“آلان ديلون .. هذا المجهول”
ندى الأزهري
ثمة صورة كبيرة بالأبيض والأسود كانت معلّقة في ذلك المحل في تلك المدينة العربية، كان لا يمكن للعابرين والعابرات إلا الوقوف أمامها واستراق النظر عند المرور، ليس فقط لفنيتها…
آلان ديلون لم يكن الممثل الأكثر شهرة وشعبية في السينما الفرنسية فحسب، بل كان أيقونة الجمال.. ألا يقال لكل من يغترّ بجماله أتظن نفسك “آلان ديلون”؟ لم يكن أحد يرقى لهذا الوجه الملائكي بحسب بعض أو الشيطاني بحسب بعض آخر.
وجه على أية حال لم يكن سوى صورة تعتمل خلفها مشاعر غليان و تمرُّد وشيطنة ونزعة للانطلاق، ولكن أيضا شعور دفين بالوحدة وبكآبة مبهمة.
“آلان ديلون، هذا المجهول” لفيليب كحلي يكشف بعض جوانب حياة هذا النجم الفرنسي، يُركِّز على طفولته التي كان لها أكبر الأثر على شخصيته. ديلون لم يشارك في الفيلم، لقد رفض كل محاولات نشر سيرة ذاتية له، ربما أراد البقاء غامضا حتى النهاية، شخصية مجهولة في دواخلها. لم يكن سهلا ربما الحديث عنه دون مشاركته، لكن المخرج لم يسع لهذه المشاركة، طلب فقط الموافقة القانونية على صنع الفيلم وحصل عليها مع حق النقض للممثل الشهير!
الشريط الوثائقي الذي بثته محطة “فرانس 3” العامة، لم ينل رضا ديلون فحسب بل حماسه الشديد له بعد مشاهدته، “برافو! فيلم استثنائي رائع” صرح لجريدة الفيغارو الفرنسية في حوار بمناسبة بثّ الفيلم، العنوان أكثر ما أثار إعجابه فالناس “يجهلون الكثير من الأشياء عني، سيكتشفون فيه ما لم أُظهره ابدا”!
صحيح، من كان يتخيل أن هذا النجم الساطع قد قضى طفولته في سجن فرنسي؟ ومن كان يعرف أنه اراد أن يبدو “رجلا” قويا ليحتوي هذا الجمال الملائكي؟
لنبدأ حسب التسلسل الزمني الذي اعتمده الفيلم خلال ساعة ونصف، من البداية في خط متصاعد لا عودة فيه للوراء ولا قفزة باتجاه المستقبل، بل كما جرت الوقائع على مدى ثمانين عاما من عمر هذا الممثل الذي بات أيقونة.
معبودا صغيرا ومعبودا كبيرا
اعتمد الفيلم أسلوب الحكواتي. ثمة صوت نسائي فيه رنّة من حزن مخفي، كما الحياة التي يرويها، يسرد سيرة هذه الأسطورة مرفقة بصور ولقاءات مشاهد من أفلام. يقول لنا الصوت وهو يعرض صورا نادرة لديلون مع أمه أنه كان معبودها الصغير، هذا الشبه المدهش بينهما ربما جعله يبحث عنها في كل النساء الجميلات اللواتي عرفهن. غياب الأب تماما من حياته وتسليمه لمربية، بعد طلاق والديه وهو في الرابعة، كان بداية لشعور بالتخلِّي لاحقه باستمرار.
صغيرا كان يذهب مع زوج المربية حارس السجن ويلعب مع بقية أولاد الحراس في ساحته خلف الجدران العالية العازلة، كما يعزل نفسه اليوم خلف جدران ممتلكاته الواسعة بعيدا وحيدا…مشاهد بالأبيض والأسود من هذا السجن وساحته أثرت كثيرا في ديلون عندما شاهدها من جديد في الفيلم حتى أن ” الدموع ترقرقت في عينيه” كما صرح في حواره ” للفيغارو”.
الوثائقي حقيقي لا أكاذيب فيه، لا حماقات وخاصة فيما يتعلق بذهابي للهند الصينية” يعلن. الفيلم يركز على هذه الخطوة المصيرية في حياة بطله، يكرس لها شرحا مستفيضا ووثائق داعمة عبر مشاهد من ذلك العصر. فها هو بطلنا ينشد الحرية والابتعاد عن نمط الحياة الروتيني الذي رسمته له أمه وزوجها بعد عودته لهما وبعدما سببه في مرحلة المراهقة من عناء لهما بشقاوته وهربه المتواصل من المدرسة الداخلية، السجن الآخر.
كانت الرياضة عشقه الحقيقي أما الثقافة فلا مكان لها. يقرر الالتحاق بالبحرية في السابعة عشر ثم يضطر للمشاركة في حرب فيتنام، كان على أمه وزوجها الموافقة على إرساله للحرب كونه قاصرا، وقد وافقا، كان هذا تخليا جدبدا بنظره وكانت القطيعة.
عاد 1956 بعد الحرب إلى باريس واكتشفها وحيدا ومفلسا، في هذه المرحلة بالذات اكتشف أهمية جماله وهذه النظرة “الفولاذية الزرقاء” وسحره الطاغي، فقد كان يأخذ بالقلوب حيث يعبر وهنا كانت بداية المجد. بيّن الفيلم ما لا نعرفه عن ديلون في تلك المرحلة. لقد سحر عاهرات منطقة “البيغال” بجماله وشقاوته وساعدنه بعد أن وقعن في غرامه بالحصول على العمل لكنه لم يكن يتحمل تلقي الأوامر. تقوده المصادفة للعمل في السينما بعد أن وقعت ممثلة في غرامه، فيما قدمته أخرى (ميشيل كوردو ) لزوجها المخرج ” ايف اليغر” Yves Allégret الذي كان يبحث عن شاب “أزعر” وجده في الشاب الجميل. لكنه لم يكن يرغب بالعمل في هذه المهنة، وقبِل بعد إلحاح من المخرج الذي نصحه” كن أنت”. هكذا جسّد في” عندما تتدخل النساء” دورا يماثل تماما دوره في الحياة وهو في العشرين عاما.
بالتوازي مع حياة الممثل المهنية، يسرد الفيلم حياته العاطفية مستعينا بمشاهد من أفلامه ولقاءات قديمة معه على هامش ظهور فني أو عاطفي له. كان ممثلا مبتدئا حين تعرف على الألمانية “رومي شنايدر” وكانت هي ممثلة نجمة تنتمي للبرجوازية “أكثر طبقة يكرهها”. يفلح الفيلم بالربط بين شخصية النجم الحقيقية وتلك التي يظهر بها في الأفلام. على سبيل المثال يورد مشهدا لشنايدر وديلون وهي تقول له” أنها لا تطالبه بشيء” وهو ما حصل فعلا في الحياة. لقد خطب رومي أربع سنوات ولم يتزوجها وكان الألمان ينظرون شذرا إلى هذا “الأزعر الفرنسي الذي سرق جوهرتهم”.
كان سحره لا يقاوم و كانت تتنافس على حبه في نفس الوقت ثلاث من الممثلات الأشهر في السينما الفرنسية، تفاصيل كهذه وغيرها ككتابته رسالة من 15 صفحة ليعلن لرومي تركه لها، أبرزها الفيلم من جديد بعد أن طواها النسيان. تزوج بعدها من ناتالي التي أنجبت له ابنه انطوني والتي قيل أنه وجد فيها أمه لتشابهما في الشكل والشخصية.
“فهد “فيسكونتي
في الحياة كان الإمساك به شاقا على نسائه! لكن في المهنة أوقعه حظه مع مخرجين أقوياء استطاعوا الإمساك به كما يقول “أحب أن يكونوا أقوياء معي، ألا يتركونني على هواي، أنا بحاجة لأن يُمسك بي، كالحصان البري”.
يبدي الوثائقي العلاقة التي كانت تربط الممثل مع المخرجين الذي عمل معهم لا سيما “إيف أليغر” و” رينيه كليمانت” ( plein soleil 1960) الذي كان يقول له ” تحرك كما تشاء في الديكور وستلحق بك العدسة”. أما الإيطالي” فيسكونتي” الذي أرسله له القدر، فقد وجد فيه الوجه الذي كان يبحث عنه من ثلاث سنوات لفيلم “روكو وأخوته” الذي بات من كلاسيكيات السينما العالمية. جسد فيه دور الملاك الذي كان عليه أن يخرج كل العنف الذي بداخله في حلبة ملاكمة. كان فيسكونتي معلمه الثاني، و مع ” أنطونيوني” وفيلم ” الخسوف” بات حقا نجما، وباتت رومي هي الممثلة التي ترافقه، أخذ منها كل الأضواء، لقد انقلبت الأدوار!
غدا الممثل المفضل لفيسكونتي الذي ُأخذ “بِنُبل جماله”، فكان فيلم ” الفهد” الذي حصد السعفة الذهبية في “كان”. دور صعب خشيه ديلون.
لم ينجح في الولايات المتحدة كما في إيطاليا، وبعد عدة أفلام هناك قرر العودة لفرنسا ليجد أن بولمندو قد أخذ مكانه بعد أن كانا على تواز. لكنه استطاع فورا استرجاع مكانته وعمل مع كبار المخرجين مثل جان بيار ميلفيل (الدائرة الحمراء، الشرطي).
يبرز الفيلم منعطفا آخر في حياة ديلون، حين وجد حارسه الشخصي مقتولا وأثار هذا الكثير من الأقاويل ولكن الجريمة قيدت ضد مجهول. لقد أصبح رجلا آخر، حذرا مهددا، لكن المرأة كانت هنا كالعادة لتعيد لحياته التوازن. ميراي دارك المرأة التي أعلن في المقابلة الصحفية أنها أكثر من أحب في حياته، إنما هذا لم يمنعه من التخلِّي عنها!
النجم ملّ التمثيل وعانى من حصره فيه، فالممثل في نظره مهما كان رائعا “ليس سوى مؤدِّيا لدور وليس مبدعا” و لهذا تحول مع التمثيل إلى الإنتاج كما أخرج ثلاثة أفلام.
أسطورة
يؤكد الفيلم ما عرف عن شخصية ديلون من حب للسيطرة والزعامة، هو سيد الموقف والبطل الذي لا يقاوم والذي بمقدوره أن يدمر كل شيء في أي لحظة! صورة وضع فيها ويجب الإبقاء عليها “إنه قانون اللعبة” كما يقول، بقي طوال حياته يحاول اللحاق بهذه الآلة التي تتجاوزه يمسك بها وتهرب من جديد ولكنه في النهاية ودائما يبقى هذا الصبي ذو السنين الأربعة الذي تخلّى عنه والداه، إنه الآن أسطورة من الماضي و”جزء من حياة الفرنسيين” الذين سيحتفلون بعيد ميلاده الثمانين في الثامن من نوفمير
ولكن هل عرفناه أكثر بعد الفيلم؟
لم يعتمد الفيلم أية مقابلة خاصة معه، بل استعان بمقابلات كان أدلى بها في مراحل مختلفة من حياته للتلفزيون ومعها مشاهد من أفلامه تتناسب مع نمط حياته الشخصية وأفكاره ولم يرفق اللقاءات بمعلومات عنها، فكانت تبدو وكأنها أجريت لترافق مسيرة الفيلم، وكان يربط بين لقاءين مثلا أجريا في زمنبن مختلفين وبتحدثان عن نفس الفترة ولكن بمعلومات مختلفة. هذا الدمج الناجح مع الصور والأفلام منح الفيلم متعة وسلاسة، ومع لغته الشعرية و بلاغة تعبيره جعل الفيلم من عالم هذا الساحر أكثر إنسانية وقربا من مُشاهدِه بحيث باتت النظرة لديلون “البعيد” متعاطفة كذلك بعد أن كانت معجبة، وفي هذا سرّ قوة الفيلم !