ميدان الحرية: “المجد للأبطال”
محمد موسى

صَوب المُخرج الأوكراني سيرغي لوزنيتسا في جديده التسجيلي “ميدان”، عدسته على ساحة الحرية في العاصمة الأوكرانية كييف ولفترة تقارب العام الكامل (2014-2013). وهو العام الذي شهد في بدايته، انطلاق الاحتجاجات على الحكم المدعوم من روسيا، و بلغ في منتصفه ذروة العنف، بتصادم المتظاهرين مع السلطات، ثم تفكك الحكم الديكتاتوري في نهايته. من مشهد إلى آخر، ستنتقل الكاميرا لتصوِّر الميدان من زوايا ومواقع مُختلفة، في مساعي للقبض على نبض المكان الخاص في تلك الأزمان التاريخية المفصلية، ولتسجل بأسلوب غير مألوف يوميات سكانه الجدد. الكاميرا تلك، ستكون ساكنة تماماً في كل واحد من تلك المشاهد الطويلة القليلة التي تشكل عماد الفيلم، وكأن ما يجري في الواقع يتطلب تأملاً خاصاً لنا كمتفرجين، فيما تنسحب الذات الفنيّة للمخرج إلى الخلفية فاسحة المجال للأبطال الحقيقين، والذين يظهرون في الإطارات المُتعددة التنويعات للفيلم، من المشهديات الواسعة، إلى أخرى حميمية، التقطها المُخرج من حماس المكان، الذي بدا وكأنه على فوهة بركان ينتظر الانفجار.
لا يُشبه فيلم “ميدان” للمخرج أي فيلم تسجيلي آخر من السنوات الأخيرة، كما يُدير العمل ظهره بالكامل لجميع الأساليب التقليدية الشائعة التي أدخلها التلفزيون في نسيج السينما التسجيلية وفرضها شعوريا أو لاشعوريا على كثير من المخرجين. فالفيلم هو استجابة مُبدعة حقا ومخالفة للسائد من المخرج لحدث مُزلزل في تاريخ بلده. لا حوارات في الفيلم أو انتقالات عشوائية أو توليف غير ضروري، بل مشاهد مُبهرة في صورها وجرأتها، متسلسلة في ترتيبها الزمني، مع شروحات قليلة جداً، تقود المشاهد عبر بعض الأحداث المفصلية من عام الثورة الأوكرانية. في كل ذلك، يتصدر المتظاهرون الشاشة، فالفيلم عنهم وإليهم. هو ما يُشبه المرآة لبطولتهم وتحية إلى إيمانهم بحريتهم. حتى إن الشعار الذي طالما رددوه في هتافاتهم في الفيلم: “المجد للأبطال”، يصفهم هم أكثر من أي أبطالاً آخرين من تاريخ البلد، القديم أو الحديث.

يقترب كل مشهد من المشاهد الطويلة التي تؤلف الفيلم من العمل التشكيليّ الحديث، حتى إن الفيلم نفسه يحتاج إلى فضاء عرض مُبتكر، فتراه يلائم صالات السينما وغرف متاحف فنيّة مُظلمة أكثر من الشاشات التلفزيونية الصغيرة. هو يشبه الأفلام القصيرة أو الطويلة التي تندرج في فئة الفن المعاصر، بتضمنها لعناصر تتطلب تقاليد مشاهدة وتوقعات مُختلفة. كما أن الفيلم الطويل في زمنه (146 دقيقة) يراهن على الآثار التراكمية النفسية لصوره، والتي تشترط التسليم لروحه وخياره البنائي الخاص والفريد.
تُفسح المشاهد الطويلة، الفرصة للتمعُّن في أبعاد وتفاصيل الصور التي يقدمها الفيلم، والتركيز في ما تظهره، كالمشهد الطويل الأول، الذي صور من ارتفاع، جمعاً لمتظاهرين في الميدان. ربما كانت زواية الكاميرا، أو جهل المتظاهرين بوجود هذه الأخيرة، اللذان جعلا المشهد الافتتاحي ذاك، يبدو وكأنه لوحة فنيّة كبيرة في متحف، فسكون الكاميرا في المشهد الذي قابله حركة قليلة للمتظاهرين المحصورين في بقعة جغرافية ضيقة، حولّا المشهد إلى ما يشبه الصورة الفوتوغرافية الواسعة الغنية التفاصيل أو لوحة أوروبية من القرن السابع عشر، ليغدو التحديق في شاغليها مُتعة خاصة غير مُكتشفة في أعمال سابقة. كذلك يُسهِّل التوليف البطيء المتأني للفيلم، لبعض من الدينامية التي ضمّها المكان وشاغليه من التسلل إلى الشاشة، وعبر التوليف يمكن التحديق بتمهل في أبطال المشهد، ومراقبة أفعالهم، والتمعُّن في وجوهم، وهو الأمر الذي يبدو أنه شغل المخرج في مشروعه التسجيلي، أي التعرف على هؤلاء الناس الذين تركوا أمان ودفء بيوتهم وتوجهّوا للميدان. من يكونوا، وكيف يقطعون ضجر الوقت بين الأحداث الكبيرة، وعلاقتهم ببعضهم وبالمكان؟

تُبعد المُعالجة الفنيّة الخاصة الفيلم عن الخطابات السياسية المُقحمة أوالمُتلاعبة.
صحيح أن المُخرج نفسه هو من اختار تلك المُعالجة والمشاهد الأساسية للفيلم، إلا أن ما جرى في هذه الأخيرة وصل بدون تحريف إلى الشاشة، وهذا ما يمنح الفيلم طزاجة خاصة، فالصور تعوض هنا حقاً عن عشرات الكلمات. فلأجل لمس مدى تعاضد الثوار، علينا التمعن في تلك المشاهد العادية في أجواءها ، لنساء ورجال كانوا يعدون شطائر للمتظاهرين، والهمة والعزيمة الواضحة على محياهم.
كما تُوفر المشاهد التي تظهر وصول بشر من أعمار مُختلفة إلى الميدان، صورة عن التنوع في صفوف هؤلاء. وعندما يبدأ الفصل القاتم من العنف، تنقل مشاهد في الفيلم، أجواء المعارك الخلفية، والوحدة والاستبسال الذين بديا على المتظاهرين العزل من أي أسلحة، والذين واجهوا قوات عسكرية مُسلحة.
يعود المُخرج الأوكراني سيرغي لوزنيتسا بفيلمه “ميدان”، إلى السينما التسجيلية والتي كان تركها لبضعة سنوات من أجل السينما الروائية. لكن فيلمه التسجيلي هذا، لا يختلف كثيراً بنفسَه الجدليّ وجرأته الفنيّة ومراهنته على السرد البطيء القاتم، عن عمليه الروائيين السابقين (“في الضباب” من عام 2012 عن قصة من الحرب العالمية الثانية، و “فرحي” من عام 2010 عن سائق شاحنة يقطع الطريق في ليل أوكراني). يستلهم المُخرج في “ميدان” روح كلاسيكات السينما التسجيلية من عصرها الصامت، لكنه، وعوضاً عن الموسيقى في تلك الأعمال، ينقل صوت “الميدان” وما يجري فيه، ليكون شريط الصوت في فيلمه، والذي يتعاظم تأثيره النفسي، مع اقترابه من نهايته، عندها تبدو الثورة الأوكرانية وكأنها تختزل ثورات العالم، ومن نراهم على الشاشة في الافتتاحية، لن يعودوا مع خاتمة الفيلم غريبين يتكلمون لغة أجنبية، بل رفاق درب إنساني واحد.