“الوجود والعودة” .. وثائقيات ولكن

د. أمل الجمل – فرنسا

 
    بعد أن كان الوثائقي يخضع لشروط جامدة متعسفة، تتعلق بتوظيف الصورة وأسلوب التصوير والمعالجة الفنية، شهد نقلة نكاد نصفها بالثورية بعد أن امتدت إليه الأيدي بالتجريب والتحريك بشكل أفاده ومنحه ثراءً وزخما يجعلنا، في بعض الأحيان، نفضل أن نطلق عليه اسم الفيلم العابر للنوعية، إذ لم يعد دوره يقتصر على تصوير الوثيقة أو الاستناد إليها لتجسيد الحياة بمشاكلها وإدانة الفاسدون وكشف خديعة الضحايا، ولكنه بالإضافة إلى ذلك أصبح، في أحيان أخرى، يقتنص تيمة أو قضية أو شخصية لها علاقة بفكرة أو مأزق سياسي أو اجتماعي أو أخلاقي، ثم يسعى مخرجه إلى البحث عن معادل بصري يتغلب به على استحالة تصوير المواد البصرية الحقيقية الواقعية لأسباب سياسية رقابية أو اجتماعية، لذلك صار قطاع ليس بالقليل يلجأ إلى صور ليس لها علاقة مباشرة بالفيلم، قد تكون مقتبسة من الواقع أو متخيلة، ولكنها بالأساس تحمل رموزاً بلاغية تحيل المتلقي إلى صورة استعارية متعددة القراءات لموضوع الشريط الوثائقي، وهى أحياناً أيضاً لا تخلو من اللغة الشعرية، وتكاد تكون مزيجاً من الواقعية والانطباعية.
   المقدمة السابقة خطرت لكاتبة هذه السطور وهى تتابع وتتأمل الأفلام القصيرة بأنواعها وأطيافها ضمن مهرجان كليرمون فيران للفيلم القصير السابع والثلاثين بفرنسا، والذي يُعدّ أعرق وأهم مهرجانات الفيلم القصير في العالم أجمع، إذ كان من اللافت قدرة عدد من المخرجين على تناول موضوعات شائكة حميمة، موضوعات تسرد تجارب شخصية تتعلق بالجسد، بالمحرم، والأهم هو قدرتهم على تقديمها في صبغة وثائقية بعد أن عثروا لها على معادل بصري إبداعي لا ينقصه الجانب الجمالي، إضافة إلى بلاغته الدلالية، مثلما يتضح بقوة مع فيلمي “بيننا” و”سبع مرات” والاثنين عرضا في مسابقة أفلام المختبر التي تضمنت 34 فيلما قصيراً، وفيها نجح الفيلم الأخير في أن يقتنص الجائزة الكبرى. أما هنا فنقدم قراءة لثلاثة أفلام أخرى تتعلق بأمور الحرب والقلق من مستقبل الإبداع، أحدهم وثائقي تحريكي، والاثنين الآخرين تم تصنيفهما على أنهما وثائقي تجريبي. 

سالرس.. وخراب الحرب    
    

فيلم “سالرس”، وثائقي تجريبي، مدته 9 ق، إنتاج الأرجنتين، 2014، للمخرج فرناندو دومنجز، عرض بأفلام المسابقة الرسمية الدولية التي تضمنت 77 فيلماً، وحصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم الدولية. والفيلم نموذج لمحاولة التجريب في المكونات البصرية المتاحة. إذ يعتمد بصرياً على شريط نيجاتيف، قديم جدا، يشبه شريط السلولويد الأصفر قليلا، وفيه يبدأ المخرج فيلمه من طريق ممتد والكاميرا تبدو وكأنها موضوعة في قطار يُسافر في الزمن ليعيد حكي قصته عن الحرب، بينما الطيور تهج خوفاً وفزعاً أعلى مبنى عتيق. على تلك الصور يبدأ المخرج شريط الصوت أيضاً قائلاً بصوته: كنت هناك أثناء الاحتلال، كانت الحرب والاحتلال. كنت في سالرس. إنها مدينة قاتمة وسط الجبل، مدينة صغيرة مغلقة على نفسها، العشاق يذهبون إلى هناك ليُقسموا لبعضهم بالحب الأبدي. أتذكر التفاصيل؛ الأبواب، جرس البرج، والميدان. أتذكر كيف قفزت المقاومة على كل الكباري، القطار كان يتنقل من كبري محطم إلى كوبري آخر. وبينما كنت أسير هناك أحاطت بي امرأة مجنونة، كانت تحمل اسماً مستعاراً. قالوا أنها اعتادت أن ترسل خطابات إلى فرانكو وموسوليني وهتلر. كتبت تقول: “جنرال فرانكو؛ الشعب الإسباني شعب طيب ويعمل بجد، فلماذا تطرده من وطنه؟! سيد موسوليني؛ لو جئت إلى سالرس فلن أفتح لك الباب.”
    مرت سنوات وذات يوم عدت إلى سالرس. هكذا يستأنف المخرج حكيه الحميمي. لم تتغير المدينة. ذات يوم أحاط بي رجل مجنون. ماذا لو كان ما نعيشه ابتكار خلقته أرواحنا الخاصة؟! أليس هناك أشياء لا نستطيع رؤيتها؟ ما العلاقة بين هذا الرجل المجنون وبين المرأة صاحبة الاسم المستعار؟ أعلم أن المرأة ماتت في مصحة عقلية، ورغم أن الحرب انتهت لكنها ظلت تكتب خطاباتها المعتادة. 
   ينتهي الفيلم من حيث بدأ شريط الصوت؛ “كنت هنا أثناء الاحتلال، أحاطت بي امرأة مجنونة اسمها…” لكن الأمر يختلف بصرياً إذ تتحرك الكاميرا باتجاه بوابة ضخمة لحائط مرتفع كأنه مصور بشريط سينمائي عتيق، يكسوه لون يميل للاصفرار، وذلك بعد اعتماده في أغلب الفيلم على تصوير المباني القديمة العتيقة وأحيانا تظهر أناس تتحرك وكأنها أشباح بشر، في إبداع بصري معبر عن خراب الحرب وموت المدن تحت وطأة قنابلها ورصاصها وتلوثها بالدماء. أما الموسيقى فكانت عبارة عن مزيج من رنين أجراس الكنيسة، أو حيوانات تزأر، أو صوت عصافير، أو ترديد الصدى، وأحياناً صوت غراب يزعق من بعيد، إلى جانب أصوات أوراق الشجر، أو صوت احتكاك الحديد. 

 
الجدة فيسنتا
   

على العكس من الشريط السابق يأتي فيلم “فيسنتا”، تحريك وثائقي، مدته 6 دقائق، إنتاج الإكوادور، إحدى دول أمريكا اللاتينية، 2014، إخراج كارلا فالنسيا، وعرض أيضاً ضمن المسابقة الدولية. اسم الفيلم مقتبس من اسم المرأة بطلته التي كانت فلاحة مهاجرة، ماتت أمها أثناء ولادتها في بوليفيا. قامت جدتها بتربيتها، بعد عدة سنوات اضطرت أن تعمل غسالة لتعيش. ذات يوم وقعت في الحب، فتزوجت، وأصبح لديها طفل. في سن الثالثة والعشرين شاهدت البحر للمرة الأولى عندما قررت الهجرة. بالعمل وبمساعدة ابنها نجحت في تأسيس نفسها وبناء عمل خاص بها. وذات يوم أصبح ابنها مقاتل سياسي يدعم سلفادور ألليندي حتى النصر في تشيلي 1970. عندما اندلع الخراب والقتل عام 1973، عقب انقلاب الديكتاتور بينوشيه المدعوم من أمريكا ضد ألليندي، نُهب بيتها وأخذ الجنود الكتب والصور والوثائق قبل أن يأخذوا الابن هو أيضاً الذي اختفى للأبد، ولم تعرف عنه الأم أي شيء، حتى بعد أن طرقت كل الأبواب، الى أن سمعت في الراديو في أحد الأيام عن خبر موته في معسكر للاعتقال.
   ماتت فيسنتا من دون أن تعلم أنه بعد 17 سنة لاحقة تم العثور على جسد ابنها في مقبرة جماعية بجوار 20 من رفاقه. “كانت فيسنتا امرأة لا تعرف القراءة والكتابة، كبرت وعملت وقامت بالبناء، لذلك نستطيع الآن أن نمشي على الأرض التي خطت بقدميها من فوقها، فيسنتا كانت جدتي العظيمة، من 1894 – 1976”. هكذا تختتم المخرجة شريطها الغني بالرسوم المتحركة، والذي أهدته لكل النساء المجهولات اللائي يمثلن الأغلبية والذين ساروا معها.
   الفيلم بسيط في فكرته ومحتواه لكنه مصمم بطريقة فنية رقيقة، استخدمت المخرجة الموسيقى الوترية تعبيراً عن الحزن، ولجأت للجيتار عند حديثها عن رحلة شقاء الجدة وهجرتها، وسعت لتقديم صور معبرة غير معقدة، وإن كان هذا العمل يطرح تساؤلاً عن أسباب اللجوء للتحريك وليس الأرشيف وعدم الاستعانة بصور الجدة الحقيقية خصوصاً أن موضوعه لا تواجهه عقبات رقابية، لكن في النهاية المعالجة الفنية هي خيار إبداعي لصاحب العمل.
 
الوجود والعودة

“الوجود والعودة” هو عنوان الفيلم الأسباني، 13 دقيقة ونصف الدقيقة، تجريبي وثائقي، للمخرج زاشيو بانو، إنتاج 2014، والذي حصد جائزة كانال بلاس في مسابقة المختبر، كما حصل على تنويه خاص من لجنة التحكيم.
   هنا، في هذا العمل، يتخذ المخرج من والديه حقلاً لتجاربه السينمائية، وإن كان لا يخلو من حس كوميدي ظريف يتولد من الأبوين الذين يشعران أن ابنهما غير قادر على تحديد هدفه، فيلومانه أحياناً، أو يسخران منه، وينصحانه بضرورة تحديد هدفه من التصوير، ففي بعض الأحيان نرى والده المسن في الغابة يقول؛ أنا هنا ونسيت أن أتناول الطعام، ثم يتأمل وضع الغابة ومكوناتها، وينصح ابنه بتصويرها بدلا من تصويره هو. وفي لقطات أخرى يصور الابن والدته وهى تمارس أعمالها مع المواشي وتحديداً وهى تُطعم البقر وكيف تعامله.
    يوحي الابن، بمكر شديد، لوالديه أنه لم يحدد هدفه. بينما في الحقيقة يريد أن يستفزهما فيعبرا عن مشاعرهما التي قد تكون طازجة وبريئة وصادقة من فرط تلقائيتها. ولذا عندما تنخدع الأم وتصدق أنه غير قادر على إيجاد موضوع للتصوير تلومه قائلة: “تأمل عيون والدك، هذا شيء محزن أنك لا تعرف ماذا تفعل.” وفي مشاهد أخرى نراهما يستعدان لتصوير عمل روائي به بعض الارتجال، فالأم تقرأ سيناريو روائي، ثم نسمعه من خارج الكادر يقول لها: “لقد أصبحت أرملة.. فكيف سوف تتصرفين؟” الأم ترد في حيرة: “وماذا؟” فيرد الزوج: “يجب أن تبحثي عن واحد.” عندئذ تسأله في دهشة: “أي واحد؟!” يجيب: رجل، حبيب، زوج..” ثم ينفجر الضحك في المكان.

   يواصل الابن تسجيل لقطات متفرقة، ونتف متباينة تجريبية لوالديه، بعضها يتضمن دعوات وصلوات الأم، وقراءاتها في كتاب التعازي، وعلى شريط الصوت يأتينا صوت البكاء والدموع، ثم نراها تنشر الغسيل، وفي مرات يستيقظون، وفي حين آخر يطلب الأب المسن من ابنه أن ينظر إلى الغابة الجميلة بينما الابن يطلب منه أن يبقى ساكنا لتصويره. ثم يأتي الجزء الأخير من الفيلم معنوناً بـ “أن تكون” وفيه تتحدث الأم عن اختفاء السينما، وأن عمل ابنها في هذا المجال يسبب لها قلقاً لأنه يبدو لها وكأنه من دون مستقبل، وتعلنها صراحة أنها تشفق عليه فالناس تذهب لأماكن أخرى بديلة، لم يعد الناس يذهبون إلى السينما، إنهم يتسكعون، يذهبون للنوادي وليس إلى السينما.
   هنا يختتم المخرج الابن شريطه السينمائي بلقطات للسقف المتهدم، ثم بلقطة ضبابية له حيث تنعكس صورته غير الواضحة في المرآة وهو يجلس خلف الكاميرا تعبيرا عن مستقبله الضبابي.


إعلان