بين التشكيلي والسينمائي أحلام وذكريات وعتاب

 المصطفى الصوفي

هو فنان تشكيلي مغربي استهوته السينما منذ كان طفلا، عشق بهاء الصورة وغرابتها، وألوانها المحايدة والدافئة، تماهى مع ألحان السينما الهندية منذ السبعينيات من القرن وحتى الآن، ركب حدود المفاجأة والعجائبي مع السينما الفرنسية، وتفاعل كثيرا مع السينما الأمريكية، وبخاصة سينما الخيال العلمي، والسينما العجائبية، التي تصنع من الخيال والحلم، من أجل إمتاع الجمهور، والبحث عن ذلك المعادل الموضوعي، الذي يفضي إلى التميز، وترسيخ البصمة، وتحقيق نوع من الشهرة دون الحاجة إلى الآخرين والعيش في جلبابهم كما يقولون، أو الاقتتات مما تركه السابقون من أعمال ولوحات ومواضيع.

جمرة التشكيل وضوء السينما
الفنان التشكيلي “عبد الغني الحراثي”، مبدع شغوف بالسينما وضوئها، التي منحته أبهة الألوان، وخصوبة الصورة، وفيض مواضيع، تابعها بالعديد من الأفلام الروائية والطويلة، فضلا عن الأفلام التخيلية والوثائقية، التي يجد فيها المادة الخام للاشتغال. السينما عند الحراثي فن الفنون، وفضاء مفتوح على الإبداع الخالص والمشتهى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، هذا الفن السابع الذي يجمع بين مختلف الفنون من مسرح وموسيقى وتصوير، وغيره، شكّل بالنسبة إليه حافزا على العطاء، والتخيُّل والإبداع، لكن في عالم الفنون التشكيلية والرسم، الذي كان قدره، والجمرة التي اكتوى بها، وأمواج خصبة من الألوان التي تتهادى وتسافر على رمال لوحاته مدا فجزرا، فيما الريشة تطفو مزهوة بنخوتها، مشكلة بذلك صورا تعجب الناظرين.
الفنان التشكيلي، كان يحلم بأن يكون سينمائيا ممثلا أو مخرجا، لكن الأقدار شاءت أن يكون رساما، ومبدع ديكورات، وهو مجال ـ كما يقول في حديث خاص للجزيرة الوثائقية – قريب جدا من السينما، لأن الديكور ، هو أحد الركائز الأساسية في المنظومة الفيلمية خلال كل مشروع وعمل سينمائي، وبالتالي التأكيد على أهمية الفنون التشكيلية والرسم، في الممارسة السينمائية بشكل عام.

ويضيف الحراثي على هامش افتتاح معرضه التشكيلي الجديد برواق مجلس جهة الرباط، والمنظم من قبل جمعية زوايا التشكيلية أن مصمم الملابس والأزياء في السينما، هو في الأصل فنان تشكيلي بارع، ومبدع يدرك جيدا، قيمة الأزياء كصورة ومشهد، وكسحر ألوان، وبهاء فساتين، وروعة مناديل وإكسسوارات مختلفة ومتنوعة، تلعب دورا كبيرا في نجاح، أي عمل سينمائي، ومن ثمة تكريس أهمية الرابط الجميل، والخيط الناظم، الذي يشج عالم الفنون التشكيلية بعالم السينما والفن السابع بشكل عام.

إشاعة ثقافة الصورة

الحراثي مع إحدى لوحاته

وقال الحراثي بالمناسبة التي تقام برعاية إدارة مجلس الجهة، وتستمر حتى الثالث من  شهر أبريل القادم، أن للفنون التشكيلية والسينما سحر واحد ومتعة  واحدة مشتهاة، هي متعة الفنون، وسحر الفرجة، وأناقة المتعة البصرية التي تحققها كل من اللوحة التشكيلية، والصورة السينمائية بما فيها من ألوان وشخوص يتحركون، ومشاهد يصنعها المخرج كما يريد.
كما أبرز أن الفنان التشكيلي الحقيقي هو الذي يُقدِّم مشاهد غنية بالدلالات والرموز دون تقديم صورة مباشرة قد يملّ منها المتلقي والجمهور، وصورة فنية تحدد معالمها زوايا اللوحة، ما يجعل اللوحة التشكيلية خطابا ثقافيا مكتنزا مؤثرا، والفنان مثقفا عضويا مساهما في إنتاج المعرفة، وإشاعة ثقافة الصورة، وترسيخ روح المشاهد المثالية الجميلة، والأمر ذاته ينطبق على الفنان التشكيلي، فالفن والإبداع السينمائي في نظر الحراثي، موهبة قبل أن يكون دراسة أكاديمية، والفنان الذي لا يستحضر قيمة الحلم والإبداع في ما يبدعه، قد لا يكون فنانا مؤثرا في المتلقي.
وفي سؤال، عن استحضاره لتيمة الحلم في أعماله التشكيلية، يؤكد أن اللوحة التشكيلية التي مارس على صفحاتها كل الأشكال الفنية والمواضيع، تظل مساحة حرة للحلم، فبدون حلم لا يمكن إنتاج إبداع جميل، إن أعظم الأعمال السينمائية والتشكيلية العالمية، هي عبارة عن لحظات حلم، وخيال ورؤيا، ومسحات شعرية.

تهذيب الذوق الفني والجمالي
إن الحلم التشكيلي الذي يتحدث عنه الحراثي، والذي يحاكي في كثير من الأحيان إبداعات السينما التي ولع بها الفنان وأحبها، هو رسم الخيالي واللاواقعي، هو مصاحبة بلاغة الغموض والإبهام، من أجل إيصال أفكار كثيرة يؤمن بها الفنان ومن خلاله المتلقي، أملا في البحث عن ألق فني تشكيلي وسينمائي يمتع العين، ويخلق نوعا  من التفاعل بين الصورة ومشاهدها، والتآلف بين كافة الفنون، التي تراهن في الأساس على تهذيب الذوق الفني والجمالي للمتلقي، فضلا عن إشاعة ثقافة الصورة وتوثيقها، وترسيخ ثقافة التسامح والحوار والتعايش بين الجميع، ونبذ كل أشكال التطرف والعنف بين مختلف الأجناس والديانات والحضارات.
ولفت الحراثي بالمناسبة إلى الفن التشكيلي علاقته الوطيدة بالسينما، وذلك من خلال فن الفيديو، والمؤثرات الصوتية والبصرية، واعتماد جماليات الرسم في فضاءات الرقص والموسيقى، وخاصة في الأفلام الهندية، وأن نصوصه التشكيلية، من خلال تجربته تلتقي مع النص السينمائي، انطلاقا من رهاناته ورؤاه، وهو الأمر الذي يجعل مرامي كلا من الفن السينمائي والتشكيلي، دائم الحضور في حياته الشخصية والعملية، تأكيدا لروح الاندماج بين الحياة الخاصة للفنان وإبداعه.
وفي جانب آخر يؤكد الحراثي أن السينمائي والتشكيلي يلتقيان في محطة قطار الفرجة، للكبار والصغار، في إشارة واضحة ومن خلال معرضه الجديد، إلى احتياجات كل من الرسام والسينمائي، لجعل الرسومات تتحول إلى لقطات متحركة، وفي ذلك فضل كبير، وروعة إبداع تخلقها سينما الرسوم المتحركة، فتمنح فرجتها للجمهور في شتى أنحاء العالم، حيث إن كثيرا من الأفلام في هذا الشأن، حققت لمنتجيها ومخرجيها إيرادات مالية مهمة لا تخطر على البال.

قصر نظر السينمائيين

وفي هذا السياق يؤكد الحراثي رغبته الأكيدة على انفتاح أعماله وتجربته، على عالم السينما المتحركة والكارتونية، وذلك من خلال أفلام للخيال العلمي، وأشرطة أسطورية، وخرافية، فيها يتعاون الرسام مع السينمائي من أجل إبداع أعمال في المستوى، مبرزا قصر نظر السينمائيين المغاربة في هذا المجال، وجهلهم بأصول وأهمية هذا القطاع، وعدم إلمامهم بالقيمة الفنية الكبرى التي يوفرها الفنانون التشكيليون من مادة خام، قادرة على خلق المفاجأة، وبعث حياة جديدة في المشهد السينمائي المغربي، والذي غالبا ما يشتغل على مواضيع متجاوزة. كما عاب على المخرجين السينمائيين والمنتجين، عدم إشراك الفنانين التشكيليين في أعمال سينمائية خاصة بالرسوم المتحركة تنهل من التاريخ والتراث، والموروث الشعبي وقيم المجتمع والمظاهر الاجتماعية والثقافية، وذلك لكسب رهان سينما مغربية ناجحة، بغض النظر عن بعض المبادرات المحتشمة جدا.
ومن أجل خلق ثقافة سينمائية تشكيلية مشتركة، دعا الحراثي إلى تمكين طلاب المعاهد المتخصصة في السمعي البصري، والسينما، والمؤسسات من تكوين متكامل، في بعده الأكاديمي الجمالي والتخييلي، حتى تتمكن الأجيال القادمة، من توطيد هذه العلاقة التي تجمع التشكيلي بالسينمائي والتي هي الآن علاقة تنافر وتضاد، واستفادة السينمائي من التشكيلي واستثمار إبداعاته وفنه.

لوحات تطير كالفراش والحمام
هكذا هي لوحات عبد الغني الحراثي، أجنحة فنية بريش خفيف سينمائي، وعلى بساط أحمر فخم، تسافر بالمتلقي والجمهور إلى ضفاف كلها تأمل وانبهار، وطرح أسئلة، بحثا عما يوجد وراء دلالات تلك اللوحات. حيث يقدم رؤية جديدة للفنون التشكيلية، التي تفصح عنها لوحاته، وهي متعة بصرية راقية، ومزيدا من الإشراقات الفنية والإبداعية التي تحيل العمل التشكيلي إلى نص إبداعي حالم له مقامات شعرية، وشطحات صوفية، ورقصات فنية، وإشكالات فلسفية، مشاهد سينمائية خيالية، وأطياف ترفرف كالفراش.. كالحمام.


إعلان