في الهند.. لا مكان للنساء!

قيس قاسم

المشهد العام واللقطات التفصيلية لمدينة دلهي لا تشي بالعنف الكامن فيها، كما أنها لا تطفح بالسعادة التي غالباً ما تطبع الأفلام الترويجية عن الهند ومدنها. بدت دلهي في مفتتح فيلم أشوك باراساد مثل أغلبية المدن.. نهار ضاج بالحركة وليل هاديء مسكون بظلام دامس، يبعث على الريبة. في المشهد العام نرى المرأة الهندية حاضرة لكن ثمة تفاصيل أخرى تصاحب وجودها في شوارع المدينة ليلاً توحي باحتمال حدوث شيء ما لها؟ من هذا الإحساس المبطن بالتوجس من وجود مخاطر يذهب الوثائقي مباشرة إلى الوراء (فلاش باك) إلى حدث هز الهند قبل عامين حين تعرضت فتاة هندية تدعى جوتي لعملية اغتصاب جماعي واعتداء جسدي  في أحد باصات النقل أدى الى موتها ما أثار موجة من الاحتجاجات وخروج عدد كبير من المظاهرات في عموم الهند تطالب بتوفير الحماية للمرأة وتعديل القوانين الخاصة بها كما طالبت بإعدام الجناة حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الذين تسول لهم أنفسهم الاعتداء وحتى التحرش بالنساء في رابعة النهار وعتمة الليل وفي سلوك اجتماعي صار شبه عادي ومألوف؟!. 

رادا بيدي

ينتقل الشريط الوثائقي وعلى غير المنتظر من مدخله المحلي إلى لندن ليسجل دوراً رئيساً في بنائه الدرامي للشابة البريطانية الهندية الأصل رادا بيدي فيصبح بدلاً من باحث في تفاصيل الظاهرة إلى طرف مباشر فيها يحمل في متنه رؤية مزدوجة خارجية ومحلية ما يعطي للظاهرة بعداً شمولياً يتجاوز قطعاً الهند إلى مناطق أخرى من العالم. بنقلته المكانية وطبيعة الشخصية المختارة خلق لنفسه طابعاً عالمياً لكنه ظل وفياً لمحليته ومحافظاً في نفس الوقت على طبيعة الشخصية البريطانية النشأة  والتي ستزيح كثيراً من حياديتها عندما سنكتشف أنها قد تعرضت للتحرش الجنسي أثناء إحدى زياراتها الى الهند بصحبة عائلتها.
لا تتمتع الشابة رادا بموصفات الصحافي المحترف، مع أنها وفي جزء كبير من مهمتها لعبت هذا الدور، لكنها ظلت منحازة إلى آدميتها وتعاطفها مع الضحايا لدرجة صارت دموعها وأحزانها المعلنة إحدى وسائل التعبير الصارخة عن بشاعة الحالات المقدمة في الوثائقي الطموح  الذي أراد الإحاطة بما تتعرض له المرأة الهندية من انتهاكات تتجاوز الاغتصاب إلى التحرش الجنسي والهجوم على الفتيات بالأحماض الكيماوية وتبعات تفضيل ولادة الذكور على الإناث بالإضافة إلى البحث عن مكنونات الظاهرة الاجتماعية وموروثاتها الثقافية. المدة الطويلة التي قضتها في الهند منذ “جريمة الباص” حتى إصدار الأحكام القانونية بحق الجناة مكنتها من إجراء مسح معقول لحالة المرأة الهندية وعلى نطاق جغرافي واسع مستعينة في تجوالها بصديقاتها الشابات وبالمعارف إلى جانب المعنيين المباشرين بالقضية وبذاكرتها أيضاً حين تعلق الأمر بما تعرضت له في السابق. على المستوى التقني استخدم المخرج باراساد أسلوباً سينمائياً جمع فيه المعلومات المكتوبة على الشريط إلى جانب الكلام المنقول من شخصياته الرئيسية وركبها كلها في إطار مشاهد معبرة وغنية أُخذت معظم لقطاتها من زوايا قريبة ومتوسطة فغلب على الصورة الطابع التلفزيوني، الذي اغتنى بمساحة كبيرة من المشاعر الفياضة أخذت طريقها إلى المشاهد دون ابتذال. واحدة من النقاط المهمة التي التفتت إليها رادا حجم الفقر المحيط بالمدن الكبيرة، الذي لم تنتبه إليه خلال زياراتها “السياحية” مع الأهل، وملاحظتها بوضوح نسبة انتشار الجرائم ذات الطابع الجنسي  في البلاد من خلال ملاحقتها  لما تنشره وسائل الإعلام التي تغطي واجهاتها يومياً أخبار الاغتصاب الجنسي والاعتداء بالأحماض الحارقة على وجوه الفتيات. وانتبهت خلال تجوالها مع صديقاتها الى انتشار التحرش بالمرأة في الشوارع وتفسيره السهل بفلسفة اجتماعية ذكورية تسميه “إغواء حواء وملاطفة آدم”. تفسير يعود إلى التاريخ حيث اُعتبرت إغاظة آدم لحواء كنوع من الملاطفة. ما يترشح من حوارات بين الشابات، حول التفسير الذكوري الجاهز للتحرش، يكشف عن شعور طاغ

 

لديهن بأنهن “نساء مغويات” يتجولن في الشوارع  لإثارة الرجال وأن أنظار بعضهم اليهن تشبه عملية “اغتصاب” غير مباشر، مبررة بذرائع اجتماعية وبثقافة ذكورية تُجيّر النصوص التاريخية لمصلحتها. قبل ذهابها إلى محامي بعض المتهمين بجريمة الباص يعيد الشريط، بمشاهد افتراضية وبناءً على شهادتها، ما تعرضت له من تحرش جنسي في أحد محلات بيع الملابس النسائية ولم تنتبه إليه جيداً باديء الأمر ولكنه وحين تمادى البائع بفعلته شعرت بالقرف وهرعت هاربة من المحل، كما تكرر الأمر معها أثناء ركوبها سيارة أجرة وقيام سائقها بملامسة ساقها أثناء جلوسها في المقعد الأمامي. شهادة تضع حقائق تتعلق بالنشأة واختلاف مفهوم الجسد باختلاف الثقافات ووصف دقيق لشعور المرأة حين تتعرض للتحرش ومن بينها؛ خوفها من التفكير به ومحاولة نسيان تفاصيله!.
في مكتب المحامي الذي قَبل الدفاع عن بعض المتهمين بعد أن رفض كبار المحامين في البلد القيام بذلك سمعت ذات الكلام الذي يعود في جوهره إلى الثقافة التبريرية الذكورية وأحال به جزءاً كبيراً من أسباب الاعتداء على الشابة جوتي إلى قلة حشمتها وأن النساء المحترمات لا يتعرضن للتحرش!. لم يقدم تفسيراً لماذا مارسوا معها أشد أنواع التعذيب وحشية لدرجة أخرجوا فيها بعد اغتصابها أحشاءها من داخلها وقاموا برميها مع الشاب الذي كان برفقتها إلى خارج الباص وأرادوا دهسهما تحت عجلاته؟. عنف منفلت مخيف دفع آلاف من الناس للخروج يومياً في مظاهرات حاشدة يشعلون فيها الشموع ويرفعون شعارات منددة بالشرطة والحكومة وقد شاركت رادا في العديد منها لمعرفة ما تريده النساء وما الذي يجري حقاً في البلاد؟.
يخرج الوثائقي الهندي “الهند: مكان خطير أن تكون به امرأة” من دلهي إلى مناطق أخرى من البلاد تتسم بطابع فلاحي ومن بينها البنجاب التي لها أقارب فيها، بعد أن ألحت بطبيعتها السجالية على زيارة شابة في دلهي تعرضت لتشويه مخيف في وجهها وجسدها لأسباب تتنافى تماماً مع كلام المحامي لأن الصبية وبسبب حشمتها واحترامها لذاتها وعدم خضوعها لرغبات طالب في مدرستها تحطمت حياتها ومستقبلها. لقد دفع رفضها الكلام معه وتحقيق ما يريد إلى الانتقام  منها برشها بحامض الأسيد لينهي وجودها وهي على قيد الحياة ـ  في البنجاب التقت أقاربها في حفل عائلي أقيم بمناسبة ولادة أحدى السيدات مولوداً ذكراً. من أحاديث النساء جمعت حصيلة أذهلتها من بين مفرداتها أن ولادة بنت في الهند يعني حلول الخراب على البيت الذي ولدت فيه لأن من شأن ذلك تكليف أهلها موارد مالية كبيرة عندما يحين وقت تزويجها، فوفق تقاليد الهند على عائلة الفتاة إحضار المهر وتجهيز البيت، بالمقابل تستَغل عوائل كثيرة زواج أولادها لابتزاز أهل الصبية وأخذ أكبر كمٍ من المال منهم وعكسه فإنهم يحولون حياتها

 

إلى جحيم. تكشف نساء القرية لها عدد حالات الانتحار والقتل التي وقعت في قراهن ودافعها في الأغلب التخلص من عبء الفتاة، وما زالت هناك حالات لوأد الفتيات يتستر المجتمع عليها والظاهرة ليست محصورة في الأرياف بل تمتد إلى المدن وبين المتعلمين أيضاً كما دونتها زيارتها إلى عديد النساء في مدن كبيرة بعدة عودتها من إقليم البنجاب. كل ما سجلته وعايشته الشابة البريطانية الهندية الأصل يبيّن حقيقة أن لا مكان للنساء في الهند وكل مظاهر التمييز الاجتماعي تُفسر وجود الظاهرة فالثقافة الذكورية والرغبة في السيطرة والتحكم والموروث الثقافي الشعبي تجد تعبيراتها في فعل الاغتصاب والتحرش بما يستوجب النظر بتمعن في حقيقة المجتمع الهندي بعيداً عن بهرجة أفلام بوليوود حيث الراقصات الجميلات فيها يعبرن عن فرحتهن بالحياة وحب الرجل الذي يرغبن فيه بالغناء الجميل والألوان المبهرة. بين أسطورة الهند المتنورة والمنفتحة اجتماعياً وبين فيلم “الهند: مكان خطير أن تكون به امرأة” بون شاسع، جسدته زيارة رادا إلى والد الضحية جوتي، بعد إصدار أحكام الإعدام بحق المتهمين بقتلها واغتصابها. لم تُعِد إعداماتهم ابنته إليه لكنها أراحت ضميره فيما ظلت رادا قلقة على مستقبل بنات جنسها تشاطرها قلقها ملايين النساء الهنديات اللواتي ما زلن يتظاهرن دون كلل ويشعلن الشموع من أجل العيش بسلام ودون خوف من الخروج في الليل أو الظهور إلى النور في صباحات الهند الجميلة.


إعلان