في مُعسكر المُرَشَّح الخاسر

محمد موسى

ينتمي الفيلم التسجيلي “ميت”، للمخرج الأمريكي الشاب كريغ وايتلي، ببنائه والنفَس الملحمي وما يكشف من خفايا حياة سياسية مُثيرة وهشاشة شخصيات عامة، إلى اتجاه استثنائي في السينما التسجيلية، فمنجزه لا يقتصر فقط على نقل كواليس مجهولة لحملة انتخابيّة طويلة لسياسي (ميت رومني) للظفر بمنصب الرئيس الأمريكي، والتي سجّلها الفيلم بحسّاسيّة وتفصيلية رائعتين، وصاغها في بنية سرديّة مُشوقة. هو يركز على تيمة العائلة، كقيمة كونية لا ترتبط  بزمن، فالفيلم، هو في جوهره عن عائلة السياسي الأمريكي، علاقاتها الداخلية وتفاعلها مع ما مرّت به من أحداث. نَقَلَت العدسة خصوصية تلك العائلة وما تشترك به مع أُسَر أُخْرَى حول العالم، والدينامية التي نشأت بين أفرادها في تلك الأوقات الصعبة المُتطلبة، والحميمية التي تفجّرت من التفاصيل الصغيرة. هذا كله، قُدم بصِدق لم نشهد مثيل له منذ سنوات عديدة.

حظي كريغ وايتلي بفرصة غير مسبوقة لتصوير الحملة الانتخابيّة الطويلة لميت رومني (من 2008 إلى 2012). لم ينشغل المُخرج الشاب بالحياة العامة للمرشح الجمهوري، فهذه متوفرة ومؤرشفة بعناية. هو اختار أن يسجل قلب الحملة الانتخابيّة، والتي مثلها عائلة المُرَشَّح المتدين، زوجته، وأبنائه الخمس، وزوجاتهم والأحفاد. هذا سيوفر خطاً سردياً عائلياً غير مألوف على الأفلام التي تتناول شخصيات عامة. كان المخرج مع العائلة وهي ترافق الأب في اللحظات الكبيرة من الحَمْلات الإنتخابيّة، وكان هناك بانتظارهم بعد أن ان��ضت تلك اللحظات. صورت الكاميرا العائلة قبل وبَعد السيرك الإعلامي المعروف. كان من حسن حظ الفيلم أن العائلة لم تعتبر المخرج جزءاً من ذلك “السيرك”، فغلبت التلقائية الشديدة على الحوارات التي سجّلها الفيلم مع ميت رومني وعائلته، وكأن العائلة، عندما منحت الإذن للمخرج بالتصوير، قررت ضمنيّاً أن لا تلبس أقنعة جديدة إضافية.

يُفتتح الفيلم بمشهد معتم صُوِّر في غرفة فندق، لرومني وفريق حملته وعائلته. يقطع ميت رومني الوجوم الذي كان يُخيِّم على الحاضرين، عندما مزح بحزن واضح، بأن عليهم أن يفكروا بخطاب الهزيمة. هي ساعات ما بعد هزيمة انتخابات عام 2012، والتي خسرها رومني للرئيس الأمريكي باراك أوباما. لكن الفيلم لن يبدأ من انتخابات عام 2012 بل يعود إلى عام 2008، عندما نافس رومني ، حاكم ولاية ماساشوستس وقتها، على انتخابات حزبه الجمهوري للترشيح عن الحزب في انتخابات الرئاسة لعام 2008. خسر رومني انتخابات عام 2008 بين أعضاء حزبه، لكن سيعود ويفوز بثقة هذا الأخير بعد أربعة أعوام، لينافس، وهو السياسي المجهول، واحداً من أكثر زعماء العالم شعبية، على منصب رئيس أكبر قوة على الأرض.

لن يُغرق الفيلم نفسه بتفاصيل العملية السياسية وتشعباتها، هو بالمقابل يحاول أن يقدم بورتريه  مُختلف للمرشح، المسيحي المتدين، والزوج ورجل العائلة. لكن هذا البورتريه لن يكون ناجزاً بالكامل أو تقليدياً، فالمخرج بدا مأخوذا بالعائلة ذاتها، علاقتها مع الأب، وأيضاً بالأثمان التي يدفعها السياسيون من حياتهم الخاصة. لن ينشغل الفيلم مثلاً بالتوقف عند مواقف المرشح من قضايا اجتماعية وسياسية حساسّة، وفَضَلَ أن يركز على “الرجل” عوضاً عن “السياسي”، وكأن تناولهما معا سيقود بالضرورة لتقديم صورة هجينة نمطية. يفرد الفيلم مساحة كبيرة لاستعدادات ميت رومني لمناظرة الرئيس أوباما، فيصوره في مشاهد عديدة وحيداً في ممر، قبل ظهوره على شاشات التلفزيون. ثم بعد عودته إلى الفندق، حيث كانت تنتظره العائلة، والمشاعر المتضاربة لهذه الأخيرة وتقييماتهم غير الحازمة لأداء الوالد.

هناك الكثير في الفيلم الذي يُمكن أن يخاطب ويعجب المتابع السياسي العاديّ، الذي يبحث في الوثيقة التسجيلية عن خفايا الأحداث التي مرت، كالمشهد الذي يصور من داخل طائرة المرشح قبل أن تصل إلى إحدى التجمعات الشعبية، والرهبة التي بدت واضحة على ميت رومني وعائلته من لقاء الجمهور الغفير. ثم المشهد المبتكر لباب الطائرة الذي يفتح، والزوجين ينزلان الدرج. هذا المشهد بالذات، يوجد ما يكمله في تغطيات التلفزيون للحدث ذاته، لكن من زوايا تصوير مختلفة. مشاهد مشابهه أخرى ستتوزع على وقت الفيلم، لكن تركيز العمل سيكون بالأساس على الأجواء العائلية لرومني، فاهتم بلحظات الضعف والشكوك التي راودت الأبناء، الذين اشتركوا جميعا في الحملة الانتخابيّة  لوالدهم، وصلابة الأُمّ وتدينها، حتى عندما تَكَشَّفَ أَمر مرضها، امتنعت عن مناقشته أمام الكاميرا.

لاشك أن المخرج واجه معضلات كبيرة لاختيار المادة النهائية للفيلم، من بين الساعات الطويلة التي صورها في فترة الست سنوات، التي رافق فيها ميت رومني وعائلته. هو استَلَّ من كل تلك المواد الصوريّة اتجاهاً سرديّاً خاصاً مؤثراً. هذا وحده يستحق الإشادة، بخاصة أن اختيار ما يصل إلى الفيلم النهائي، يُعد غالباً أصعب مراحل إنتاج أفلام تتناول فترات تاريخية مُثيرة، كالتي سجلها كريغ وايتلي في مشروعه التسجيلي الطويل. أما صورة ميت رومني في الفيلم، والتي ربما لا تُشبه تلك الصورة الإعلامية الشائعة عنه، فكانت مفاجأة الفيلم بحق، بتواضعه الكبير، وعلاقاته الطيبة مع من حوله، والارتباك والخجل في شخصيته، والتي قابلها برباطة جأش لافتة. يصور الفيلم في مشاهده الختامية رومني وزوجته وهما يعودان إلى بيتهما بعد حملة طويلة مرهقة. لا يمكن، وبعد مشاهدة الفيلم، إلا الشعور بالحزن  لنهاية الحياة السياسية لهذا الرجل، حتى لو اختلفت مع الآراء والمواقف التي يُمثلها، هو، أو حزبه الجمهوري اليميني.


إعلان