لاجئون ضائعون على أطراف “الجنة” الأوروبية

محمد موسى

يبدأ فيلم “أولئك الذين يشعرون بحريق النار”، بقارب يتماوج في الليل وسط بحر هائج، فيما سُحُب سوداء كبيرة تقطع الطريق أمام ضوء القمر، ليُخيم الظلام في كل مكان وعلى مَدّ الأفق. صوت البحر الهادر، يعلو على ما سواه. نسمع: “بابا لا أريد الذهاب إلى أوربا”. الصوت لطفل يتحدث اللغة الفارسية. لن نشاهد الطفل أو أباه، في مشاهد البداية المُقلقة والمُشوشة للفيلم التسجيلي هذا، الذي أخرجه الهولندي الشاب مورغان كنيبه، كما لا تمر الكاميرا على أي من الوجوه التي كانت في القارب الصغير، الضائع في الطريق إلى أوربا. القارة الحُلم، التي يقطع آلاف اللاجئين البحر إليها كل عام، هاربين من حيوات عنيفة، أو باحثين عن مستقبل مُختلف، أقل سوداوية، في قارة عجوز، تنوء بعض أطرافها تحت أحمال البطالة والفقر. تضرب العاصفة القارب الصغير. يبدو البحر وكأنه يبتلع هذا الأخير ومن عليه. تغرق الكاميرا بعدها في غابة من الصور السريعة الغير واضحة، في “كولاج” كابوسي، فيما تتعالى في الخلفية أصوات طالبي النجاة وتضرعاتهم.

 

عندما يعود الفيلم إلى اليابسة، يطل من مدينة صغيرة في بلد أوروبي. لا يفصح الفيلم عما حدث في المشاهد الافتتاحية منه ومآل الناس الذين كانوا على ظهر القارب، او اسم المدينة التي يصور منها، وهويات الشخصيات، التي كانت تمرّ في عبر هذا العمل التسجيلي المميز، الذي يشبه قصيدة شعرية طويلة حزينة، عن غرباء تعساء، ودعوا كل شيء، بحثاً عن حيوات جديدة. يخالف الفيلم بهذا، الاتجاه العام لأفلام القضايا الاجتماعية بأساليبها الشائعة. ليست هناك مُقابلة واحدة في هذا الفيلم، كما يبتعد تماماً عن أي مقاربة تعريفية ذات منحى إخباري، والانتقالات تتم وفق معايير غير سرديّة أو تصاعدية، وأقرب إلى قصيدة بصريّة تشكيليّة تعبيرية فذة. لا حوارات أيضاً في الفيلم، بل مناجاة نسمعها أحياناً بدون أن نشاهد أصحابها. كالإيراني (ربما أفغاني) الذي كان يتساءل بلغته الأصلية في أحد المشاهد الافتتاحية: “إذا كانت الحياة التي يعيشها في المدينة الأوروبية الصغيرة تستحق الأهوال التي قطعها..؟”. سيعاود هذا الرجل الأربيعني الظهور في الفيلم. هو يجمع الحديد من النفايات لغرض بيعها. لن نعرف شيئأً عن قصته الخاصة. وكأن لا أهمية لهذه الأخيرة، بقدر تلك التي يثيرها حضوره الإنساني الآن . في هذه الوقت بالتحديد. هو أيضاً نموذج لظاهرة، نقطة في بحر. مثله، مثل الذين سيطلون بدون أسماء، وأحياناً بدون وجوه واضحة في الفيلم. لكن حضور مُعظمهم لن يمرّ بدون ترك أثر بليغ ومُؤلم.

يذهب الفيلم، باتجاه مُعاكس لسينما تسجيلية سائدة، غيرها التلفزيون باشتراطاته، خاصة الرغبة بتبيان كل شيء. لا يفسر الفيلم هذا، مناخاته أو شخصياته، لكن هذا لا يعني أنه سيترك مشاهديه غير مبالين بما يمر عليهم. كان يمكن لفيلم “أولئك الذين يشعرون بحريق النار”، أن يكون عملاً مُختلفاً بالكامل، اذا اختار تقديم مُقابلات ذات طابع تقريري، وأسئلة على غرار: كيف جئت هنا؟ وما هي قصتك؟ الفيلم اختار مُقاربة شعرية تكتنز فهماً عميقاً للتيه الذي يعيشه الواصلون للقارة الأوروبية ، وقدمها ببلاغة سينمائية لافتة. لن نعرف مثلاً، لماذا كان عشرات الشباب ذوي السحنة الشرق الأوسطية يقفون أمام بناية في ليل مدينة أوروبية. لكن الوجود نفسه، والكاميرا التي كانت تتوقف على بعض من أصحاب الوجوه الشابة، البعيدين كثيراً عن مدنهم الأصلية، يدفع إلى تساؤلات عن حال العالم اليوم. هناك أيضاً المشهد الطويل لشباب يتسلقون بالسِرّ حبال سفن عملاقة راسيّة في ميناء مدينة أوروبية، على أمل أن تقلع هذه السفن باتجاه دول أوربية أكثر أماناً. البداية المثيرة، للمشهد الذي صور بكاميرا ثابتة، ستتبدل سريعاً، ليحل بدلاً عنها قنوط كبير، وشعوراً بالتطفل غير اللائق، وكأن لحظة التسلق تلك، هي لحظة خاصة لأصحابها، تتضمن كثيراً من الكشف، عن “معركتهم” للظفر بحياة جديدة، ليكون عرضها في الفيلم، ما يشبه الانتهاك لحميميتها.

 

يقترب فيلم “أولئك الذين يشعرون بحريق النار”، بأجوائه وأسلوب تعاطيه غير التقليدي مع قضية اللاجئين، من فيلم “انحسار الحدود” للمخرجة القبرصية أيفا راديجوفيك، والذي مازال يعرض في مهرجانات سينمائية حول العالم. يقدم الفيلمان، لاجئين وصلوا إلى أول حدود أوروبا (فيلم المُخرجة القبرصية عن اللاجئين إلى قبرص)، بشاعرية مُتفجرة. يصور فيلم المخرج الهولندي المدينة الأوروبية الصغيرة من الأعلى و بالمقلوب. ويهبط أحياناً ليصور بمستوى الأقدام. وكأن الواقع الغريب يحتاج إلى مقاربة مُختلفة مجنونة تسير عكس السائد والعقلاني. يصل الفيلم إلى حدود كبيرة من الجرأة في عرض الألم الانساني بكل قسوته، عندما صور مغربيان وهما يحقنان “الهيروين” بأجسادهما، هرباً من واقع يعجزان عن التعامل معه. كما يفرد الفيلم مساحة مُعتبرة لمشاهد طويلة تُقطع القلوب، لوصول جثث غرقى، قضوا في البحر، في الطريق إلى أوروبا، واستقبال عوائل وأصدقاء لأجساد الغرباء تلك، التي وصلت أخيراً إلى أوربا، لكن فاقدة للحياة وبصناديق خشبية، كانت تلمع تحت شمس المتوسط .


إعلان