من الكِتاب إلى السينما: “ليبارك الله فرنسا”
ندى الأزهري – باريس

مُتعدّد المواهب، مُغني راب شهير وشاعر وكاتب وها هو اليوم يُحقِّق أول فيلم سينمائي.
عبد المالك، “ريجي” سابقا، كان جانحا من سكان الضواحي الفرنسية. بعد فترات من التخبُّط والبحث عن الذات وعن هدف للوجود، اختار طريق الإيمان والتصوف. في كتابه ” ليبارك الله فرنسا” الصادر عام 2004 في فرنسا، سردٌ لسيرته الذاتية و طريقه على درب الإسلام. لم يكن يفكر في بداية الأمر بتحويل الكتاب إلى فيلم لكن “قوة السينما” هي التي جذبته. فالسينما هي “هذا الفن الذي يتحلّى بقدرة إنسانية كبيرة، ويسمح بالتوغل خلف المظاهر، ليبيّن أن الكائنات تعمل بنفس الطريقة” كما يقول في لقاء معه. تجربته السينمائية الأولى بإخراج السيرة كانت بهدف نقل نظرة أحد أبناء الضواحي، نظرة من الداخل تبدي صورا حقيقية بعيدة عن تلك النمطية وعن الأفكار المسبقة التي تحيط بسكان هذه المناطق المهمّشة.
في ” ليبارك الله فرنسا” ( Qu’Allah bénisse la France) الذي يُعرض في دور السينما الفرنسية هذه الأيام، بدا تأثر عبد الملك واضحا بفيلم علّم السينما الفرنسية كأول عمل يُظهر الضواحي الفرنسية بواقعها الصادم وحياة أبنائها الشباب المنغمسين في الجريمة والفراغ والعنف. بيد أن فيلم ” الكراهية” (La Hain 1995)لصاحبه ماتيو كاسوفيتز ( Mathieu Kassovitz) لم يجعل من الإسلام موضوعه، بل إنه لم يتطرق له حتى رغم كثافة حضوره في الضواحي. لعل ذلك يعود إلى أنه لم يكن على هذه الدرجة من التأثير التي يملكها اليوم.
أم مكافحة وأبناء على هواهم

ريجي” المراهق وأخواه يعيشان في إحدى ضواحي مدينة ستراسبورغ مع والدتهما المسيحية، أم مكافحة قادمة من الكونغو. يمضي وقته بين المدرسة والسرقة وترويج المخدرات والمشاغبة، سلوك شبان الضواحي “التقليدي” كما يصوَّر على الدوام، وكما يصل عبر الإعلام. بيد أن “ريجي” يتحلى بخصلة نادرة في هذه الأجواء، فحبّ المطالعة يجعل من الكتاب رفيقه الملازم له حتى بعد عملية سرقة عجوز وتقاسم الغنيمة. إنه كذلك مهتم بالإسلام.
يُقسم السيناريو، الذي كتبه عبد المالك أيضا، إلى مراحل تركت كل منها أثره في حياته ووجهته نحو طريق الخلاص من عيش محكوم عليه بالفشل والضياع. كان أولها لقائه مع أستاذة الفلسفة في الثانوية التي كانت دروسها حافزا له للتأمل الوجودي، ثم جاءت صدمته عند تصفية عصابة من الحيّ لأحد معارفه الشباب وهو شقيق محبوبته الفتاة المغربية (صابرينا وزّاني) التي فتحت عيناه على التجربة الصوفية، وكان استماعه فيما بعد لخطبة الإمام في المقبرة عند دفن الشاب العامل الحاسم الذي دفعه لاعتناق الإسلام. أحداث شكّل أحدها تلو الآخر، إضافة إلى عشقه الثابت للموسيقى وللتأليف الموسيقي، منعطفا كان يقربه أكثر فأكثر من روحانية الإسلام وتسامحه وتقبُّله لكافة الأطياف والألوان.
بين الكتاب والفيلم

قد يرى قارئ الكتاب أن السيناريو لم ينجح في التعبير بالعمق المطلوب عن التحولات الجذرية في الشخصية، فيفاجئ بها ولا يقتنع تمام الاقتناع بدوافع الفتى. يشهد المشاهد تطور الشخصية دون أن يرافق تماما هذا التطور، كما أنه يشعر بفراغ السيناريو رغم غنى الكتاب. يركّز الفيلم، كما السيرة، على تفرد تجربة عبد المالك ونجاحها في محيط يسيطر عليه الفشل والانحراف وأصدقائه خير مثال. وتبدو شخصيته القوية الواثقة التي تفرض نفسها على الآخرين وعلى الظروف بمثابة عامل حاسم في تحكمه بمصيره، لكن الممثل (مارك زينغا) الذي أدّى الدور لم يبدُ على الدرجة المطلوبة من قوة الحضور.
ربما تكون تلك أمور لا ينتبه لها حقا من لم يقرأ الكتاب وأعجب بعمقه وتابع مع بطله تساؤلاته وحيرته وتحولاته. تلك هي دائما مشكلة نقل العمل الأدبي. هنا تمحورت هذه على صعيد المضمون، لكن الفيلم نجح على صعيد الشكل. فالمخرج بدا مهتما بالهمّ الجمالي واختار التصوير بالأبيض والاسود، صحيح كان هذا كنوع من التكريم لفيلم “الكراهية” الذي ترك أثره الكبير عليه، لكنه باختياره أضفى جمالية و أجواء خاصة على شخصياته وأحداثه. لقد استعان عبد المالك بـ” بيار عايم” مصور” الكراهية”، “فكانت أجواء العمل وزوايا التصوير والكادر تحيل إلى ذلك فيلم لكن دون أن تكون مقلدة له. و لعبت الموسيقى التصويرية بجودتها و بتنوعها، حيث جمعت بين الموسيقى الإلكترونية (لورانت غارنييه) وأغان لشريكة عبد الملك الحالية وموسيقى الراب المؤلفة خصيصا للفيلم، دورا في فهم بعض من أبعاد الشخصية ومحيطها، كما بدا ديكور الأمكنة الداخلية والخارجية أقرب ما يكون إلى الواقع.
صور الفيلم في ضاحية ستراسبورغ حين نشا عبد المالك واستغرق تحضيره ستة شهور لكن فترة التصوير لم تتجاوز الشهر. فيلم من الأفضل ألا تقرأ الكتاب قبل مشاهدته لأنه هذا يبخسه حقه بعض الشيء!