رشيد المشهراوي: “رسائل من اليرموك”
بشار إبراهيم

يحقّق المخرج رشيد مشهراوي فيلمه الوثائقي الجديد «رسائل من اليرموك» (قناة «الغد العربي» 2014، 57 دقيقة)، الذي يبدو من عنوانه أنه يريد تناول مأساة «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينين في سورية، الواقع جنوب دمشق، وعلى اتصال بها، وهو أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وأشهرها، زاد منها مأساته التي يعيشها منذ عامين، والتي أصبحت واقعاً تتكثف فيه المأساة الفلسطينية بمختلف أوجهها.
سيلفتُ النظر منذ البداية، استخدام مشهراوي اسم «اليرموك» مجرداً، أي باعتباره اسماً علماً، دون أن يعني هذا أنه يريد محو صفة «المخيم»، التي ينبغي أن تلازم أيّ حديث، خاصة مع من لا يعرف «اليرموك». والصحيح، كما نعلم، أن المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي يعرف تماماً أن الفلسطينيين أطلقوا على «اليرموك» اسم «المخيم» كنايةً دالةً جامعة، ففي أوساط اللاجئين الفلسطينيين في سورية، على الأقل، يكفي أن تقول كلمة «المخيم» على إطلاقها هكذا، حتى يتم التفاهم أنك تقصد «مخيم اليرموك»، تحديداً، بما يضمّه من جوار يتّسع ليشمل «مخيم اليرموك»، الذي نشأ بداية خمسينات القرن العشرين، على أرض ممنوحة لـ«مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين»، تتولاه «هيئة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينين» (أونروا)، وامتدادته اللاحقة والطارئة منها، بدءاً من «مخيم فلسطين» الذي كان، وصار اسمه «شارع فلسطين» فيما بعد، والشوارع الرديفة؛ من شارع الثلاثين وامتداده، إلى شارع العروبة، وحتى حيّ التضامن، الذي لا يفصله عن «مخيم اليرموك» إلا «شارع فلسطين»، وصولاً من الناحية الجنوبية إلى حافة تجمّع الحجر الأسود، الذي بات مدينة للنازحين السوريين من الجولان، لا يفصلها عن المخيم إلا شارع الثامن من آذار، ومشحم عامر، وسوق السيارات.
يدخل رشيد مشهراوي «عشّ الدبابير» طائعاً، أو مجبراً، فلا خيار لسينمائي فلسطيني ملتزم مثله؛ سينمائي يتمازج إبداعه مع حياته الشخصية (وهو ابن «مخيم الشاطئ» في قطاع غزة، ويقيم الآن في رام الله)، بمواقفه الوطنية (المُعبّر عنها بالالتزام بقضيته وانحيازه المُعلن إليها)، وقناعاته الفكرية (السينما أداة إبداعية نضالية)، إلا أن يفعل ذلك. ولم يكن من المُنتظر أن لا يبادر رشيد مشهراوي إلى تحقيق فيلم عن مأساة اليرموك، مهما كانت الصعوبات، وتعقّدت المعيقات، وانغلقت السُبل.

بصوته الشجيّ، المشروخ بطريقة مُحبّبة، يورد مشهراوي مقدمة تمهيدية تعتمد على التعليق الصوتي (صوت المخرج)، تنطلق من ماضي المخيم وتصل إلى حاضره. هذا أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين، ومُختلف عنها. يقارنه المخرج/ الصوت بالمدينة (شبه مدينة سورية).
يقول إن عدد سكانه 400 ألف من فلسطينيين وسوريين وعرب (وهذه معلومة خاطئة! إذ أن سكان مخيم اليرموك كانوا في العام 2012، أي قبيل تهجير سكانه، قرابة مليون و200 ألف نسمه، لا تتجاوز نسبة اللاجئين الفلسطينيين منهم أكثر من 10 في المئة، أي بما لا يتجاوز 120 ألف لاجئ فلسطيني، وفق غالبية الإحصائيات).
وعبر التعليق الصوتي، الذي يعتمد على الصور التي صوّرها نيراز، حتى قبل أن نتعرّف عليه في الفيلم، يقول المخرج: «اليوم المخيم مُحاصر من النظام السوري، نتيجة الاشتبكات بين النظام، والجيش الحرّ، والأحزاب الإسلامية على أنواعها، والانشقاقات الفلسطينية، داخل وخارج المخيم، التي ساهمت أيضاً في التوتر الحالي».
بعد هذين التمهيدين، اللذين يبدوان على قدر كبير من الحذر، وتحاشي إلقاء اللوم على طرف دون آخر، دون أن يعني هذا أي حياد، يبدأ التواصل ما بين المخرج ونيراز. وبالسؤال (عبر سكايب) سنعرف أن نيراز سعيد (23 عاماً)، شاب من لاجئي مخيم اليرموك، وهو فلسطيني أصلاً من قرية عولم، بالقرب من طبريا. إنه يقوم بالتصوير الفوتوغرافي، والفيديوي، في مسعى منه لرصد الحياة اليومية في المخيم إبّان الحصار، الذي كلما طال ازدادت المأساة، إيماناً منه (نيراز) بأن «المخيم ناس»، أولاً.
يعترف رشيد لنيراز، منذ البداية وفي مباشرة صريحة، بالقول: «أنا ما عندي ولا أي فكرة»، ويضيف «أعتقد أن موضوع سورية والحرب في سورية، واليرموك، كبير، ومتداخلة فيه أشياء كثيرة، ومتشعّب». ولكن هذا لا يمنعه من أن يُنجز معه «عقد الفيلم»، الذي يقوم على أن يُرسل نيراز ما يمكنه من (مواد) مصوّرة فوتوغرافية وفيديوية، من داخل المخيم، على وعد أن نرى ما الذي يمكن أن يحدث في النهاية.

الحقيقة أن وثائقي «رسائل من اليرموك» كان بدأ استعمال (المواد) التي صوّرها نيراز منذ بداية الفيلم، وقبل ظهوره، وهو سياق ضروري لا غنى عنه. وترتيب السيناريو، كما نراه، يمضي في اتجاه أن يقول لنا رشيد مشهراوي ماذا يمكن لسينمائي خارج المخيم أن يفعل، وهو يريد أن ينقل إلى العالم جوانب، على الأقل، مما يحدث الآن في مخيم للاجئين الفلسطينيين في سورية، ما بين احتلال وحصار، منطلقاً منها ليجوب في الواقع الفلسطيني (صيف العام 2014) ما بين الشتات، والضفة الغربية، وقطاع غزة، وفلسطين المحتلة العام 1948، دون أن ينسى بلدان المهجر الجديد في أوروبا.
صحيح أن أهمية فيلم «رسائل من اليرموك» الأولى تتجسّد في دوره الوظيفي؛ لناحية كشف وتصوير وفضح وتوثيق مأساة أو فاجعة مضاعفة، تحيق بلاجئين هُجّروا عنوة من فلسطين في نكبة العام 1948، ليعاودوا مُكرهين بعد شوط من النكبات والنكسات، الوقوع في قبضة كارثة أشدّ مرارة ومضاضة، لم تكن أكثر المخيلات شرّاً لتملك الجرأة على تصوّرها أو التفكير بإمكان وقوعها… ولكن الصحيح أيضاً أن للفيلم أهمية لا تقلّ عن ذلك من جوانب أخرى؛ إبداعية تحديداً، إذ يمكن القول إن وثائقي «رسائل من اليرموك» يُشكل منعطفاً جديداً ومؤسِّساً في سياق السينما الفلسطينية عموماً، والأفلام الوثائقية الفلسطينية على نحو خاص.
هذا فيلم وثائقي يحقّقه سينمائي موجود الآن في الداخل الفلسطيني، يتناول موضوعاً وجودياً لفلسطينيي الشتات والداخل معاً. ربط ما بين رام الله ومخيم اليرموك وغزة، ذاك الذي لم تستطع السياسة، والفعالية الشعبية، القيام به. السينما تؤدي واجبها، والفيلم يوظّف وسائل الاتصال الإلكتروني، بطريقة جمالية، في بناء التفاعل الداخلي في الفيلم، ما بين شاشة الفيلم وكاميراه الكلية (الصياغة المونتاجية الأخيرة للفيلم)، وداخلها شاشة المخرج (رشيد مشهراوي) وكاميراه في رام الله، وشاشة مساعد المخرج (نيراز سعيد) وكاميراه في مخيم اليرموك، والشاشة والكاميرا الرابعة، الموازية، التي تماثل تحطيم الجدار الرابع في العرض المسرحي.

هكذا يمكننا التوقف أمام فكرة التصوير المتوازي، والتصوير المركّب (تصوير التصوير، والانتقال من حال التواصل إلى تصويره). وفضلاً عن هذا التأثيث البصري المتعدد، أفقياً وعمودياً، سنجد تأثيثاً مُضافاً يأتي على شكل استطرادات لازمة، تأخذ صيغة البوح الشخصي أحياناً لكل من المخرج (حياة ناس، بتناضل، بتموت، بتجوع… وإحنا في السينما نسميها مواد)، ولمساعده (فلسفة السطوح في المخيم وفي حياته)، كما تنطلق في جولان مساعد كالذهاب إلى قرية عولم في طبريا، وقرية نحف في عكا، أو إقامة معرض صور في متحف محمود درويش (معرض «للحلم بقية» بتاريخ 24/06/2014)، وعقد مؤتمر (كونفراس) في تلك المناسبة ما بين رام الله واليرموك، وتناول الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، ذاك الصيف.
المخرج الذي لم يمكن لديه أدنى فكرة كما قال، يكشف لنا مع نهاية الفيلم أنها الفكرة ذاتها التي اختارها؛ فكرة اللافكرة، التي تجعل من الفيلم سيرة فلسطينيين يزمعون صياغة نصّ بصري، شاهد وموثق ومؤرخ وكاشف لما ينبغي أن يُعرف، وأن لا يُنسى، وليس أفضل من الصورة في هذا المجال. ولعل من جوانب أهمية الفيلم، وبراعته، أنه يقول إذ يمتنع عن التصريح، والخطابة، والشعار. التفاصيل اليومية في حياة «مخيم اليرموك» في قلب الحصار. صور ناسه وأصواتهم. اللقاءات والحوارات، وجلسات التعارف. الانتقالات المدروسة، والاستطرادات المقصودة. تجعل من الفيلم منمنمات حقيقية، من واقع عياني، يعيشه قرابة 20 ألف لاجئ فلسطيني مُحاصر في «المخيم»، على بعد أمتار من الحياة. تماماً كما تجعله وثيقة بصرية عن فلسطينيي العام 2014 من حصار «مخيم اليرموك»، إلى حرب «غزة»، وقرى فلسطين 48، الأبهى والأحلى والأجمل حتى من ألمانيا.
إن كان لوثائقي «رسائل من اليرموك» أن يتنكّب مهمة إيصال هذه الرسائل، فإن العروض التي بدأت مع الدورة الحادية عشرة من «مهرجان دبي السينمائي الدولي» (ديسمبر 2014)، وتستمر خلال العام 2015، كفيلة بنقل وإيصال رسالة بصرية تمتلك الكثير من المصداقية، مُصاغة بنبض أناس يعيشون الوجع، يصورهم الفيلم على أمل محو أوجاعهم، واستعادتهم إلى الحياة، والعودة إليهم. إلى المخيم الذي بات من اللائق القول: نتمسّك بالمخيم… يعني نتمسّك بفلسطين.