السينما الوثائقية السنغالية وحقوق الإنسان

 المصطفى الصوفي

ظل موضوع حقوق الإنسان، حاضرا بقوة، في العديد من الأعمال السينمائية الإفريقية المختلفة، كما شكل مشاهد خصبة ومثيرة، للكثير من المخرجين، من أجل الاشتغال عليه، وكشف النقاب، عن جملة من القضايا والإشكاليات السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية للشعوب والمجتمعات، وهو ما جعل المتلقي داخل القارة الإفريقية أو خارجها يتفاعل معها بشكل كبير، لما تتميز به العديد من البلدان الإفريقية، من تحولات، وتجاوزات، ساهمت بشكل كبير في إخصاب الحقل الفني والثقافي، وتأتي في مقدمته السينما، التي عبرت في كثير من المناسبات عن إشكاليات كثيرة، تفاعل معها الجمهور بشكل قوي وكبير.

واذا كان العديد من المخرجين المغاربة، من أمثال سعد الشرايبي في فيلمه (جوهرة بنت الحبس)، وحسن بنجلون في (درب مولاي الشريف)، وجيلالي فرحاتي في (ذاكرة معتقلة) و(طيف نزار) لكمال كمال، و(منى صابر) لمخرجه لعبد الحي العراقي ، وغيرهم من المخرجين، الذين عالجوا هذه التيمة في السينما، أو ما يطلق عليه “سينما الحريات”، فإن نظرائهم في الكثير من البلدان الإفريقية، وبخاصة في مالي والسنغال، وجنوب إفريقيا، وكوت ساحل العاج، وتونس، ومصر، وغيرها، وجدوا، هم الأخرون في هذه التيمة مادة خصبة، لاستنهاض التاريخ، واستذكار الماضي، وطرح الإشكاليات العالقة، في الحاضر، من أجل استخلاص العبر، والبحث عن حلول، في إطار مقاربات سينمائية جادة، تعتمد على التوثيق، والمعالجة الخلاقة للواقع، أو عن طريق قصص وحكايات تخيلية أو واقعية، وذلك في أفق إنصاف الذاكرة والتاريخ والإنسان.
ماستر كلاس السينما وحقوق الإنسان

في هذا الإطار، احتفلت جمعية اللقاءات المتوسطية للسينما وحقوق الإنسان بالعاصمة الرباط، بتجربة السينما الإفريقية السنغالية، وذلك من خلال تجربة المخرج السنغالي موسى توريه السينمائية، منذ الـ 16 من شهر فبراير الجاري وحتى الـ 21 من نفس الشهر، في سياق تظاهرة سينمائية أطلقت عليها اسم (ماستر كلاس السينما وحقوق الإنسان)، وذلك بعرض خمسة من أفلامه المتميزة، بمؤسسة الشرق والغرب، وهي (تي جي في) و(نوسالتراس) و(خمسة في خمسة) و(الزورق)، ثم (نحن كثيرات)، ختمتها بندوة حول السينما وحقوق الإنسان.
وفي مستهل هذه الندوة والدرس السينمائي، الذي ألقاه المخرج موسى صباح يوم السبت 21 فبراير، والذي ختم به فعاليات هذه التظاهرة السينمائية التي تابعها جمهور عريض مغاربة وأجانب، وبخاصة من الجالية الإفريقية المقيمة بالرباط، حيث تطرق إلى بداياته الأولى مع السينما، التي دخلها عبر عدسة حب الفن الفوتوغرافي الذي كان يمارسه والده، وكذا من خلال مصاحبته لتجربة أخيه جونسون، والعديد من السينمائيين الأفارقة الرواد من أمثال المخرج السنغالي صامبين أوصمان، هذا العلم السينمائي الكبير الذي أصبح مهرجان السينما الإفريقية، والذي يعد أقدم مهرجان سينمائي إفريقي بعد مهرجان واغادوغو، يحمل اسم جائزته الكبرى والتي يمنحها المجمع الشريف للفوسفات، بقيمة تزيد عن سبعة آلاف دولار امريكي.

وبعد تدرجه في المجال السينمائي، أكد موسى توريه أمام حشد من الطلبة والباحثين والمهتمين والنقاد والإعلاميين أنه أخرج أولى أفلامه القصيرة، وكانت بعنوان (برام) وتنعي باللهجة المالية (شواء السمك)، حيث يتحدث الفيلم عن قصة ابن يذهب مع أبيه في رحلة صيد للسمك في أعالي البحار. والقصة جزء من تاريخ المخرج موسى توري، الذي وجد في طفولته الخزان الجميل لأفكار وديعة لترجمتها إلى حكايات صور سينمائية رغم قصرها، لكنها تفي بالغرض، وتقدم صورة مماثلة لباقي حكايات أطفال إفريقيا، في علاقتها بعادات وطقوس وأحلام المجتمع الإفريقي، وتعني الشيء الكثير في مسيرته السينمائية، التي تُوجّت بتألق بيِّن في مهرجانات إفريقية ودولية مختلفة، ومنها مهرجان السينما الإفريقية المغربي، حيث كان فيلمه (الزورق) من بين المتوجين.
كما كشف المحتفى به في هذه الدورة، عن أن فيلمه الثاني كان بعنوان (توباني) ويحكي قصة مواطن إفريقي سافر إلى فرنسا من أجل الدراسة، وكان الأنا، دائما يواجه بسؤال واحد من قبل الآخر، ألا وهو “هل ستبقى في فرنسا، أم ستعود إلى بلادك”، وهو الفيلم الذي يطرح الكثير من الإشكاليات التي ترتبط بالعنصرية وحقوق الإنسان، في بلد متقدم، يؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية والأخوة، وفهم الآخر، واختلاف العقليات والثقافات، والهجرة، والعزلة وأحلام المهاجرين، وصيانة الذاكرة المحلية والعادات الأصيلة في بلاد الشاعر والرئيس السنغالي الأسبق ليوبولد سينغور.

محفزات إبداعية لنقل الواقع الحي

وفي بوحه السينمائي، تطرق المخرج موسى توري كذلك إلى تجربته السينمائية، من خلال العديد من الأفلام التي أنجزها، وبخاصة فيلمه الشهير(تي جي في)، وهي فكرة استقاها المخرج، حين كان يدرس بفرنسا، عن مشروع القطار الفائق السرعة، وحاول تطبيقها في بلاده سينمائيا، وذلك في قالب ساخر ودراماتيكي، يبرز الاختلاف الكبير بين أحلام إفريقيا وأحلام أوروبا، التي تقدم قطار نهضتها بعشرات السنين مقارنة مع بلدان القارة السمراء.
(تي جي في)، فيلم تخييلي، عصب حكايته، حافلة متهالكة، يقودها (رامبو)، وهي سريعة تربط بين داكار في السنغال وكوناكري في غينيا، قبل انطلاق الرحلة المتعبة والطويلة، يتم إخبار (رامبو) والركاب بوجود سكان محليون ثاروا على الحدود الغينية، حيث يقرر عدد الركاب من ضمنهم امرأة، ركوب هذه المغامرة مع رامبو ومساعدة (ديمبا)، من بينهم وزير مقال سابقا وزوجته (روجير) و(سيلفيا)، حيث من خلال مغامرات خطيرة وغير متوقعة، يثبت كل واحد ذاته وتنسج علاقات غريبة وجيدة داخل هذا الفضاء المغلق، والذي لا يحاكي القطار الفائق السرعة الفرنسي إلا في الأحلام.

في الفيلم، الذي قضى المخرج موسى ثمانية أسابيع لتصويره، وإعادة تمثيل مشاهده رغم صعوبة التصوير، مرتين، وتلك من طقوسه السينمائية، يحاول، المخرج أن يقدم للمتلقي، صورة مصغرة عن إفريقيا بمشاكلها وهمومها وأحلامها، و خليطا من الثقافات والأفكار، والعادات، في القارة الإفريقية، ورغم اختلافها وتباينها، إلا أنها تنسجم، رغم كل شيء.
وشدد بالمناسبة على أهمية العلاقة التي تربط العديد من الأفلام بحقوق الإنسان، وبخاصة في أفلامه، مؤكدا أن السينما الوثائقية، التي وجد فيها ذاته ومتعته الفنية والإبداعية، تشكل لديه أحد المحفزات الإبداعية لنقل الواقع الحي إلى الجمهور، وذلك من خلال شهادات شخوص عايشوا وعاينوا الحدث، بكل حرية ومصداقية، في القول والبوح، وهو ما يمنح أفلامه الوثائقية، وكل عمل سينمائي وثائقي، قيمته الإبداعية، وانتشاره وتأثيره كذلك على الجمهور بشكل عام.
كما تحدث أيضا عن تجربته السينمائية في فيلم (الزورق) الذي أخرجه عام 2012، الفيلم تم اختياره لمهرجان كان الفرنسي لنفس السنة، والذي يحكي قصة حالمين بالفردوس الأوروبي، من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية، ينطلقون من قرية صيد بضواحي دكار، في رحلة عبور غالبا ما تكون محفوفة بالمخاطر، في بحر الظلمات باتجاه جزر الكناري الإسبانية. (باي لاي) البطل ربان الزورق، يعرف البحر وأمواجه العاتية، ولا يرغب في السفر مع المجموعة، لكنه لا يملك أي خيار سوى المغامرة مع المجموعة، فهو مطالب بالإبحار برفقة 30 رجلا، نحو الوجهة المعلومة حتى يتحقق الحلم، في الفيلم رجال حالمين، هاربين، من الحرب والفقر والجوع، تفرقهم أشياء كثيرة، ويجمعهم حلم الوصول إلى الضفة الأخرى، منهم من لم ير البحر قط ولا أحد يدرك ما ينتظره، إنه فيلم مشوق للغاية، ويعبر بكل صدق عن عمق الإحساس بالعجز، ونبذ الوطن من أجل الحياة، حيث يبرز فيه بشكل جليّ، قيم الحقوق المدنية للإنسان، الحق في العيش بكرامة، والحق في التعبير والتعلم والعمل، لكن حين لا يوجد أي شيء من ذلك يبقى الحل هو مواجهة البحر والأفق الشاسع الحالم، فإما الوصول، وإما الموت بشرف أو البقاء هناك مرفوع الرأس رغم البعاد والعزلة والاغتراب.

الوثائقي رافد سينمائي للمتعة

المخرج السنغالي موسى تورا

واعتبر السينما الوثائقية، رافدا حقيقيا للسينما الممتعة، والفرجوية، على اعتبار أن السينما في مجملها، تعتبر نصا إبداعيا يتوخى في أبعاده ورؤاه، تحقيق الفرجة للجمهور، وهو ما تحققه السينما الوثائقية، فضلا عن قيمتها المعرفية والجمالية، والتواصلية والحوارية بين الأنا والآخر، في أفق تحقيق مزيد من ذلك التناغم والاندماج مع الآخر، الذي لا يعرف عن المجتمع الإفريقي أي شيء، مؤكدا على ان تجربته السينمائية كواحدة من التجارب السينمائية الإفريقية والدولية، تعتمد على مرتكزات كثيرة أهمها، البحث عن صور نورانية يكون فيها الضوء وافرا بشكل كبير، وذلك لما يمنحه الضوء من ثراء إبداعي جميل للصورة السينمائية، في قارة تفتخر بأنها من أجمل بلدان الشمس والضوء والنور، وهو ما يعطي لأعماله السينمائية، بعدا جماليا وشاعريا، وهي تسبح في صور ضوئية طبيعية خلابة، دون الحاجة إلى مصابيح اضافية ومكلفة.
واعتبر ان فيلمه الوثائقي (نحن كثيرات)، نموذج حقيقي، للسينما الإفريقية، التي تطرح موضوع حقوق النساء والأطفال، في التعبير والحياة، من غير عنف، أو إساءة، أو قتل وتصفية، كما يشكل واحدا من أبرز أعماله السينمائية الوثائقية التي نقلت الواقع كما هو بدون مساحيق، وذلك من خلال نقل الواقع ومعالجته في دولة الكونغو برازافيل، التي كانت تعمه الحروب، خلال التسعينات من القرن الماضي.
ويقدم الفيلم شهادات نساء تعرضن للعنف الجسدي والجنسي، ومنهن فرنسية، و(ليدي) الأرملة ذات ستة أطفال وتوأم، التي فقدت زوجها في الحرب، التي اندلعت بالكونغو ما بين 1993 و 1999، وخلفت أثارا سلبية وآلاما عديدة، من أبرزها العنف الجنسي ضد النساء، الذي بقي طي الكتمان. الفيلم يعطي كذلك الكلمة لنسوة تعرضن للاغتصاب، ولحكي قصصهن أحيانا في صمت متواضع، أو مؤلم، وأحيانا بغضب وسخط عارمين تجاه الحكومات والعسكر، لكن دائما بشجاعة وكرامة، حيث استطاع المخرج التعبير عنها بشكل مؤثر للغاية.
 كما تطرق أيضا إلى فيلمه الوثائقي (خمسة في خمسة)، وهو فيلم صامت، يحكي قصة رجل إفريقي، متزوج بخمس نساء، وما تطرحه هذه الإشكالية، من وجهات نظر ورؤى، وتمثلات لدى المتلقي، في مجتمع إفريقي ما يزال يرزح تحت وطأة الفقر والجوع، والتقاليد.

متعة الرؤيا والنور في السينما

جانب من الندوة

ولفت إلى أن أي فيلم وثائقي، لكي يكون ناجحا ومؤثرا، عليه أن يتمتع بالصراحة والجرأة والتلقائية، والنقل الحقيقي للواقع، كما هو، من غير أن تميل عاطفة المخرج، إلى أية جهة أو كفة.
كما اعتبر موسى توري أن السينما الوثائقية في مسيرته الإبداعية، ما تزال تشكل لديه الحافز القوي على العطاء، وطرح الإشكاليات، وإيجاد أجوبة مقنعة ومحرجة، لدى المهتمين والمسؤولين، مبرزا في معرض حديثه أن ما يهمه في السينما ككل هو ما يراه وما يسمعه، وما يحققه أيضا الضوء من متعة في علاقته بالصورة، بشكل عام، هذا الضوء الذي يعتبره أحد المكانيزمات الأساسية في قوة كل عمل سينمائي على حدة. كما أشار إلى أهمية وقيمة التصوير والكاميرا الرقمية، التي مكنته حتى الآن من تصوير 17 فيلما وثائقيا.

تجربته المتميزة ساعدته في الحديث عن نفسه، وعن التواصل مع الآخر في أوروبا خصوصا، الأمر الذي مكنّه أيضا من تكريمه في إسبانيا في الآونة الأخيرة، وإطلاق اسمه على أحد الأمكنة بسان فيلوي بضواحي برشلونة الإسبانية. وذلك ما عبر عنه في فيلمه (نوسالتراس)، من خلال مجتمعان وثقافتان مختلفتان، حيث تعيش هناك جالية مالية وصلت بطريقة غير شرعية منذ ثماني سنوات، وتعمل في قطاع البناء والفلاحة.
وكشف بالمناسبة عن أنه مقبل على إنجاز عملين سينمائيين وثائقيين، الأول يرتبط بموضوع العبودية والعنصرية، التي ما تزال تؤرق بال العديد من المواطنين، وبخاصة في القارة السمراء ومعاناتهم مع النظرة الدونية تجاه الأفارقة من قبل الآخر، والثاني يتمحور حول موضوع (الفضاء)، أو المكان الذي لم يعد يجد فيه الإنسان راحته الطبيعية. حيث أصبح الفضاء مهددا، كما الإنسان مهددا في حياته.

عبد الرحمان سيساكو في البيضاء
يشار إلى أن موسى توريه من مواليد سنة 1958 بدكار، بدأ مسيرته الفنية، مبكرا بالعمل كتقني في أحد الأفلام ليتمكن من إخراج فيلمه القصير الأول في 1987، ثم أول أفلامه الطويلة سنة 1991، (توبابي) الذي حاز من خلاله على العديد من الجوائز. أنشأ في 1987 شركة إنتاج بداكار أشرف من خلالها على إنتاج أفلامه الوثائقية التي حازت جوائز بالعديد من المهرجانات. وحقق فيلمه (تي جي في )، الذي أخرجه في 1997 نجاحا كبيرا في إفريقيا وفاز بجائزة الجمهور للدورة التاسعة لمهرجان السينما الإفريقية بميلانو.
وتهدف هذه التظاهرة، المنظمة بدعم من المؤسسة الأوروبية من أجل الديمقراطية، والصندوق الكندي لدعم المبادرات المحلية، إلى ترسيخ قيم السينما وحقوق الإنسان لدى الجمهور.
 ويعد “ماستركلاس” السينما وحقوق الإنسان، التي تسهر جمعية اللقاءات المتوسطية للسينما وحقوق الإنسان على تنظيمها مرة كل ثلاثة أشهر بالفضاءات التعليمية (الكليات، المدارس العمومية أو الخاصة والثانويات…) من أهم إسهامات ومبادرات الجمعية للنهوض بثقافة السينما وحقوق الإنسان، حيث تم خلال الشهر الماضي الاحتفاء بتجربة المخرج الموريتاني عبد الرحمان سيسكو، وفيلمه الشهير الذي ترشّح للأوسكار (تمبكتو).


إعلان