عن المعيار الجمالي للعمل الفنّي
د. أمـل الجمل

عندما نتساءل ماذا نقصد بالمعيار الجمالي في تقييم الأفلام السينمائية يستلزم الأمر أن نطرح تساؤلاً آخر؛ هذه المعايير من وجهة نظر مَنْ؟ هل من وجهة نظر النقاد على اختلاف جذورهم وهوياتهم وخلفياتهم الثقافية وتكوينهم المعرفي واتجاهاتهم السياسية ومستوياتهم الأخلاقية والمهنية،(1) وميولهم النفسية وأذواقهم التي تشكلّت منذ الطفولة واكتسبوا بعضها من الجينات وراثياً؟ أم أن هذه المعايير من وجهة نظر الجمهور؟ الجمهور الذي وصفه تشارلى شابلن، ذات مرة، بأنه مثل وحش هائل متعدد الأذرع ومن دون رأس أو عقل. فمثلاً نحن في مصر لا نعرف لهذا الجمهور خصائص محددة باستثناء أنه جمهور مختلف يتنوع – لا ندري على وجه الدقة بأي نسبة – بين القرية والمدينة، بين التعليم والأمية، بين المثقف والجاهل، بين النساء والرجال، بين الكبار والصغار والشباب، بين الفقراء المطحونين وأبناء الطبقة المتوسطة والأغنياء وسكان العشوائيات والأحياء الشعبية ورواد المولات بالأحياء الراقية، فحتى الآن لم تقم أي دراسات تتعلق بدراسة خصائص جمهور السينما، وكل ما يدور حوله من تصريحات المنتجين والموزعين والنجوم – استناداً على إيرادات شباك العيد وأفلام الصيف والمواسم – لا يُعدّ مقياساً حقيقيا لرغباته واحتياجاته وأذواقه في بلد يتجاوز سكانه الآن مائة مليون نسمة.
البعض يقول إن نجاح العمل الحقيقي يتوقف على مدى نجاحه في جذب الجمهور، فهل نتخّذ من قيم الجمهور معيارا للقيمة؟ شخصياً أنا ضد هذا الرأي، لأنه ما أكثر الأفلام المصرية التي لم تنجح جماهيريا ولكنها لاتزال علامات مهمة في تاريخ السينما المصرية، وهنا أستعيد ما رواه السيناريست سيد فيلد أنه “عندما جاءته فكرة تأليف كتاب لفحص العناصر المميزة للفيلم السينمائي من وجهة نظر المتفرج، أُصيب بالفزع من الأفلام الرديئة الكثيرة التي كانت تحقق إيرادات لا تصدق!” لذلك أيضاً أنتصر لما قاله أرسطو ذات يوم أنه لا يجب إشراك الجمهور في تقييم الشعر، مثلما أتضامن مع تاركوفسكي حين أكد على أهمية ألا ينساق المبدع والمخرج وراء رغبات الجمهور، ولا يجب إعطاؤه ما يريد، فلابد أن تمنحه جرعة ثقافية أعلى لترتقي بوعيه وثقافته وأحاسيسه، لأنك لو ظللت تمنحه ما يريد سيأتي اليوم الذي يملّ فيه ذلك المحتوى والشكل، ويرفضه منصرفاً عنه بحثا عن الجديد، وهو ما أثبتته تجارب متنوعة في السينما المصرية، فعندما كان يعرض فيلم جديد ويلقى رواجا جماهيريا كان المنتجون يتنافسون في تكراره إلى أن يكف الجمهور عن الذهاب للسينما.
صحيح أن كثير من المهرجانات الدولية حاليا تخصص جائزة يمنحها الجمهور، لكن لابد من الوضع في الاعتبار أن جمهور المهرجانات يختلف عادة عن جمهور المولات والأحياء الشعبية والأفلام التجارية. فاختلاف معيار القيمة والأهمية يتفاوت من إنسان لأخر وفق التعليم والذوق والتربية والنشأة والمؤثرات والخلفية الفكرية والسياسية والتكوين الفني من عدمه، لكن هذا لا ينفي أن هناك معيار للقيمة حتى وإن تفاوت في درجاته.
حديث الكاميرا والشخصيات
بشكل شخصي يأتي معيار نجاح وقيمة العمل عندي من كونه مصدرا للرضى والمتعة، حتى لو كان عملا مؤلما على المستوى الإنساني والفكري لأن المتعة هنا تتحقّق من البناء الفني، ومن لحظات الوعي والاستنارة التي يضيئها العمل فيجعلني أكتشف قدرا ولو ضئيلاً من أسرار وغموض الحياة. ولذلك أؤكد على أن السيناريو هو عماد العمل الفني وعموده الفقري. بدون سيناريو جيد لن يكون هناك عمل سينمائي جيد مهما كان إبداع المخرج في التصوير والمونتاج. قطعا هناك استثناءات وحالات نادرة في تاريخ السينما العالمية وكذلك المصرية – “زوجتي والكلب” لسعيد مرزوق بطولة نور الشريف ومحمود مرسي- والاثنين كانا من عمالقة التمثيل في مصر – حيث القدرة على الارتجال أثناء التصوير لكن هذا يظل استثناءا يتطلّب ممثلين على قدر عالي من الوعي والثقافة، تماما مثل المخرج.
بناء ورسم الشخصيات هو أيضاً جزء من القيمة الفنية وأحد معايير الحكم على العمل الفني. هل هي شخصيات باهتة لا عمق فيها ولا إرادة لها، هل هي شخصيات يلعب بها القدر والصدفة أم أنها شخصيات فاعلة. ليس مهما كونها تتسم بالتناقض والتردد أو التشوه أو بتبدّل آرائها ومواقفها من النقيض للنقيض، الأهم هو أن يقنعني المؤلف بما يريد أن يصبغه عليها من صفات وأن يكون تطورها وفق منطقها الخاص، وأن يكون قادراً على تحليلها سيكولوجيا – من دون أن يقول ذلك – فتصرفاتها وسلوكها وهمساتها يجب أن تقول: إن السيناريست يفهم الحالة النفسية لأبطاله جيداً، مما يجعلني أصدقهم وأتفهم بنائهم الداخلي، وربما أتماهى مع بعضهم.
معيار آخر يتعلق بالقيم التي يطرحها الفيلم سواء كانت اجتماعية أو سياسية وأيديولوجية فهي تضفي أهمية على الأفلام؟ هل هي قيم ثورية؟ وهو ما يتطلب أن نطرح تساؤلا آخر حول معنى الثورية، هل هي ثورية الشكل أم المضمون؟ وهذا يشكل معضلة أخرى عند تناول الأفلام، قد يتضح بطرح نموذجي فيلم “وجدة” للسعودية هيفاء المنصور، وهو عمل في تقديري متوسط القيمة فنياَ، لكنه نال ضجيجا خصوصا في الدول الأوروبية لأنه جاء من السعودية، ومن مخرجة امرأة، ويتحدث عن جانب من أوضاع المرأة هناك، لكن لا أحد يشير أن ذلك تم من خلال سيناريو بسيط عادي شديد المباشرة، وخالي من أي عمق، أو طبقات متوارية. ومن مصر أستحضر تجربة توفيق صالح، من دون أي قصد للمقارنة بين التجربتين لأنه ليس هناك مجال للمقارنة أصلاً.
اعتُبرت أفلام توفيق صالح ثورية في وقت عرضها، لكنها في تقديري متوسطة القيمة فنيا كما أنها تتميز بالخطابة والمباشرة. ولو عقدنا مقارنة بين ما كتبه بعض النقاد بشأن الفيلمين السابقين وبين أفلام أخرى أعلى في المستوى الفني سوف نشعر باختلال المقاييس، وعدم العدل في الحكم، ليس فقط بين النقاد العرب ولكن أيضاً بين النقاد الأجانب بدليل احتفائهم بفيلم “وجدة” مثلاً. وهو أمر لا يصب في صالح السينما ويكشف تناقضا فجاً.
ففي تقديري الشخصي أنه عند تقييم أي عمل سينمائي يجب تقييمه أولا وقبل أي شيء كعمل سينمائي يمتلك لغة ومفردات سينمائية، بغض النظر عن الظروف والأوضاع التي تمرّ بها بلد الإنتاج، فيتم تحليل وتفنيد كافة عناصره الفنية ومستواها، ثم بعد ذلك يأتي في المرتبة التالية مقارنته بأوضاع السينما في بلده وظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية، ثم مقارنته بوضع السينما في المنطقة، أو العالم، لو رغبنا في توسيع الدائرة. لماذا؟ لأن عند تقييم العمل الفني، في اعتقادي، لابد أن نهتم بالأسلوب بقدر الاهتمام بالمحتوى، فالشكل يخدم المضمون، أو دعونا نُسميه تأطير المحتوى، وهو جزء لا ينفصل عنه. فليس المهم فقط الحديث عن أشياء، ولكن الشكل الذى تُصاغ به القضايا فتبدو جديرة بالاهتمام. ولذلك أعود إلى المخرج المصري توفيق صالح الذي صنعوا منه أسطورة، وعندما عدت وشاهدت أفلامه مرة ثانية لم أجد هذا الوهم الذي تم تسويقه إلينا، ولازال. طبعاً لا أنكر أن أفلام توفيق صالح كانت ضد الفقر والمرض والقهر، لكنها على المستوى الفني والسينمائي – خصوصا السيناريو ورسم الشخصيات -كانت بدائية ومباشرة والفن فيها قليل، وصحيح كانت تتضمن معاني للحياة، لكن هذا وحده ليس كافيا.
في إطار ما سبق أستعيد ما قاله الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر: “يكون الكاتب كاتبا ليس بسبب اختياره قول أشياء معينة، بل بسبب اختياره أن يقول هذه الأشياء بأسلوب معين.” وفي رأيي أنه يمكن تعديل مسار الجملة السابقة كالتالي: (يكون الكاتب كاتبا ليس “فقط” بسبب اختياره قول أشياء معينة…) وهو الأمر الذي أكد عليه “هيجل” و”بريخيت” إذ قالا: “إنه من غير الكافي معرفة ما نريد قوله، بل علينا أن نمتلك الحيلة والدهاء لقوله.” بينما يقترح جوزيف اللوزي الاستعاضة عن كلمة حيلة أو دهاء بموهبة أو عقل أو فن.
استكمالا للمعايير النقدية أجد أن البعض ينتصر للقصة والشخصيات، أما الكاميرا فيعتبرها مجرد أداة، مثلما يعتبر البعض أن “الميزانسين” ليس مهما، لكني هنا – تأكيدا على رفضي لذلك – أستعيد المشهد الأخير من فيلم “انفصال” للمخرج الإيراني أصغر فرهادي والذي اعتبر كُثر أن نهاية الفيلم جاءت مفتوحة، لأن الابنة المراهقة طلبت من القاضي ألا تختار مع مَنْ سوف تعيش – مِن والديها – إلا عندما يخرج كليهما من القاعة. ونحن كمشاهدين لم نسمع ما قالته للقاضي عقب خروجهما، ولم نعرف قرارها، مع ذلك أنا أدرك تماما في أي اتجاه صار اختيارها. وأعلم أن النهاية جاءت محسومة لصالح الأب من خلال ميزانسين اللقطة التالية والأخيرة، إذ يجلس الأب بوضوح ملامحه في مقدمة الكادر بينما الأم نراها بوضوح أقل تجلس في الخلفية وتكاد تتوارى خلف الحاجز الزجاجي المنتصب في ممر المحكمة.
معيار الزمن
لا شك أن المعايير التي يستخدمها كُثر من النقاد تتبدّل وفق الظروف التاريخية، فبعض الأعمال ظُلمت عند تلقيها الأول ثم عادت وأنصفها التاريخ وبعض النقاد، بينما أعمال أخرى تم الاحتفاء بها بشكل مبالغ فيه وقت عرضها الأول ثم بعد مرور عدة سنوات سقطت من الذاكرة وفقدت كثيرا من قيمتها ووهجها، فالزمن من أهم العوامل، وفي السينما المصرية يوجد عدد غير قليل هاجمه النقاد وقت ظهوره في الماضي لأسباب متفاوتة – رغم أنها أعمالا تدخل في كلاسيكيات السينما المصرية – إما بسبب المقارنة بين العمل والنص الروائي المقتبس عنه، وإما بسبب الظروف التاريخية التي كانت تمرّ بها مصر خصوصا في أعقاب نكسة 1967، ومنها أفلام مثل “خللي بالك من زوزو”، أو بسبب مشاعر الغيرة الوطنية أو بدافع الغيرة والتحيز لبعض النجمات المصريات مثلما حدث مع تجربة “اليوم السادس” إخراج يوسف شاهين وبطولة داليدا، فقد تعرض الفيلم للظلم والهجوم العنيف القاسي، فماذا كان المعيار؟ هل كان معياراً فنياً أساسا؟ أشك.
كان الهجوم وانتقاد الفيلم بسبب التحيز والدفاع المبطن عن نجمات مثل فاتن حمامة وسعاد حسني ونادية لطفي اللائي رشحن للدور ثم في النهاية أخذته ممثلة فرنسية إيطالية. وأحد أهم نقاد السينما اعترف في بعض مقالاته أن هناك أفلاماً ظلمها عندما كتب عنها وقت عرضها الأول، لكنه عاد وأنصفها. وهناك نقاد آخرون لعبوا دورا سلبيا عند عرض أفلام مخرجين مهمين مثل سعيد مرزوق، و”الحرام” لهنري بركات، وكذلك أفلام كمال الشيخ وآخرين.
________________________________________________
(1) المستوى الخلقي هنا أقصد به الأمانة والنزاهة أثناء ممارسة النقد، كأن يتم ذلك من أجل نقد العمل الفني في حد ذاته كخدمة معرفية تنطوي على مساعدة المتلقي، سواء لوجه الله تعالى، أو حتى كعمل مهني يُجيد المرء – سواء كان ناقدا أو ناقدة – احترافه بعيدا عن أي تجارة أو ابتزاز أو تخليص ثأر، بعيدا عن شغل البيزنس مع شركات الإنتاج كنوع من الدعاية المبطنة مقابل أجر يتحصل عليه الناقد، أو حتى خدمة لبعض الأصدقاء نتيجة العلاقات ورد المجاملات على اختلاف أنواعها.