“كويرات” .. وطني ثائر وفنان حالم
ضاوية خليفة

وحده الموت الذي استطاع أن يُغيِّب الفنان “سيد علي كويرات” (1933- 2015) ، الشهير بعبارة “على موت واقف”، الرجل الذي امتلك مقومات النجاح ومفاتيحه في مرحلة امتدت من أيام الاستعمار إلى ما بعد الاستقلال، فنان له هيبته على الشاشة، وقفته أمام الكاميرا تعني الكثير فما بالك إن تحدث، في حضرته تغيب كل المعاني والكلمات، ويتجلّى الصدق في التمثيل بأبهى الصور والدلالات، قامة فنية نادرة صعب على الجزائر أن تنجب مثلها ولم يستحِل عليها ذلك، وبرحيلها يكون الفن والسينما تحديدا قد فقد الكثير، فالذي ترجّل يوما في أحد أعماله التاريخية إلى قدره بثقة البواسل والشجعان وقابلته حينها القوات الفرنسية بوابل من الرصاص، انتقل إلى الرفيق الأعلى وسلّم روحه هذه المرة لبارئه حقيقة لا تمثيلا، والتحق برفقائه الذين اتفق معهم على نصرة الجزائر وخدمة فنها والارتقاء به كمصطفى بديع وأحمد عياد، العربي زكال، كلثوم، محمد التوري، فتيحة بربار وآخرون.
عاد الشعب وتوحّد من جديد كما أراده “علي” ذات يوم، زالت الفوارق عندما بكاه الغني وتحسر لفقدانه الفقير، فشيَّع المسؤول والعامل البسيط ابن الشعب إلى مثواه الأخير، وما يؤكد ويترجم المكانة التي كان يحظى بها الرجل رسالة رئيس الجمهورية “عبد العزيز بوتفليقة” التي أبرق فيها معزيا الجزائر، عائلته والأسرة الفنية في مصابها هذا، معددا بمناقب كويرات الإنسان، الفنان والمجاهد الثائر الذي التزم بقضايا وطنه وجعل من انضمامه لفرقة جبهة التحرير الوطني سبيله الأمثل لخدمة الثورة الجزائرية بالداخل أو الخارج، رفقة أبناء جيله الذين تمكنوا من استرجاع سيادة البلد والشعب المغتصبة حقوقه، وتصدّوا لغطرسة العدو وهمجيته بقيم الفن الرفيع، واصفا إياه بالمدرسة التي كونّت أجيال.
تاريخ رجل لا يُختصر في سطور

تميز “سيد علي كويرات” أو كما يسمونه أسد الشاشة في السينما، أبدع في التلفزيون، وتألق في المسرح، لكن فلسفته كانت الإخلاص للفن والوفاء له مادام يؤدِّي رسالته ويخدم قضايا، فكان المنبع الذي يروي شغفه والعالم الذي لا تستقيم الحياة دونه، فذلك الشاب اليافع الذي أسند له المخرجون الذين تعامل معهم أدوار مختلفة لم يكن يدري أن الكثير منها ستصبح أعمالا خالدة تكتب ميلاده الثاني، خاصة تلك التي مجدت ثورة الفاتح نوفمبر ولا تزال مفخرة الأجيال والكثير من الأوطان التي عاشت نير الاحتلال الغاشم، فالذي عايش تلك المرحلة أدّى وبصدق أدواره وكأنه يعيشها من جديد، والأحلام التي رافع لأجلها وسعى لتحقيقها في أن تحتل السينما الجزائرية رغم قلتها آنذاك الصدارة عربيا وأن يسمع العالم صوتنا ويعرف عن ثورتنا، حققها بنفسه وبروائعه.
من أول عمل مسرحي أطلّ به على الجمهور رفقة كاتب وبودية سنة 1950، وسينمائيا بـ”وقائع سنين الجمر” لمحمد لخضر حمينة الذي منح الجزائر السعفة الذهبية بمهرجان كان 1975، و من هنا أخذ اسمه يرتبط أكثر بالسينما والثورة فكان صانع وممجد الثانية من خلال الأولى بفيلم “الأفيون والعصا” مع أحمد راشدي عام 1969، وتوالت حينئذ الأعمال ومعها النجاحات وبدأ الفتى يبرز أكثر وأخذت مواهبه تظهر من عمل لآخر، وصار الواقع يقترب من أحلام الرجل الذي أطلّ على المشاهد العربي سنة 1976 بـ “الابن الضال” للمخرج المصري “يوسف شاهين” رفقة الفنان “محمود المليجي” وسيدة من سيدات الغناء العربي اللبنانية “ماجدة الرومي” التي ورغم مرور السنين وقفت اليوم لتحيي الراحل وتعزي الجزائر فقدانها أحد مبدعيها.

وبعد أقل من عشرين سنة عاد شاهين وكويرات والتقيا في فيلم “المهاجر” 1994، ولم يكن التعاون الجزائري المصري الوحيد بل اجتمع هذه المرة عراب السينما الجزائرية بالمخرج “خيري بشارة” في “الأقدام الدامية” 1980، وارتفع رصيده السينمائي، المسرحي والتلفزيوني وفاق 60 إنتاجا نذكر منه: “الجثة المطوقة” لكاتب يس، “أبناء القصبة” لمصطفى بديع، “الشبكة” لغوثي بن ددوش 1976، “حسن طيرو” 1974، “الأجنجة المنكسرة” لرشدي جغوادي 2009، “خالي وتيلغراف” 2007، “أولاد الشمس” 1991، مسلسل “اللاعب” 2004، وروائع أخرى ستُبقي الرجل حيا في الذاكرة حتى لا يختصر رصيده الكبير في مشهد أو عمل ما، وهو الذي كان يتمنى أن يذكره المشاهد بكل الأدوار التي قدمها في المسرح والسينما أو التلفزيون مع خيرة الفنانين الذي أنجبتهم الجزائر كـ “حسن الحسني”، “علال المحب”، “محي الدين باشطارزي”، “طه العامري”، “يحيى بن مبروك”، “سيد أحمد أقومي”، “مصطفى كاتب” وقامات التمثيل والإخراج التي مهدت لميلاد حركة ثقافية رائدة صنعت أمجاد هذا البلد وفنه.
قالوا عنه ..
ملامح الفنان “سيد أحمد أقومي” وهو يرثي رفيق دربه ترجمت وبصدق ألم الفراق وانقطاع الوصال الذي فرضه القدر، فكانت عباراته الأقوى بين الحاضرين والأكثر تأثيرا، فصديقه “سيد علي كويرات” ابن قصبة الجزائر المعلم التاريخي والأثري العتيق، يقول أقومي “لم يُخجله انتماءه لأسرة ميسورة الحال أو من عدم تفوقه في دراسته يوما، لأنه وجد في الفن، المسرح والسينما مستقره والمكان الذي يحويه وأحلامه، وبعزيمته ومثابرته وبتمسكه بهويته صنع هذا الاسم الذي نقف هنا اليوم لنرثيه ونبكيه وحتما سنخلد ذكراه، كما عبّر ابن التلفزيون ومديره الأسبق “حمرواي حبيب شوقي” مؤسس مهرجان وهران للفيلم العربي عن تأثره برحيل رجل الأدوار الصعبة والهادفة الذي قدم حياته للفن والوطن دون تردد أو تقصير، معتبرا إياه مفخرة الجزائر والعرب.

وعن أحلامه قال الأديب والكاتب أمين الزاوي “هي أكبر من أن تستوعبها السينما الجزائرية، فقد عاش الرجل حالما إلى أخر رمق من حياته، وأوصل صورتنا في زمن غير بعيد إلى مواطن لم نكن بالغيها إلا بشق الأنفس”، بينما وصفته بطلة “رشيد بوشارب” الفنانة “شافية بودراع” التي سبق وتعاملت معه كثيرا وعرفته عن قرب، بالفنان الإنساني بطبعه وتعامله مع الناس، أما المنتج “بشير درايس” فقال “وجدته مند عرفته فنانا محترفا متواضعا، عُرف بانضباطه ومهنيته، كان يمتلك روح شبابية تجعلك تنسى فارق السن الموجود دون أية حواجز، شخصيا اشتغلت معه في المفتش “لوب”، وتشرفت بالتعاون مع هذه القامة الفنية الكبيرة التي أضافت لي الكثير” وفي ختام حديثه رفع درايس أمانيه ليحفظ هذا الجيل والذي بعده رسالة المخلصين للأرض والثقافة الجزائرية.
إن رحل الفنان فأثره كإنسان باق، وإن غاب المرء ظلّت روائعه تخلد ذكراه، وان استحال على الحياة إدراك العمر، فعلى المرء تدارك الحلم والوفاء لرسالة هؤلاء الذين أخلصوا للفن كإخلاصهم للوطن، وها هو أحد صناع أمجاد الصورة ورجالات المسرح يرحل تاركا رصيدا فنيا مشرفا تفتخر به الأجيال مستقبلا وهي على قدر كبير من المسؤولية لتتم مشوار الرواد، الذين لم يتخذّوا من الفن مصدر رزق أو دخل بل جعلوه مرآة يرى فيه الشعب نفسه ووسيلة تثقيف وتوعية وترفيه.