانسانية كما الإبداعية التي امتدّت إلى أكثر من نصف قرن وما تزال منتجة ومبدعة، إنها خلاصة تاريخ شامل عرفته أرض الولايات المتحدة وخاصة ولايات الجنوب أو مايعرف بالحزام الامريكي من السكان السود أو من الأصول الإفريقية، الفتاة التي ترعرعت في عمق الجنوب، في ولاية جورجيا  وسط حقول القمح التي تتهادى مع الريح على أنغام أغاني الجنوب فيما تظهر صورة جدة الكاتبة التي كابدت مآسي التمييز العنصري والعرقي، تظهر الجدة متكئة على عصا فيما تمضي وسط تلك السهوب لتعلن أليس أنها قد استمدّت اسمها الفني “ووكر” من مسير جدتها وكفاحها المضني، بهذه الصور المتدفقة نتابع فيلم “أليس ووكر”. الفيلم من إخراج بارتيبا بارمر والذي عُرض مؤخرا في المهرجان الدولي للسينما الوثائقية في أمستردام كما طاف العديد من المهرجانات من حول العالم.
تتدفق الصور بالأبيض والأسود مع مراحل طفولة وصبا وشباب أليس ووكر وهي في وسط ذلك لن تستغني عن كتابة الشعر في المراحل المبكرة من حياتها الإبداعية معلنة:” كان للآخرين مشكلة في اختياراتي، مع ما أحب وأي شيء أفضله أو أختاره، كنت على الدوام أواجَه بالمشاكل”. وفي واقع الأمر لم يكن طريقها إلا طريق الكفاح والدفاع عن الحريات المدنية لاسيما وأنها واكبت انتفاضات السود آنذاك ممثلة في ثورة مارتن لوثر كنج وقد شاهدته بعينيها ساعة أُلقيّ القبض عليه لتصرخ “لقد تغلغل مارتن في قرارة روحي”. ثم لتسجن هي أيضا إبان تلك الحركات الاحتجاجية دون أن تتوقف عن كتابة شعرا يتغنّى بالحياة والحرية .

2

في الطفولة المبكرة ومن بين ثمانية من الأخوة والأخوات يصرخ أحد العنصريين في وجه الأم: كان عليك أن تتخلصي من كل هؤلاء الصبية والأطفال لأنهم بلا فائدة لكنها تنتفض في وجهه مؤكدة أن أبناءها سيتعلمون وسيكونون شيئا، ولهذا ستعمل الأم 11 ساعة في اليوم في مقابل 17 دولار أسبوعيا لتغطية نفقات دراسة أليس، هذا ما ترويه، وتبقى تلك الكلمات تتردد أصداؤها في عقلها الصغير لاسيما وهي ترحل نحو ولاية أتلانتا بعد حصولها على زمالة دراسية ولتتخرج في العام 1965 في قمة ثورة الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة .
تمضي وقائع الفيلم في تتبُّع يوميات تلك الفتاة والتحولّات التي مرّت بها في حياتها في بناء كثيف تقطعه وقفات مع نصوصها الشعرية وخواطرها ومذكراتها، وهي نصوص لا تفارق بيئة الجنوب فهي تمزج صورا بالغة الشاعرية موغلة في عشق الطبيعة أرض الجنوب الخضراء وسماءه الصافية، وفي نفس الوقت أصوات الشقاء والمظلومين في تلك البقاع .
تحت وقع ثورة الحريات وأغاني منتصف الستينيات  تلتقي ووكر كاتبا وثائرا مدنيا ولكنه أبيض وديانته يهودية وهو الشاعر والمؤلف المعروف ( ميلفين ليفنثال ) ويرتبطان بعلاقة وثيقة تتوج بالزواج والإنجاب وسط استغراب بيئتها الثائرة أصلا على البيض ونزعتهم العنصرية إبان تلك الحقبة ولهذا كانت على الدوام تردد: نعم أنا مختلفة.. لكن الصدمة الأكبر كانت صدمة أسرة ميلفين نفسها كما تتحدث في الفيلم في رفضها القطعي لتلك العلاقة وذلك الزوج.. الزوجان السابقان والصديقان والطليقان يرويان جوانب من تلك الذكريات بمزيد من الحنين.

3

يتابع الفيم مرحلة النضج في مسيرة ووكر، مرحلة تجمع فيها بين التدريس والكتابة في وسط أجواء محتدمة تنادي فيها بحقوق المرأة وحريتها من خلال الحركات النسائية التي تناغمت مع احتجاجات السود لتعمل في مجلة (Sisterhood) وهي علاوة على كونها مجلة فقد تحولت إلى ملتقى للنساء السود ومنبرا فكريا مُهمّا استقطب الكثير من الكاتبات والناشطات المدنيات، وبسبب انهماكها في تيار مساندة الحريات تعلن أنها تشعر مرات أنها “تحمل في عقلها صور وحياة 12 شخصا يعيشون ويتكلمون في رأسها وأن عليها العناية بهم”. واقعيا ظلّت أصداء ناس الجنوب لا تفارق مخيلتها،العذابات والاضطهاد ،صراخ الضحايا ،الازدواجية والعنصرية كلها تجلّت في كتاباتها .
يقدم الفيلم مزيجا من نصوص أليس ومذكراتها وأجواء الحركات النسائية والمدنية في تدفّق مؤثر عميق للشاعرية، وهو ما رفع من شعبية وأهمية أليس ووكر ومنحها مكانة رفيعة ظلّت تتعزّز في جميع الأوساط على أنها الكاتبة السوداء المتفردة التي ولدت لكي تكون كاتبة ولهذا تواصل جولاتها في المدن الأمريكية، تقرأ من نصوصها وتلتقي جمهورها وتُعرِّف بالنضال من أجل الحقوق المدنية التي نذرت نفسها من أجلها. وهي تعلن مرارا مقولتها الشهيرة:” إن صفتي كناشطة  هو الأجر الذي عليّ أن أدفعه ثمنا للعيش في هذا العالم” ، ولهذا ستضيق بها الساحات وسيتسع كفاحها وينطلق صوتها باتجاه بؤر الأزمات في العالم وحيثما وجد الظلم : من إفريقيا إلى فلسطين، سيصدح صوت أليس ووكر من أجل المظلومين .

4
بعد رواياتها التي احتلّت صدارة المبيعات: الحياة الثالثة لجرانج كوبلاند1970   ورواية مريديان 1976 وصولا إلى روايتها الأشهر “اللون القرمزي” التي نالت عنها جائزة البوليتزر عام 1982  وهذه الرواية تحكي فصولا من حياة عائلات إفريقية في ولاية جورجيا في حقبة الثلاثينيات وفيها كثير من الذاتية وكثير من العنف أيضا ومناقشة قضايا السود، وقد حفل نشرها بطبعاتها المتعددة بجدل واسع في أوساط السود فضلا عن أوساط النقاد وهو ما لفت أنظار المخرج الكبير ستيفن سبيلبيرغ حيث بدأ بمراسلة الكاتبة طالبا إعداد روايتها للسينما وظلّت مراسلاتهما المشتركة لسنوات حتى رأى الفيلم النور في العام 1985  من تمثيل داني جلوفر و ووبي جولدبيرغ فضلا عن صاحبة البرامج التلفزيونية ذائعة الصيت أوبرا وينفري، وقد رشح الفيلم لنيل 12جائزة أوسكار في مختلف الأقسام كأفضل إخراج وأفضل سيناريو وأفضل تمثيل وأفضل موسيقى وغيرها .. لكنه لم يفلح في الحصول على أي من تلك الجوائز .

وفي المقابل تروي ووكر كيف جوبه الفيلم بانتقادات من جهات شتى، تقول أنها استمعت لكثير من النقد الذي خلاصته أنها قد قامت بتشويه حياة وتاريخ السود من خلال تلك العلاقات المختلة وغير الطبيعية والتي لم تظهر حقيقة الشخصيات ودوافعها بل ألحقت بها تشويها مُخلّا، فيما هي تدرأ عن نفسها هذه الاتهامات معلنة أنها قدّمت عملا مهما وسبيلبيرغ أكمل المهمة في تقديم فيلم متميز بدليل النجاح الذي أصابه كلا من الرواية والفيلم وهو مالم يشفع كثيرا لها أمام موج الانتقادات التي طالت الرواية والفيلم .
5
تجول ووكر من خلال الفيلم في فضاءات حياتها، تعيش في منزلها الصغير وسط الطبيعة التي لاتستطيع أن تتخلى عنها بعد أن تخلّى عنها  العديد من الناس، تسترجع صورا يكتنز بها الفيلم لطفولة ابنتها الوحيدة ريبيكا التي صارت – وياللمفارقة – عدوة لها ، تعتبرها أنانية وأمّا غير صالحة، وتعترف هي أنها كثيرا ما انشغلت عنها بسبب كثرة أسفارها والتزاماتها لكنها لم تتخلّ عن حبها يوما، وهي تشعر بالألم لما تُصرِّح به ابنتها مرارا …
تستشعر تلك المرارة لتروي كيف كادت تفقد عينها عندما كانت صغيرة وأطلق شقيقها باتجاهها سهما بلاستكيا من تلك التي يعبث بها الصغار مما جعلها تدفع الثمن من قدرتها على الرؤية لأن أمها لم تستطع حينها أن تنقلها إلى المستشفى لعدم وجود مستشفى قريب آنذاك، وتتداخل الصور في ذاكرتها لكنها  تخرج من وسط كل ما كان لتعلن أنها حرة تماما وتدافع عن المظلومين لتتوِّج سيرتها في دفاعها عن غزة المحاصرة وتشارك في رحلة إلى هناك عام 2009 ولتروي فصولا من مآسي ما شاهدت.
 وكانت قبلها وفي مهرجان في مدينة تورنتو الكندية قد طالبت من خلال عريضة وقعها عشرات المبدعين إلى إدراج الكيان الصهيوني كنظام للفصل العنصري وهو ما أثار ضدها تيارات الضغط واتُهمت بمعاداة السامية ومازالت حتى اليوم تهاجَم وتشوَّه سمعتها في كل الاتجاهات بسبب هذا الموقف لكن ذلك لم ينل شيئا من سيرة واسم أليس ووكر المبدعة الكبيرة والإنسانة .


إعلان