(الفروج) .. أو حينما يصيح الديك بالكوميديا
المصطفى الصوفي

يظل حضور الكوميديا في السينما المغربية محدود للغاية، بل شبه مُغيَّب، حيث لم تستطع حتى الآن زمرة من الممثلين، فرض وجودها بشكل كبير على الساحة السينمائية، باستثناءات نادرة، عكس عدد من التجارب السينمائية في العالم العربي، وبخاصة، في السينما المصرية، التي قدّمت خلال مسيرتها الطويلة، الكثير من الأفلام الكوميدية الرائعة، تماهى معها الجمهور، صفق لها، وفضلها عن باقي الألوان الفيلمية الأخرى.
الأمر هنا في الساحة السينمائية المغربية، لا يتعلّق بعدم وجود ممثلين كوميديين قادرين على إضحاك الناس، أو بمخرجين، يستطيعون نقل الفرجة من المسرح إلى السينما، بل إن المسألة يمكن أن تكون مركبة، وصعبة المراس على أساس أن المسرح شيء، والسينما شيء آخر، وليس هو ما يتوهمّه بعض الكوميديين، الذي حاولوا، نقل شطحاتهم وقفشاتهم، من المسرح أو التلفزيون، إلى السينما، لكنهم للأسف فشلوا في ذلك، ولم يمنحوا للمتلقِّي السينمائي تلك المساحة الممتعة من الفرجة التي يبحث عنها.
فركوس وحكاية الديك
عبد الله فركوس، فنان كوميدي بامتياز، وأيقونة مسرحية، تتحدر من مدينة مراكش، الشهيرة، بفنونها التراثية العريقة، وموروثها الشعبي الأصيل، استلهم، إبداعه الكوميدي مسرحا وتلفزيونيا، من خفة دم المراكشيين، المشهود لهم بالحيوية والنكت الساخرة، فنجح في استمالة الجمهور إليه، من خلال العديد من الأعمال التي لاقت اهتمام المتتبعين، وهو ما حدا به إلى دخول غمار تجربة سينمائية فريدة من نوعها، كان موضوعها هو الديك،(الفروج) بالدارجة المغربية، هذا الطائر الأليف، الذي يبيت في الخم عند مغيب كل شمس، لكنه يستيقظ باكرا، فيصيح عند كل فجر، وتلك كانت بداية أولى المشاهد السينمائية الكوميدية، التي ميزت وقائع فيلمه الطويل (الفروج) والذي يُعرض حاليا في القاعات السينمائية المغربية، ويحقق أعلى الإيرادات منذ طرحه لأول مرة خلال شهر فبراير الماضي.

شريط (الفروج)، حكاية ساخرة، مصاغة في قالب كوميدي رقيق ومرح، عن جملة هموم وقضايا اجتماعية، تُساءل الذات والآخر، وتبحث لها عن حلول، بطريقة مرحة، لكنها في الأساس، تلامس مواضيع غاية في الأهمية، ورسائل قوية موجهة إلى من يهمهم الأمر. هذا الشريط هو من سيناريو وحوار عبد المولى التركيبة وعبد المجيد المهدوبي، ومن بطولة عبد الله فركوس وبشرى اهريش.
كوميديا بوجمعة وميشال
تتمحور قصة الفيلم الذي تناهز مدته ساعتين، وهو من نوع الأفلام العائلية الذي يتناسب والذوق العام، حول شخصية “ميشال” المواطن الفرنسي الذي استقر في مراكش وأنشأ مشروعا سياحيا، يتمثل في دار للضيافة، لاستقبال السياح بأحد أحياء المدينة العتيقة، وشخصية بوجمعة وزوجته بشرى اهريش، رب الأسرة المغربي يهوى تربية الطيور، ومنها (الفروج)، والموسيقى الأندلسية ويتاجر فيها، حرفته (روابزي)، أي صانع تلك الآلة التقليدية التي ينفخ بها في الفحم لإشعال نار المجمر، هاذين الشخصين جارين في الحي، لكن لكل واحد عاداته وتقاليده وثقافته في العيش والحياة، حيث أصبحا عدوّان، أحدهما لا يطيق الآخر، وذلك بسبب الصراخ والضجيج الذي يحدثه رواد دار الضيافة الذين يسهرون الليل حتى آخره.
وهذا ما أزعج كل سكان الحي، وعائلة بوجمعة، بالرغم من أن زوجته، وجدت في دار الضيافة وحلول الفرنسي، مناسبة مهمة لتحسين مدخولها، وذلك بعد أن أصبحت تصنع له الحلويات. من جهة ثانية وجد ميشال في صياح الديك عند الفجر، وهو الوقت الذي يريد فيه أن يخلد للنوم، بعد أن ينهي عمله في دار الضيافة، مصدر إزعاج لا يطاق، ما حدا بالطرفين، إلى رفع تظلمهما إلى القضاء للبتّ فيه، وهو ما يخلق نوعا من التنافر، بين الطرفين، وفتح الباب لأحداث كوميدية طريفة، لكنها تحمل الكثير من الإشارات والرسائل ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. في النهاية يحكم القضاء بأن كل واحد له الحرية المطلقة في سكنه وبيته ليبقى الديك يصيح مسببا إزعاجا لميشال، ولتبقى دار الضيافة ساهرة، تسبب الإزعاج لبو جمعة حينما يأوي إلى فراشه للاستيقاظ باكرا.
قيم المحبة والتسامح

من خلال هذا المعطى استطاع المخرج والممثل عبد الله فركوس، أن يجعل من تيمة الديك، حالة كوميدية خفيفة الظل، بين الطرفين، لكشف القناع عن عدد من التناقضات والعادات، والتقاليد والطقوس التي تميز كل طرف على حدة، الأجنبي الفرنسي المشبع بعادات أوروبية معاصرة، والمغربي المشبع بعادات وطقوس تقليدية، حيث كل واحد منهما لا يستطيع التخلي عن عاداته وطقوسه لصالح الآخر. كما أن أحداث الفيلم برمتها ما هي إلا صورة مصغرة عن احتكاك ثقافتين مختلفتين متصارعتين، ما يجعل الفيلم يتحول إلى مادة للفرجة الساخرة، والمتعة الكوميدية، الهدف منها في نهاية المطاف، هو الوصول إلى تقبُّل الآخر كيفما كان، فضلا عن نبذ الأفكار المسبقة والتعصب للفكرة الواحدة، والتضحية، وإبراز قيم المحبة والتعايش، مهما اختلفت العقائد والعادات والطقوس والثقافات، وذلك من خلال الكثير من المواقف بين الطرفين، لتحقيق مزيد من التفاهم والاندماج في المجتمع دون كراهية، ودون أي تطرف أو تعصب
لون صعب في السينما
عن هذه التجربة تقول بطلة الفيلم الممثلة المقتدرة بشرى اهريش في حديث خاص للجزيرة الوثائقية، أن تجربتها في هذا الشريط الكوميدي تبقى متميزة للغاية، وذلك بالنظر إلى أهمية حضور الفيلم القوي في الساحة السينمائية المغربية، والذي اختار الاشتغال على لون صعب في السينما وهو الكوميديا، وهو غالبا ما يصطدم مع جمهور، يدرك جيدا معنى أن تنتزع منه الابتسامة في مثل هذه المواقف، مؤكدة في نفس السياق أن الفيلم نجح في هذا الرهان، حيث ما يزال معروضا بالقاعات السينمائية محققا بذلك نسبة مشاهدة عالية فاقت التوقعات.
وأضافت اهريش انها ليست المرة الأولى التي تعمل فيها مع عبد الله فركوس في السينما، بل سبقتها تجارب سينمائية أخرى، ومنها أفلام (المكروم)، و(طريق مراكش) و(مسك الليل) و(آر بلوس 4) وغيرها.. موضحة ان فيلم (الفروج) معادلة سينمائية صعبة، بالرغم من بساطتها وتلقائيتها، وطرحها لقضية اجتماعية، وإنسانية، وكونية، وهي قضية التعايش واحترام الآخر وتقبُّله في قالب كوميدي ساخر، وهو ما يميز مدينة مراكش خاصة والمغرب عامة. وأبرزت في ذات السياق أنه لولا دعم القطاع الخاص، لما نجحت هذه التجربة، وذلك في ظل غياب وشُحّ الدعم من قبل القطاع العمومي، باستثناء دعم المركز السينمائي المغربي، سواء لمشاريع الأفلام أو للمهرجانات السينمائية التي تعمل على مواضيع وتيمات وقضايا مختلفة.
السينما وقضايا المجتمع

واعتبرت اهريش أن فيلم الفروج، يطرح في العمق أيضا، قضايا غاية في الأهمية، منها قضية الناس البسطاء والمساكين والدراويش، الذين يعيشون على الكفاف والستر، محافظين على تقاليدهم وتراثهم، وأصالة أجدادهم، وجانبا مهما ومغيبا لدى الكثير من التجارب السينمائية، ألا وهو قضية المرأة، وفي الفيلم تبدو المرأة خنوعة مستسلمة، هذا فضلا عن قضية أخرى، غاية في الأهمية تم الإشارة إليها، وهي قضية التعايش بين الأجناس والشعوب، مبرزة أن مدينة مراكش، التي تعتبر بوابة الصحراء المغربية، تضم جنسيات أجنبية متعددة بعقائدها وتقاليدها وثقافاتها، تتعايش فيما بينها بسلام.
كما أكدت أن الديك (الفروج) في الفيلم ما هو إلا ذريعة، ولغة سينمائية، وأحد الرموز الفيلمية من أجل الوصول والنقر على قضايا أكثر أهمية، وهي كما قلنا قضايا اجتماعية وثقافية مغربية، إضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بسيادة ثقافة التسامح والتعايش بين مختلف سكان المدينة مغاربة وعرب وأجانب، في أمن وأمان وتآخي.
اهريش: الجوائز لا تهمني
وبخصوص مشاركة فيلم (الفروج) في الدورة الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة، الذي يحتفي بالأفلام الجديدة، دون حصوله على جوائز، أكدت اهريش، أن ذلك يعود إلى لجنة التحكيم، التي تبقى لها صلاحية تتويج من تراه مناسبا، كما أن الجوائز لا تهمها، بقدرما يهمها التواصل مع الجمهور، وأن الجوائز ليست هي المعيار الحقيقي أو الوحيد على جودة الفيلم، وتساءلت في نفس الإطار كيف أن فيلم (جوق العميان) لمخرجه محمد مفتكر، خرج بخفي حنين في الدورة الأخيرة من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، وحصل على الجائزة الكبرى بالمهرجان الوطني للفيلم الأخير؟
يشار إلى أن فيلم (الفروج) يُعدّ التجربة الثالثة للمخرج عبد الله فركوس بعد فيلمه “خمم”، وهو باللغة الأمازيغية ثم فيلم (حب الرمان)، حيث يستعد الآن لشريط كوميدي طويل آخر، اختار له عنوان “بزطام الوزير” أي محفظة الوزير الخاصة بالنقود، لنفس المنتج مع عدد من نجوم السينما المغربية، وهو الفيلم الذي يراهن عليه الكوميدي المغربي على ترسيخ ثقافة الكوميديا في السينما، بعد أن فطن إلى أن صياح الديك، حين ينام العشاق، بعد سهرة صاخبة، قادر على تحقيق بعض أحلامه المؤجلّة في المستقبل.