مهرجان برلين: “ثمانية وعشرون ليلا.. وبيت من الشعر”
قيس قاسم

يحتسب لدورة برلين الخامسة والستين إشراكها فيلماً وثائقياً ضمن مسابقتها الرئيسية وإذا ما خرج بجائزة كما هو متوقع فإن مردوداً إيجابياً سيضاف إلى رصيد منظميها باعتبارهم قد تعاملوا وبكل بساطة مع الموضوع بما تفرضه السينما نفسها كفن جامع للأجناس لا يمكن فصل جنس سينمائي عن آخر بشكل يتعارض مع طبيعتها، الأمر الذي ما زال لم يأخذ حقه الطبيعي في مهرجانات عالمية وعربية فالغلبة في كثير مسابقاتها مازالت للروائي بل من النادر إدراج فيلم وثائقي فيها. على مستوى ثانٍ أدرجت الدورة أفلاماً تجريبية كثيرة ضمن بقية مسابقاتها وأقسامها بعضها ينتمي إلى (الفيديو آرت) ومن المفاجآت أن يكون بينها فيلماً عربياً جمع فيه اللبناني أكرم الزعتري بين هذا النوع من الشغل البصري وبين الوثائقي في فيلم سمّاه “ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر” أطلق لمخيلته العنان فيه لمراجعة تاريخ مدينة صيدا المعاصر من خلال الصورة الثابتة والمتحركة متجنباً بحذاقة التوقف عند الأحداث المهمة التي عاشتها المدينة بما فيها الحرب الأهلية التي نشبت في عام 1975 مفضلاً تناولها من جانب “شخصاني” لبشر عايشوها وانعكست من خلال صور أو تسجيلات مصورة لهم ولمدينتهم، التي كرّس المصور الفوتوغرافي “العجوز” صاحب استوديو “شهرزاد” هاشم المدني وقتاً كبيراً في حفظها وحفظ تفاصيل تلك التواريخ في أرشيف دقّق فيه أكرم كثيراً وأخرج ما يريد معرفته عن فترة زمنية تقارب نصف قرن بأسلوب خاص استخدم فيه فن “الفيديو آرت” كروح لنص سينمائي وفي إطار فيلم تسجيلي يحتاج إلى صبر لمتابعته حتى تظهر الجماليات الكامنة في النوعين أو الجنسين البصريين، ما سيطرح أسئلة حول طبيعة “الفيديو آرت” ومقدار حرية المخرج في الركون إليه كوسيلة تعبيرية لا تخدم النص الوثائقي بل تكون جزءاً منه.
انطلاقاً من نظرية الصور الفوتوغرافية بوصفها “لحظة تجميد الزمن” سيستنطق الزعتري المصور الفوتوغرافي حتى يُقدِّم شهاداته عن ظواهر اجتماعية وسياسية في فترات مختلفة كرغبة الصيداويين خلال أعوام الاحتقان الطائفي أواخر الخمسينات في أخذ صورة شخصية “بورتريه” بصحبة الرشاش أو يظهرون في الصورة حاملين بنادق للدلالة على رجولتهم وقوتهم.

ثم يسأله عن الأعراس وصور المتزوجين حديثاً ويمضي أعمق لمعرفة الأوضاع غير المألوفة التي صادف وأن طلبها منه بعض زبائنه تصويرهم فيها، فكان الرجل يجيب عليها بلغة واضحة فيها الكثير من الصدق لأنها مقرونة دائماً بالوثيقة/الصورة وبهذه الطريقة جعل نصّه البصري مقرون بشهادتي المصور والصورة. وفي مراحل متأخرة من فيلمه سيضيف إليها شاهداً ثالثاً: التلفزيون وكاميرا الفيديو وكلها تشير بحذاقة ومكر تسجيلي إلى ظواهر اجتماعية غير معلنة ومسكوت عنها في الغالب، لكنه يظل متيقظاً أثناء تناولها لعدم السقوط في فخ “العمق” المسطح مفضلاً تقديم الصور كما هي، أما مدلولاتها الضمنية فيتركها للمشاهد كي يستنتج بنفسه ما يحلو له من استنتاجات، وهذا ما يتجلّى في المراحل التي سيعيد فيها سرد تاريخ المدينة من خلال تسجيلات الفيديو وظهور التلفزيون الذي سرق من الفوتوغرافي حرفته “الساكنة” ولكنه سرعان ما تكيف، أي المصور الصيداوي، مع التحول الكبير والخطير في فن التصوير وراح يشتغل في تصوير الحفلات والأشخاص بكاميرا محمولة. وبعد سنوات سيتراجع عمله حين يحل جهاز التلفزيون ويهيمن على مشهد الصورة المتحركة بشكل كاد أن يعطل مهنته الأولى كمصور للمدينة ومؤرخ بصري لتفاصيل الحياة فيها.
عندما سيصل نص الزعتري التسجيلي إلى تلك اللحظات سيلعب على الأغنية والموسيقى التي صاحبت بروز التلفزيون واستلابه لدور أشرطة التسجيل الصوتية القديمة بوصفها وسائل تقنية جديدة نقلت الصوت إلى المستمع بدلاً من الأجهزة القديمة التي كانت تنقله بمستويات ووضوح ضعيفين، لكن فيهما الكثير من الحميمية التي سينهيها التلفزيون نهائياً ويتسيد المشهد البصري في العالم كله خلال السبعينات والثمانيات حتى يومنا هذا. عن العلاقة بين أهالي صيدا وبين الصورة وتنوعاتها لعب الزعتري بمهارة وحرية داخلية كشفت عن روح ساخرة وشديدة الميل إلى تجاوز حدود العلاقة العادية بين الصورة المسجلة بالكاميرا وما يقف أمامها، فأعاد إنتاج الموسيقى والغناء من خلال المقارنة بين أغاني قدمت خلال فترات مختلفة كاشفاً من خلال التباعد الزمني بينها عن مستوى تطور المجتمع اللبناني والعربي وكيف استثمرت سياسياً إلى درجة يبدو تفاعل الناس حولها مضحكاً ويحمل في داخله دلالات تبلد فكري لعبت فيه وسائل الاتصال الحديثة والتلفزيون دوراً مهماً.
كل ذلك العمق أخفاه “ثمانية وعشرون ليلاً وبيت من الشعر” في طيات الموسيقى والصورة والأغنية وأيضاً من خلال شهادة رجل عاصر مراحل طويلة من حياة المدينة ووثقها كما هي ودون وعي بالمعاني المستخرجة الجديدة منها، فالرجل كان يمتهن التصوير ويعتمده كمصدر رزق لعائلته ولم يدرِ أن يوما سيأتي فيه مخرج وثائقي سينمائي ومشتغل في حقل الفيديو آرت ليعطي ما صنعته يداه هذه الأبعاد و المعاني العميقة.

على مستوى فيلم المسابقة الذي أشرنا إليه في المقدمة أي “زر اللؤلوة” للتشيلي باتريسيو غوزمان الذي أبهرنا بنص وثائقي عميق ربط فيه بين المياه ووجودها على كوكبنها كعنصر مادي بدونه لا تستمر الحياة، وبين جرائم الديكتاتور بينوشيت أثناء انقلابه على حكومة الرئيس المنتخب الليندي ومحاولته الخبيثة لإخفاء جرائمه عبر رمي جثث ضحاياه في أعماق البحر. يأتي غوزمان إلى السياسة من بوابة تاريخ الشعوب الأصلية للقارة الأمريكية وعلاقتها بالمياه وترحالهم عبرها إلى أقاصي الأراضي البكر، وسيلتهم فيها قوارب بسيطة ومجاذيف يعرفون كيف يستخدمونها لشق المياه وتياراته القوية والتي بفضلها بقينا أحياء، لكن الديكتاتور بينوشيت أراد تغيير وظيفتها، التي تعود إلى ملايين السنوات، من مصدر للحياة إلى مأوى للموتي الذين انتهوا على يد جلاوزته في انقلاب شكّل لدمويته مثالاً تاريخياً معاصراً لوحشية لا تعرف الرحمة.
يُحمِّل التشيلي الحذق وصاحب رائعة “حنين إلى الضوء” “أزرار” المعاطف والقمصان ـ التى هي جزء من موروث صناعي حديث جاء مع المستعمرين للقارة وصار استخدامها فيما بعد مألوفاً بحيث لا ينتبه أحد إلى دلالاتها الأولى ـ يُحيل غوزمان دلالتها الرمزية كأثر على وجود الضحايا في أعماق البحر، ويدخل عبر ثقوبها ولونها الأصفر المُحيِّر إلى الكون الشاسع الذي يحيطنا وإلى مصدر كل قطرة ماء تتسرب من أعماق التاريخ والأراضي الشاسعة حتى تصلنا عذبة، منها تستمد أجسادنا وكل ما على الأرض ديمومتها. لكن الجنرال أراد للمياه أن تكون مقبرة لأبرياء تخيّل واهماً أن الأثقال الحديدية المربوطة بها أجسادهم الخامدة ستدفنها في الأعماق بحيث لا تُبقي لهم أثر، متناسياً أن التاريخ والعلم والضحايا لا ينسون مآسي الحروب وويلات الانقلابات العسكرية، وأن غوزمان الذي يعرف جيدا وظيفته كمبدع سينمائي سيظل يلاحقه متتبعاً جرائمه في اليابسة والبحر ومستنجداً بقوة شهادات ضحايا لن يتقاعسوا في تذكير القتلة وفي كل يوم بما اقترفته أياديهم من جرائمهم. صورة وجماليات مبهرة ومراجعة فلسفية عميقة لمعاني ورموز المياه في الفلسفات، ورحلة عبر التاريخ البشري تضع كلها فيلم غوزمان من بين أهم وثائقيات “البرلينالة 2015” حيث تنتظره بعد انتهائها عروض في صالات سينمائية كثيرة وتجوال دائم على مدى العام في مهرجانات عالمية وربما سيفوز بجوائز كثيرة تليق به كمنجز وثائقي مدهش وتضع صانعه كواحد من بين أكثر المخرجين تميزاً وعمقاً.