طفل الموسيقى .. طفل السينما

قراءة في الأفلام المغاربية الفائزة في الدور التاسعة لمهرجان سلا

رامي عبد الرازق

لقطة من فيلم “سينما باراديزو”

ضمن فعالياته العديدة التي تنمو دورة بعد أخرى، اقدم المهرجان الدولي لأفلام المرأة بسلا في نسخته التاسعة على تعيين جائزة جديدة باسم “جائزة الجمهور الشبابي” والتي تم الاستقرار على أن تُمنح بداية من الدورة الحالية وخلال الدورات القادمة، وذلك في أقسام الأفلام المغربية التي يتضمنّها المهرجان، وهي نافذة على الفيلم المغربي الطويل والقصير بالإضافة إلى قسم سينما البلد الضيف والتي تم اختيار “بلجيكا” هذا العام لعرض أبرز تجاربها السينمائية من خلاله.

من المعروف أن جائزة الجمهور في أي مهرجان سينمائي هي جائزة تُمنح عبر جهة دعم أو إعلان من الشركات التي تساهم في تمويل ورعاية المهرجانات، ولكن أهميتها لا تأتي من جهة الدعم ولكن من كونها تصبح جائزة محفزّة للمشاهدة والمتابعة، حيث يستشعر الجمهور أنه ضمن لجان التحكيم التي تُقيِّم الأفلام وتختار أفضلها وأكثرها تأثيرا وقوة وطزاجة لمنحه الجوائز، وتعتبر جائزة الجمهور نموذج الجوائز التفاعلية من الدرجة الأولى، لأنها تعتمد على ما يشبه استقراء رأي الجمهور في أفلام البرامج المختلفة التي تعرض خلال أي دورة.

من هنا قررت إدارة مهرجان سلا أن يكون لجمهور المدينة خاصة من الشباب الفرصة لكي يشارك تفاعليا مع الأفلام المغربية الطويلة والقصيرة – الروائية تحديدا – المشاركة في نوافذ العرض المتاحة عبر المهرجان، من خلال نظام بطاقات استطلاع الرأي التي تمنح لهم عقب مشاهدة كل فيلم، وفي ذلك الإطار منح الجمهور الشبابي – المغربي – جائزتين في نهاية الدورة التاسعة ذهبت الأولى إلى الفيلم الطويل “جوق العميين” للمخرج محمد مفتكر، والثانية للفيلم القصير “دوار السوليما” للمخرجة الشابة أسماء المدير.

وكانت نوافذ الفيلم المغربي قد ضمّت عبر فعاليات الدورة التاسعة خمسة أفلام مغربية طويلة – من بينها “طوق العميين” – “الوشاح الأحمر” لمحمد اليونسي و”رهان” لمحمد كغاط و”ملاك” لعبد السلام الكلاعي و”الفروج” لعبد الله توكونة. وخمسة أفلام قصيرة – من بينها دوار السوليما -هي”دنيا” لجنان فاتن و”شكر غريب” لسميرة آيت القاضي و”نقطة رجوع” لزينب الأشهب و”كونيكسيون” لنادية غالية لمهايدي.
والملاحظة الأساسية بالطبع على نوافذ الفيلم المغربي خلال الدورة التاسعة هو حرص إدارة المهرجان على أن تكون الأفلام القصيرة الخمسة لمخرجات وذلك ضمن إطار الفئة النوعية للمهرجان (أفلام المرأة) بينما لم يكن الاختيار مماثلا بالنسبة للفيلم المغربي الطويل الذي لا يوجد خلال نافذته هذا العام أي فيلم من إخراج مخرجة مغربية بما فيهم حتى الفيلم المغربي المتواضع المستوى الذي شارك في مسابقة الفيلم الطويل (الدولية) خلال الدورة وهو فيلم “عايدة” للمخرج العائد بعد غياب إدريس المريني وهو فيلم تليفزيوني رتيب الإيقاع خامل التفاصيل، يحتوي على قدر كبير من الافتعال الدرامي والنمطية وتواضع مستوى التمثيل والإخراج، ويبدو أن اختياره جاء فقط بناء على كون بطلته الأساسية امرأة وذلك ليناسب التيمة النوعية للمسابقة الدولية بالمهرجان ولكن حتى انطلاقا من هذه الزاوية الضيقة فإن فيلم مثل “جوق العميين” يبدو أكثر تورطّا في قضايا المرأة إن جاز التعبير، بل ويبدو الحضور النسوي فيه ملموسا أكثر من “عايدة” ذو الإطار الأنثوي المفتعل والمفرغ من قضية حقيقة أو همّ وجودي أو اجتماعي واضح.

طفل الموسيقى وطفل السينما
في “جوق العميين” ميمو طفل على أعتاب المراهقة، في المرحلة الابتدائية يعيش في بدايات حكم الملك الحسن الثاني مع عائلته المكونة من أبيه الحسين وأمه حليمة وأصدقاء أبيه من العاملين في الجوق/الفرقة الموسيقية الشعبية التي تتكسّب من وراء المشاركة في الأفراح والمناسبات المختلفة للطبقة الدنيا والمتوسطة بالمغرب في ذلك العصر.
أما في “دوار السوليما” فلا نعرف اسما للطفل الصغير الذي يعمل مع أبيه في السينما الشعبية التي تقع في دوار السوليما، والتي تعاني من ركود الإقبال عليها من قبل الجمهور فيما عدا رجل واحد نصف مخبول يجلس فيها ليل نهار فاتحا فمه أمام الشاشة لا أحد يدري إعجابا أم جهلا.

يتسّم كلا الفيلمين بهذا الحسّ الشعبوي الجذاب، خاصة أن جوق العميين فيلم يقف على تخوم الكوميديا السوداء، وإن كان محتواه النفسي والوجداني يتصّل بشكل واضح بعدة أطروحات سياسية أبرزها مناقشة فكرة السلطة الأبوية التي كان المجتمع المغربي يعاني منها خلال فترة حكم الحسن، والذي يظهر علينا خلال أحداث الفيلم طالّا بصورته وهو لا يزال شابا في قمة عنفوانه وسيطرته، حيث تبدو علاقة ميمو بالحسين (نلاحظ الجناس غير المتطابق بين اسم الملك الحسن واسم الأب الحسين بالإضافة إلى أن ميمو هو دلع اسم محمد)علاقة تحتوي على تلك الرغبة في التحرُّر من السلطة الأبوية في مقابل رغبة الأب في الهيمنة النفسية والشخصية على الطفل العاشق الذي يحب الخادمة التي تعمل في المنزل المقابل لمنزلهم.

أما في الدوار – والذي يحمل عنوانا بالإنجليزية “Rough Cut”وهو مصطلح سينمائي يعني المرحلة الأولى من عملية المونتاج والتي يتم فيها تقطيع مشاهد الفيلم بشكل حاد – فإن العلاقة الأبوية تخرج من نطاق السيطرة إلى نطاق الفعل الإيجابي حيث يقرر الأب أن يؤجِّر السينما كزريبة للبهائم فيقاومه الطفل بشكل عملي بأن يقوم بعمل دعاية مكثفة عن السينما ويعرض فيها لقطات من الأفلام التي كان الأب يحذفها لكي يتحكم في زمن الفيلم وإيقاعه.
يمكن أن نتوقف أمام ملاحظة أساسية على كلا الفيلمين فيما يخصّ التأثُّر بتجارب أخرى أو الإحالات الواضحة التي تبرز عبر سياقاتهم، فجوق العميين خاصة على مستوى علاقة الطفل الصغير بالخادمة التي تكبره قليلا والتي يشوبها ذلك التعلُّق العاطفي المهووس وتلك الرغبة في إشباعها ماديا واكتشافها جسديا ونفسيا يذكرنا كثيرا بالفيلم التونسي “عصفور السطح” للمخرج فريد بوغدير، خاصة مع تماسّ السياق السردي بفكرة رواية الأحداث عبر عينا طفل صغير وكيف ينظر إلى عالم الكبار بكل تناقضاته غير المفهومه.
بالإضافة إلى ما يحمله الفيلم من تحية واضحة لعوالم “شارلي شابلن” سواء عبر عرض مشاهد من فيلمه “الإبن” أو تقليده.

أما الدوار فهو شبه مبني بالكامل انطلاقا من فيلم الإيطالي الكبير جيسبي توناتوري “سينما باراديزو” سواء على مستوى المكان الرئيسي (السينما الشعبية) أو علاقة الأب الذي يُعلِّم الابن كيف يدير ماكينة العرض تماما كما كان يفعل ألفريدو مع توتو، وإن كان التأثر الرئيسي يأتي من فكرة علبة الأفلام التي أورثها ألفريدو لتوتو في النهاية، وكانت تحتوي على المشاهد الجنسية والجريئة المقتطعة من الأفلام والتي جلس توتو الرجل يشاهدها في أحد أشهر نهايات الأفلام التي تمجد في السينما وقوتها الروحية والوجدانية وتبشيرها بالحرية والخيال.
 فهذه العلبة هي ذاتها علبة شرائط السليولويد التي يأخذها طفل سينما الدوار ويذهب إلى المافيولا البدائية في منزلهم ويصنع من تلك الشرائط فيلم واحد طويل بأسلوب التقطيع المونتاجي الحاد (أي التوصيل بين اللقطات والكادرات دون قطع سلس وناعم) ليصبح هذا الفيلم في النهاية هو مصدر الجذب الرئيسي – بشكل ساذج – لجمهور القرية الذي يعيد إقباله على السينما إحياء وجودها مرة أخرى بدلا من أن تتحول إلى زريبة.

وكما جلس توتو وهو رجل كبير يشاهد بحميمية وفورة وجدانية مجموعة اللقطات الجريئة المجمعة من الأفلام التي كان ألفريدو يعرضها في “سينما باراديزو” بعد ممارسة رقابة ذاتية جلس أهل السوليما يتابعون بشغف لقطات من الأفلام التي كان الأب يحذفها من أجل تقصير زمن الفيلم والاكتفاء بالمشاهد الأساسية فقط.
ولكن مما لا شك فيه أن استغلال المخرجة أسماء المدير فيلم بارادويز كمنصّة فنية للانطلاق منها صوب فكرتها، جاء موفقّا إلى حد كبير، فالفكرة الأساسية التي أرادت أسماء ترسيخها والتي يمكن الجزم أنها لمست قاعدة الجمهور المغربي في المهرجان، وجعلته يمنح الفيلم جائزته، الفكرة هي أزمة تناقص دور العرض في المغرب كنتيجة لركود التوزيع وانحساره في الفيلم الأمريكي والهندي وتحويل دور السينما لأي نشاط آخر أو هدمها لاستغلال أراضيها، وهي أزمة معروفة في مدن المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب) وهي البلدان التي كانت تحتوي على عدد كبير من دور العرض وقت الاحتلال الفرنسي، وحين تغيرت التركيبة الثقافية للمجتمع لم يعد للسينما نفس الدور، وزادت مشكلة القرصنة من تفاقمها حتى صار أصحاب دور العرض يفضلون الاستفادة من المكان أو المساحة في أي نشاط تجاري آخر مربح.

الجمهور والحكاية

توصل المخرج محمد مفتكر إلى فكرة جيدة تخصّ الجوق الذي يعمل في الأفراح الخاصة وقت أن كان المجتمع لا يزال محافظا وبالتالي فالمطلوب أن يكون أفراده من النساء والعميان كي لا يشاهدوا النسوة وهن يرقصن في حرية وقت الأعراس، ولكن هذه الفكرة لا يستغل المخرج تجلّياتها العديدة بل تصبح أقرب للمواقف الكوميدية المحشوة بالإفهيات الطريفة، ويصبح التركيز الأساسي دراميا وبصريا فيها على محاولة ميمو أن يحصل على حلوى العرس ومال النقوط كي يمنحهم لحبيبته الخادمة ليتقرب منها.

ويتحرك المخرج من تخوم الكوميديا السوداء إلى الشاطئ الميلودرامي النمطي عندما نكتشف أن مخدومة الفتاة تزينها وتقدمها لراغبي المتعة مع طفلة لا تزال على أعتاب الأنوثة، رغم أن كونها خادمة هو في حد ذاته عنصرا اجتماعيا ونفسيا قاهرا وضاغطا، ولكن بإضافة فكرة أنها عاهرة يشير إلى طبيعة العلاقات المرتبكة أخلاقيا ونفسيا ضمن الجوق (علاقة الحسين بالراقصة التي تعمل معه وعلاقة الشاب الشيوعي بمطربة الفرقة واستسلام الراقصة الثانية بالفرقة للرجال في الأفراح مقابل المال) نجد أن ثمة شبه قصدية في إبراز مدى ضعف الجميع أمام غرائزهم سواء الجسدية أو المادية من ناحية ومدى السوس الذي ينخر في عظام هذا المجتمع الذي يدعِّي الفن والفضيلة (فرقة فنية وأفراح محافظة).

ولكن هل لهذا علاقة بفكرة السلطة الأبوية والعمى عن رؤية الحقيقة بأن الجميع يسقط في المهانة أو الإحباطات وضعف خاص !! يمكن أن نحاول الربط بين لقطات صورة الملك المتكررة وبين هذا الشعب المتخبط فنجد المغزى السياسي التقليدي فننتقل إلى فكرة فرض الأخلاق بالقوة والتحايل على ذلك في علاقة الحسين بابنه الذي يخدعه بتزوير شهادات المدرسة من أجل أن ينال رضاه، في حين أنه الأخير على الفصل بينما الأب نفسه رجل يخون زوجته مع امرأة أخرى فتّتخذ هنا صورة الملك بعدا مغايرا!
يبدو إذن أن إلصاق صفة العمى بالجوق له علاقة بأن الكل أعمى عن رؤية الحقيقة المخزية في أن المجتمع يعاني من ازدواجية حقيقية تبدأ من قمته (صورة الملك) إلى القاع (الخادمة الصغيرة) وهذا العمى يتكشّف عبر عينا الطفل الصغير الذي لا تزال مشاعره البكر تحركه ولا تزال عينيه تكشفان ما أصبح معميا على عيون الكبار، ولكن الأزمة أن الطفل ميمو يصبح هو لسان حال السرد في السيناريو وعينه هي التي تكشف وتفضح وتلوِّن عوالم الكبار أو تعرّيها، ولكننا نجد أن تلك العين مثلا لا مجال لأن تعرف بأن الخادمة الحبيبة يتم تأجيرها مساءا لراغبي المتعة وهو سرّ كان كفيلا بصهر نفسيته الصغيرة وجعله يخطو أولى خطواته داخل هذا العالم بكل قبحه ودمامته، ولكن الدراما لا تمنحه هذه المساحة بل تكتفي بأن تعيد إنتاج نفس المشهد المكرّر حينما يتم طرد الخادمة وتسفيرها إلى بلدها بينما الطفل العاشق يجري وراء السيارة في محاولة منه أن يحول دون ذلك بإرادته الهشّة التي لا تملك نفوذا ولا قوة، فقط لكي نشعر بكم الأسى والحزن على قصة حبه الأول التي لم تكتمل كعادة كل القصص المشابهة.

قد لا يعني الجمهور الذي منح الجائزة للفيلم أن كل سيناريو يتكون من عنصرين أساسين في السرد الأول هو من يحكي الحكاية والثاني إلى من تحكي الحكاية، لأن تحديد هذين العنصرين كفيل بأن يجعلنا نحكم على متانة البناء ووضوح الفكرة، فجزء من جودة أي فكرة درامية هي القدرة على إبرازها عبر سرد محكم وعلى عكس ما يتصور البعض أن كل الحكايات داخل الأفلام تحكى للجمهور، فأحيانا كثيرة تبدو الحكاية منقولة من شخصية إلى أخرى داخل السيناريو، بينما يطلّ عليها الجمهور من الخارج عبر نوافذ أو طاقات تُفتح من آن لآخر، بينما الحكاية لا تحكى له بل هو شاهد فقط على عملية الحكي وتوصيل المعلومات بين أطراف الصراع أو الشبكة الدرامية داخل النص.
هذه الملاحظة يمكن تطبيقها بسهولة على “جوق العميين” فالسارد هو عين الطفل ميمو أما المحكي له فهو الجمهور بالفعل، ولكن السرد يختلّ عندما ينتقل بنا المخرج من عين الطفل إلى عينه هو أي أن يتخلّى عن راويه غير العليم/ الطفل ويأخذ هو مكانه بأن يكشف لنا سر حزن ورفض الخادمة لحب ميمو، لأنها باختصار ترى نفسها ملوثة وتعيش في عبودية مخدومتها ليس فقط على مستوى الأعمال المنزلية ولكن الخدمات الجنسية مدفوعة الأجر.

في النهاية فإن الحس الشعبوي والطرافة والتماسّ مع واقع معاش نسبيا، هو ما يمكن أن يجعلنا ندرك لماذا منح الجمهور المغربي جائزته لكلا الفيلمين، كما أنه يمكن اعتبار الجائزة اختبار لذائقة هذا الجمهور فكلا الفيلمين بالفعل هما أفضل الأفلام المشاركة في نوافذ الفيلم المغربي القصير والطويل، وعلى عكس ما يتصور البعض فإن أفلام مثل “الفروج” لعبد الله تركونة الشهير بفركوس (وهو ممثل كوميدي شهير وله قاعدة جماهيرية واسعة) لم يحظ فيلمه بالجائزة رغم أنه تجاريا من الممكن أن يحقق مدخولا أعلى من الجوق بكثير. وهي ملاحظة تستحق التوقُّف أمامها لتحليل طبيعة جمهور المهرجان من ناحية ومستوى ذائقته في تقييم الأفلام بشكل مختلف إذا ما أُتيحت له الفرصة لذلك.


إعلان