“قصبة الاوداية”: تطل على التاريخ ..البحر والأضرحة
المصطفى الصوفي

يُشكِّل المكان، بما لديه من حمولة جغرافية وجدانية وتاريخية غاية في الشوق والحميمية، لدى العديد من المبدعين وبخاصة لدى الباحثين والمؤرخين والشعراء والمثقفين والسينمائيين، فضاء خصبا للحلم والإبداع، واستحضارا لفيض عوالم متناغمة ومتنافرة، وطرح الكثير من الأسئلة والقضايا المختلفة، وذلك بهدف خلق نوع من المتعة والمتابعة المشوِّقة لدى المتلقي، ومختلف المتتبعين والمهتمين.
وفي ذاكرة المدينة العربية، توجد الكثير من الأمكنة والزوايا الساحرة، التي تُشكِّل مصدر إلهام لدى صناع السينما الوثائقية، وذلك من خلال استثمار خصوبة تلك الفضاءات التاريخية وعوالمها الأنثربوليجية والسوسيولوجية، وتوظيف ما تمتلئ به من مكونات قديمة وحديثة، مع ربطها بالماضي والحاضر، وكل ما من شأنه أن يجعل منها، مكونا أساسيا لترسيخ قيم الهوية والوطنية والتاريخ المشترك وروح الذاكرة الجماعية والفردية.
شريط وثائقي في ملتقى التراث
قصبة الاوادية بالعاصمة الرباط، واحدة من الفضاءات التاريخية والتراثية، التي تُعدّ زينة الحضارة المغربية والعربية والدولية على حد سواء، استهوت الكثير من المبدعين والفنانين، مخرجين سينمائيين، وفنانين تشكيليين، وروائيين، ومؤرخين، لما لها من تاريخ عريق، وموقع استراتيجي مهم، ما حدا بهؤلاء المبدعين وعشاق شاعرية المكان وروعته، للنبش في تاريخها، واستكشاف عوالمها ومكنوناتها، والبحث في ضفافها المُطلّة على بحر الظلمات، عما كان فيها وما تغير، وما نبت فوق أسوارها من أزهار برية ما تزال تحكي ألف قصة وقصة، مفعمة بأريج بحر عميق وطويل، يمتدّ بعيدا على حد البصر.
في هذا الإطار، تم مساء الاثنين العشرين من شهر أبريل الجاري بالرباط، عرض شريط وثائقي بعنوان (الواجهات الثلاث لقصبة الاوداية) من توقيع محمد البزيوي، وذلك في ختام الملتقى الثاني للتراث، الذي نظمّته جمعية التواصل للعمل الثقافي والاجتماعي بمناسبة مرور ثلاث سنوات على تصنيف العاصمة الرباط، ضمن التراث العالمي والإنساني من قبل منظمة (يونسكو).
وقدّم هذا الشريط الوثائقي، فيضا من المحطات التاريخية والطبيعية والتراثية والعمرانية، التي تُميز قصبة الاوداية، منذ زمن بعيد وحتى الآن، وهو ما يجعل من هذا العمل الإبداعي، وثيقة بصرية نادرة ومتميزة تكشف القناع عن جانب مهم من التراث الحضاري العربي والإسلامي، الذي ميّز المغرب الأقصى في عهود خلت، كنقطة ارتكاز مهمة، مطلة على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، وهو ما جعله محط أطماع الكثير من الأجناس والغزاة.
قصص تُروى بالصورة

كما يحكي الشريط الوثائقي، بطريقة غاية في التشويق، تجعل للمكان سلطة قوية في التأثير والمتعة على المتلقي، قصصا تروى بالصور، وقعت في أزمنة متباعدة ومختلفة، وبخاصة أثناء فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب منذ العشرينيات من القرن الماضي، فضلا عن أهمية هذا المكان، الذي يُطلّ على ثلاث واجهات، الأولى، نحو المحيط الأطلسي، والثانية على مصب نهر أبي رقراق ومدينة سلا المحاذية للعاصمة الرباط، والثالثة على المدينة العتيقة للرباط، وبخاصة صومعة حسّان، التي شيدها السلطان يعقوب المنصور الموحدي، وكان نصفها من ذهب، ما يؤكد ازدهار الحضارة الموحدية ورخائها آنذاك.
وعرج الشريط على فترة مهمة عايشتها زوايا القصبة، ويتعلق الأمر بتاريخ ما سُمِّي بقراصنة سلا، وذلك خلال القرن السابع عشر من القرن الماضي، هؤلاء القراصنة تشكلوا من بحارة موريسكيون وآخرون طردوا من الأندلس، وامتهنوا القرصنة والسرقة البحرية، واستقروا بالرباط وسلا. والوقوف كثيرا عند الأغنية الشعبية التي تقول ( تكشبيلة تيوليولة، ما قتولني ما حياوني، ذاك الكاس اللي عطاوني، الحرامي ما يموتشي، جات خبارو في الكوتشي).. وهي أغنية حسب بعض الباحثين، تبرز المعاناة القاسية ومأساة الموريسكيين المطرودين من إسبانيا، وإذلال النصارى لهم بترهيبهم وإجبارهم بالقوة والتهديد على شرب الخمر، حتى يستطيعون الرجوع والعودة إلى البلاد، في أبشع صور تنعدم فيها كرامة الإنسان، وقيم الحرية.
ونستحضر بالمناسبة، الفيلم الوثائقي”قراصنة سلا” للمخرجتين مريم عدو من المغرب و روزا روجرز من بريطانيا، والذي استلهم موضوعه من جوهر التاريخ، وترسيخ روح الكرامة والحرية.
عبور أجناس وجمال
كما كشف الشريط الوثائقي بالمناسبة، عن جانب مهم من القصبة، التي كانت محط عبور محلية، وقطع الوادي نحو الرباط وسلا والعكس، حيث عبور البشر والمؤونة، والحيوانات كالجمال والبغال والحمير وغيرها. إضافة إلى عبور الكثير من الأجناس من المنطقة، سواء على مستوى الأنشطة التجارية، أو خلال فترات حروب متباعدة ميزت أربعينيات خمسينيات القرن العشرين الماضي، ميزّت المكان، وذلك خلال الحماية الفرنسية للمغرب، مع أول مقيم عام فرنسي الجنرال هوبير ليوطي بعد احتلال المغرب سنة 1912، حيث بقي ليوطي اثنا عشر سنة بالبلاد، فضلا عن المقيم لوكس شارل، الذي مكث في المغرب هو الآخر ما بين 1936 و 1943، وما لحق القصبة خلال تلك الفترة من تشويه لواجهاتها ولأبوابها، وهدمها من أجل دخول الجنود.
كما تطرق الشريط أيضا إلى تاريخ أحد الأبراج العسكرية العملاقة المطلة على المحيط الأطلسي، والتي تحمل ثلاثون طنا من وزن مدافع أصبحت مهملة، حيث شُيِّد هذا البرج لمراقبة الغزاة، خلال سنة 1888، وسكن الفضاء بعد ذلك عائلات تم ترحيلها، ليبقى المكان مهجورا في انتظار أن يلتفت غليه المسؤولون، وبخاصة محافظة العاصمة الرباط، ووزارة الثقافة، وتحويله إلى متحف وطني، حفاظا على الذاكرة التاريخية للمدينة.
حكواتيون ومروضو الأفاعي

وسلّط محمد البزيوي بالمناسبة، الضوء على جانب آخر من فضاء قصبة الاوداية، خلال الفترة الاستعمارية، حيث كان في السابق، مكانا تنتعش فيه الكثير من الأنشطة التجارية والاقتصادية، مُركزّا بالخصوص على أسواق القصبة وخاصة (سوق الغزل)، والساحة الكبيرة على ضفاف نهر أبي رقراق، حيث كانت تمارس مختلف الأنشطة الحرفية والترفيهية، كما هو الحال حاليا في ساحة جامع الفنا بمدينة مراكش، التي صنفتها منظمة (اليونسكو) مؤخرا، تراثا إنسانيا عالميا، وهي ساحة تراثية تضم الكثير من اللوحات الشعبية والتراثية الساحرة والأسطورية اليومية، يؤثثها مروضو الأفاعي والقرود، وفنانون شعبيون، وسحرة، وعارضون وحكواتيون وشعراء، وفنانون وموهوبون، يعرضون مهاراتهم على السياح الأجانب في ساحة تُعدّ من بين الساحات التراثية والسياحية الشهيرة في العالم، وهي الساحة التي استلهم منها المخرج المغربي عبد الإله الجوهري موضوعا لفيلم (الراقصة)، وصوّره بعين المكان، والذي فاز بجوائز عدة محلية وأجنبية.
بركات الأضرحة الغريبة
كما تطرق الشريط الوثائقي إلى ظاهرة الأضرحة والأولياء والمتصوفة والصالحين، التي انتشرت خلال القرنين الرابع والخامس عشر الميلادي، وقدراتهم العجائبية الخارقة في تحقيق المراد، وذلك من خلال العديد من الأضرحة التي تطلّ عليها قصبة الاوداية، ومنها، أضرحة (سيدي اليابوري)، وهو ضريح البحارة، الذين كانوا يقصدونه للتبرُّك قبل ركوب مراكبهم باتجاه أعالي البحر من أجل الصيد، وطلب النجاة وحظ وافر من السمك، وكل من فقد الأمل في الحياة، وبخاصة النساء العوانس، فضلا عن (سيدي العربي بن السايح) و(سيدي القجيري) و(سيدي بومجيمر)، وضريح (سيدي الحارثي) و(سيدي بوخبزة) و(سيدي بنعاشر) الأندلسي بسلا، والذي توفي عام 1364 ميلادية، وضريح (سيدي موسى)، و(سيدي عبد الله بنحسون)، الذي يحتفل به سكان مدينة سلا كل عام خلال مهرجان وكرنفال روحاني باذخ يطلق عليه اسم موسم الشموع، ويقام بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف.
ويحكي الشريط حسب الرواية التاريخية، كيف تساعد بركة أحد الأولياء بالقصبة التاريخية، في عبور المواطنين مياه نهر أبي رقراق من الرباط باتجاه سلا، مشيا على الأقدام دون أن يغرق العابر، وهي الصورة التي تحمل الكثير من الغرائبية، ما يوضح الإيمان الراسخ للمواطن البسيط غير المتعلم في تلك الفترة، بخوارق وقدرات الولي الصالح الذي كان يحظى بمكانة خاصة لدى عامة الناس، فيها الكثير من التبجيل والتقديس. كما لامس البزيوي من خلال هذا الشريط الوثائقي كثيرا من الإشراقات الجمالية والشاعرية، التي ميزت هذه المنطقة خلال العصر الموحدي منذ 1150 ميلادية، وأهم الفترات والتغييرات التي شهدها المكان، فضلا عن الأنشطة التجارية والحرفية والترفيهية، ما يجعل القصبة تراثا إنسانيا عالميا بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ديكور سينمائي طبيعي
واعتبر أحمد البزيوي، في تصريح بالمناسبة، أن قصبة الاوداية، تعد من أهم القصبات التراثية في العالمين العربي والإسلامي، تحكي بأسوارها وصورها الطبيعية الكثير من العوالم والقصص والذكريات، عن تاريخ وأجناس زاروا المنطقة في مهمات سياسية أو تجارية أو سياحية، ما يجعل هذا الفضاء التاريخي من أعرق الفضاءات الحضارية بالمملكة. داعيا إلى الحفاظ على هذه الذاكرة التراثية والثقافية والبحرية والمعلمة الحضارية التي تطل على ثلاث واجهات جميلة، ما يحولها إلى بانوراما طبيعية ساحرة للغاية.
وشدد على إيلاء أهمية قصوى، لهذه التحفة التراثية والتاريخية، التي وصفها بـ “الجميلة”، وبخاصة أنها تطل على نهر أبي رقرق، الذي شكّل وما زال ديكورا طبيعيا لعدد من المخرجين السينمائيين، وصورة بهية يستمتع بها السياح الأجانب وضيوف المهرجانات التي تقام بكل من الرباط وسلا، وبخاصة المهرجان الدولي لسينما المرأة، والمهرجان الدولي لسينما المؤلف، ومهرجان موازين إيقاعات العالم وغيره من التظاهرات العالمية الأخرى.
وأكد أن السينما الوثائقية العربية بالرغم من اشتغالها على الكثير من المدن العتيقة والمواقع الأثرية، وعادات وطقوس وتقاليد شعوبها، ما تزال مقصرة في حق التراث اللامادي العربي والإسلامي، الأمر الذي يستدعي من مبدعي الأفلام الوثائقية الالتفات إلى هذا الكنز التراثي، ولهذه الزاوية المشرقة من تاريخ الشعوب، واستثمارها سينمائيا من أجل كشف القناع عن تاريخها وعوالمها، خدمة لمستقبل الأجيال ولثقافة الصورة والمكان.
واعتبر شريطه (الواجهات الثلاث لقصبة الأوداية) تجربة متواضعة، من أجل رد الاعتبار لجانب من التراث الإنساني والحضاري للعاصمة الرباط، في أفق اهتمام باقي المبدعين السينمائيين الوثائقيين، بشاعرية وحضارة المكان، كصورة فضلى، ورسالة نبيلة توثق للواقع والكائن والممكن والحقيقة، وتطرح قضايا جوهرية وتربوية، وتدق ناقوس الخطر، لصيانة تلك الفضاءات، كأيقونات حضارية وبطاقات بريدية وسياحية، هي في حاجة إلى اهتمام كبير خوفا عليها من الضياع.