“سيساكو”.. المخرج الذي اهتم بالسينما قبل أن يعرفها

يمنى طاهر – الدوحة

عبد الرحمن سيساكو

ضمن فعاليات الدورة الأولى من ملتقي “قمرة” السينمائي والذي نظمّته مؤسسة الدوحة للأفلام في الفترة من 6 وحتى 11 مارس، تم استضافة المخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو ضمن عدد من خبراء صناعة الأفلام حول العالم، بهدف التواصل وتبادل الخبرات مع صناع الأفلام الشباب في الخليج والوطن العربي.
تم عرض فيلمه “تمبكتو” والذي رُشِّح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، كما عُرض بالكثير من المهرجانات العربية والدولية وفاز بسبع من جوائز “سيزار” في الاحتفال السنوي للأكاديمية الفرنسية للفنون والسينما في دورتها الـ40.

يحكي الفيلم عن مدينة تمبكتو بغرب مالي بعد اجتياح الجهاديين لها وإخضاعها لحكمهم بقوة السلاح، مستعرضا التغيُّر الذي لحق بحياة الناس اليومية وأثرّ على مصائرهم.
الفيلم أشبه بقصص هامشية متعددة، لكنه افتقد للحبكة الدرامية المحكمة، فبسبب رغبة المخرج على ما يبدو في نقل أكبر قدر ممكن من الأحداث كي يرسم صورة للمدينة تحت حكم الجهاديين، لم يولِ العناية الكافية للقصة الرئيسية في الفيلم، وتم الزجّ بحكايات فرعية خارجة عن السياق وغير موظفّة جيدا.
يُحسب للفيلم صورته الجمالية الرائقة والمعبرة، فقد أجاد توظيف الكاميرا والموسيقى المصاحبة للأحداث والتي كانت تدخل في أوقات حاسمة وقليلة معبرة عن العالم الداخلي للشخصيات دون توجيه لشعور المشاهد.

بائعة الهوى من فيلم “تمبكتو”

جاء السيناريو ضعيفا وفي بعض الأحيان وعظيا مباشرا، كالحوارات التي كانت تدور على لسان شيخ الجامع مخاطبا الجهاديين بلغة سطحية ومباشرة. غير أن هناك بعض المشاهد البليغة التي لا تُنسى، مثل مشهد الصبية وهم يلعبون في مباراة حقيقية لكن بدون كرة بسبب تحريم الجهاديين لها. ومشهد المرأة التي حُكم عليها بالجَلد لغنائها وجلوسها مع شاب غريب في البيت، وأثناء تنفيذ الحكم ارتفع صوتها بالغناء المتألم ممزوجا بالدموع.
لم يتبنَّ الفيلم الصورة النمطية للجهاديين في السينما، والتي تُحولِّهم إلى أشرار لا خير فيهم، بل عرض بصدق إنسانيتهم المتصدعة، تناقضهم، وارتباكهم في كثير من الأحيان. مشهد أحد الجهاديين وهو في بيت بائعة الهوى يرقص بشكل مدروس معبرّا بحركاته عن دواخله المتشابكة وكل الكلمات التي لا تقال، كان ساحرا. كما كان بليغا استخدام رمزية شخصية بائعة الهوى المجنونة، التي لا يملك أحد محاسبتها لفقدانها العقل فتتصرف بكامل حريتها، الوحيدة التي ترتدي ملابس زاهية وتضحك بصوت عال، وهي الوحيدة أيضا التي امتلكت القدرة على الوقوف بثبات أمام سيارة الجهاديين.
بالنظر إلى تفكُّك الفيلم وضعفه النسبي من الناحية الفنية، يمكن اعتبار أن ترشحُّه للأوسكار جاء لأسباب سياسية قُدمت على المعايير الفنية كالعادة.

البدايات ودخوله إلى عالم السينما
في ندوة “قُمرة” الدراسية لصناع الأفلام الشباب والتي تلت عرض الفيلم، تحدث سيساكو عن تاريخه الفني لافتا إلى الكثير من التفاصيل الهامة .
أثناء الحديث عن بداياته ذكر معلومة وصفها بأنها بالغة الأهمية، وهي قراره بالدخول إلى عالم السينما دون أي معرفة مسبقة به، بل حتى دون حضور أفلام من قبل حيث لم تتوفر أي دور سينما في مالي في الفترة التي كان يعيش فيها هناك. وحكاية انجذابه لعالم السينما تعود إلى أمه، التي كان لها ابن من زواجها الأول، وأخذه منها زوجها السابق مانعا إياها من رؤيته أو التواصل معه لمدة خمسة عشر عاما، لكنه كان حاضرا بينهم طوال الوقت بحكاياتها الدائمة عنه وتخيُّلها له, وفي يوم أتى لرؤية والدته وزيارتها بعد كل هذه السنوات، وأخبرها أنه يدرس السينما، في هذه اللحظة سمع سيساكو عن السينما لأول مرة في حياته، وقرّر دراستها. أي أنه على حد وصفه لم يدخل عالم السينما شغفا بها بل شغفا بحكاية أمه وأخيه.

لقطة من فيلم “الحياة على الأرض”

قرر سيساكو الدراسة  بمعهد جراسيموف الحكومي للسينما في موسكو. وهو أحد أهم معاهد السينما والذي درّس فيه كبار المخرجين أمثال تاركوفسكي وغيره. متحدثا عن صعوبة بداياته، أنه في اللقاء الأول فاجأ لجنة التقييم التي كان عليها تقرير مدى أهليته للالتحاق بالمعهد، حيث لم تكن لديه أي معرفة مسبقة ولا حتى بالبديهيات، مما أثار استغراب الجميع من رغبته المُلحّة في أن يصبح مخرجا! طُلب منه أن يكتب ثلاثة نصوص، الأول يحكي عن آخر يوم له قبل مغادرة بلده والانتقال إلى موسكو وأول يوم له في البلد الجديد، والثاني عن سبب رغبته في أن يكون مخرجا، والثالث عن حدث كان له تأثير هام في حياته.
في النص الأول وصف غرفته التي كان يعيش فيها مع والدته، غرفة صغيرة بها نافذتان أرضيتان، اعتاد الجلوس أمامهما مراقبا أقدام الناس وهي تسير في تتابع، إطارات السيارات، وغيرها من الأشياء التي يمكن رؤيتها من هذه الزاوية المنخفضة، كان يصف بيئته وما يحدث فيها كما هي، ببساطة وتلقائية، لكن أساتذته في المعهد الروسي رأوا في هذه المشاهد صورة سينمائية، وعليه تم قبوله في المعهد لأنه يمتلك معرفة خاصة، وهو ما تحتاجه اللغة السينمائية.

بعد تخرجه واجه صعوبات في ممارسة الإخراج، لعله يلخصها بالوصف الذي أُلحق به (الإفريقي الذي لا يعرف الكثير)، تحدث عن هويته الإفريقية التي يعتز بها وكيف أثرت عالمه الداخلي وشكّلت رؤيته للعالم، وعن دور أستاذه في دعمه وبث الثقة بمواهبه ودفعه للقتال من أجل تقديمها للعالم.
تأثر سيساكو بالمدرسة الإيطالية (الواقعية الجديدة) لأنها على حدّ قوله كانت تنقل ما يدور حقيقة في الحياة، وهو الشيء الذي طالما شغله ولفت اهتمامه، ومن هنا جاءت فكرة فيلمه الروائي الأول (الحياة على الأرض) وهو كما يصفه بداية تعبيره عن صوته الخاص وإيجاد الصورة التي تشبهه. حيث ركز فيه على أمكنة الهامش لنقل واقع جمالي لا نراه بشكل معتاد على الشاشة.

مشهد القتل من فيلم “تمبكتو”

لكل فيلم لحظة مؤسِّسة تُبنى عليها الرواية كما يقول سيساكو، واللحظة المؤسسة لفيلمه (الحياة على الأرض) حدثت أمام مركز الهاتف الذي كان يراقبه لساعات طويلة، والذي كان يتجمع فيه الناس للتواصل مع ذويهم، وبينما يلتقط المَشاهد بكاميرته لهذا المرور العفوي للوجوه المحملة بالانفعالات والشفاه التي تتحدث بصوت لا نسمعه، مرّت أمام الكاميرا امرأة جميلة جدا ترتدي ملابس ملونة زاهية وتقود دراجة، أوقف الكاميرا وطلب منها أن تكون بطلة الفيلم الذي سيدور حول مركز الهاتف ذاك، وافقت “نانا” وكان فيلمه (الحياة على الأرض).

 
عن أهم الأشياء التي يجب أن يهتم بها المخرج، تحدث سيساكو عن تعريض نفسه للكثير من التجارب والفرص والتيقظ في انتظار اللحظة المناسبة لحدوث السحر، وكمثال لهذه اللحظات حكى عن الممثل الذي قام بدور الصياد المقتول في فيلمه الأخير “تمبكتو”. في اليوم المقرر فيه الذهاب لموقع التصوير والذي كان يستغرق يوما كاملا بالسيارة، لم يكن قد قرر بعد من هو الممثل الذي سيقوم بهذا الدور، وكل الصور التي عُرضت عليه لم يرَ فيها وجها يماثل الشخصية كما يتخيلها، التصوير كان في بحيرة واسعة وسط صحراء موريتانيا، حين وصل بحث في وجوه الصيادين العاملين هناك حتى وجد الوجه الذي ينتظره، عرض عليه الدور ثم فوجئ بأن هذا الصياد قادم من تمبكتو، حيث تركها بعد احتلال الجهاديين لها، وقرر العمل بالصيد في هذه البحيرة الصغيرة ! وهكذا حدث سحر السينما كما يصفه.
اختتم سيساكو الندوة بقوله :”لا يمكن أن تكون عظيما دون أن تُقدِّم ما هو عظيم، وهذا ما أحاول الوصول إليه”


إعلان