“كان” السينمائي: مساعدة الموهبة أن تكون
د. أمل الجمل

على مدار اثنى عشر يوما، ستكون السينما حاضرة هناك، وأخبارها ستدوِّي في جميع أنحاء العالم.. تكريمات، عروض للأفلام، طويلة وقصيرة، وثائقية وروائية، داخل المسابقة وخارجها، على الهامش أو في برنامج مواز، داخل القاعات أو على شاطئ، معارض للصور وللأفلام، سوق ضخم للتوزيع والتسويق، أفلام صُنعت خصيصاً عن العظماء المكرمين، بعضها ينبش في الذكريات والشخصيات. هناك على شاطئ الريفيرا في مدينة نيس جنوب فرنسا أنشطة سينمائية لا تُعدّ ولا تحصى، هناك ستعرض عشرات المئات من الأفلام الكلاسيكية وتلك النسخ المرممَّة للتحف السينمائية، جنبا إلى جنب مع أحدث نتاجات السينما العالمية. شيوخ المخرجين والمخضرمين الراسخين جنباً إلى جنب مع الشباب والطلاب الواعدين بضخ دماء جديدة في شرايين السينما.
هناك ستتوهج فعاليات أهم تظاهرة ثقافية في العالم. إنه “كان” أشهر مهرجانات السينما في العالم الذي يحتفل بدورته الثامنة والستين، مثلما يحتفل بالعام الستين لجائزة السعفة الذهبية والتي أصبحت في عام 1955 بديلاً عن الجائزة الكبرى ومُنحت لأول مرة للفيلم الأمريكي “مارتي” Martyإخراج دلبرت مان. Delbert Mann
“أرض الميعاد السينمائية” – كما يحلو للبعض أن يطلق عليه – بدأ أولى دوراته عام 1946، وعُرف بمهرجان كان السينمائي “Festival du film de Cannes”، لكن في عام 2002 تم تغييره إلى مهرجان “كان” Festival de Cannes. نال هذا المهرجان العريق بعض التغيير في المواعيد والجوائز كما توقّف لبعض السنوات، فقد ظل يُعقد في فترة الخريف حتى عام 1951 إلى أن تم نقل فعالياته إلى شهر مايو لتفادي التضارب بين موعد انعقاده وبين توقيت فينيسيا السينمائي.
الجائزة المميزة للمهرجان إكليل الغار أو السعفة الذهبية لم تُولد مع أولى دوراته إذ كان يَمنح خمسة جوائز آنذاك هي: الجائزة الكبرى، ولجنة التحكيم، إلى جانب جوائز الإخراج والتمثيل رجال ونساء، ففي عام 1955 استبدلت الجائزة الكبرى بجائزة السعفة الذهبية وفي عام 1959 تم تأسيس سوق الفيلم مما منح المهرجان الطابع التجاري وتسهيل التوزيع والتسويق وإنجاز التبادلات بين صناع السينما، وأصبح المهرجان اليوم أول منصة دولية لسوق وتوزيع الفيلم السينمائي.

بدأت حكاية النساء مع “كان” عام 1957 إذ كانت الممثلة المكسيكية “دولوريس ديل ريو” أول امرأة تُشارك في عضوية لجنة التحكيم في المسابقة الرسمية، وفي عام 1966 تم اختيار الممثلة الأمريكية من أصل بريطاني “أوليفيا دي هافيلاند” كأول رئيسة للمهرجان. أما أول رئيس شرفي للمهرجان فكان الشاعر والكاتب الروائي والمسرحي والرسام وصانع الأفلام الفرنسي “جان كوكتو” إذ تم تكريمه بعد وفاته بعامين واعتباره – عام 1965 – الرئيس الشرفي للمهرجان مدى الحياة.
تعطّلت دورات المهرجان ثلاث مرات؛ اثنتين منها لم تبدأ أساساً بسبب مشاكل الميزانية والتمويل وذلك في عامي 1948، و1950. أما المرة الثالثة فتوقفت بعد انطلاقها بنحو تسعة أيام للأسباب السياسية التي عمّت فرنسا عام 1968 حيث تم إلغاء المسابقة في إطار ثورة الشباب، ففي ذلك العام وبعد أن بدأت فعاليات المهرجان يوم عشرة مايو قام بعض المخرجين ومنهم الأسباني “كارلوس ساورا”، والمخرج وكاتب السيناريو التشيكي “ميلوش فورمان” بسحب أفلامهم من المسابقة، ويوم18 مايو قام المخرج وكاتب السيناريو والمنتج الفرنسي لويس مال – جنبا إلى جنب – مع مجموعة من المخرجين باحتلال الغرفة الكبيرة في قصر المهرجان وأوقفوا العروض تضامنا مع ثورة الشباب وإضرابات الطلاب والعمال في جميع أنحاء فرنسا، وكذلك احتجاجا على طرد رئيس السينماتيك الفرنسي يومذاك. نجح السينمائيون في إعادة رئيس السينماتيك إلى منصبه وأسسّوا “نقابة المخرجين الفرنسية” في نفس العام. ثم نظّموا في العام التالي – 1969 – برنامج “أسبوعي المخرجين” أو “نصف شهر المخرجين” كقسم حر موازٍ لفعاليات “كان” وخارج المنافسة، ويتميز بالاستقلال في اختيار الأفلام المعروضة فيه، والذي كان يهدف إلى التعرُّف على الاتجاهات السينمائية والمخرجين الجدد.
أما أول قسم موازي لمهرجان “كان” السينمائي فقد وُلد عام 1962 مع بدء “أسبوع النقاد الدوليين”، والذي أنشأه الاتحاد الفرنسي لنقاد السينما. وكان هدفه عرض الأعمال الأولى والثانية لمخرجين من جميع أنحاء العالم، كأحد أشكال مقاومة الاتجاهات التجارية.
خلال السبعينيات حدثت عدة تغييرات هامة في المهرجان، ففي عام 1972، تم تنظيم لجان لمشاهدة واختيار الأفلام المشاركة، فحتى ذلك الحين كانت البلدان المختلفة هي التي تختار الأفلام التي ستمثلها في مهرجان “كان” مما كان بالطبع يحرم بعض الأفلام من المشاركة لو كان مخرجيها على خلاف مع النظام الحاكم في بلده، لكن في ذلك العام عُقدت لجنتين للاختيار؛ الأولى لتحديد الأفلام الفرنسية، والثانية لاختيار الأفلام الأجنبية. وفي عام 1978، عندما تولّى الناقد الفرنسي جيل جاكوب مهام عمله في المهرجان كأمين عام ابتكر مسابقة “الكاميرا الذهبية” وهى جائزة تُمنح للفيلم الأول، وكذلك أنشأ قسم “نظرة ما”، كما تم تخفيض عدد الأيام إلى ثلاثة عشر يوماً فقط بعد أن كانت تصل أحيانا إلى سبعة عشر يوما، وبالتالي تم تقليل عدد من الأفلام المختارة.
أيضا، قبل أن يتولى جيل جاكوب عمله بالمهرجان كانت لجان التحكيم تتألف من أكاديميين سينمائيين، لكن جاكوب الذي تواصل عمله بالمهرجان على مدار 36 عاماً بدأ في إشراك المشاهير من النجوم والنجمات والمخرجين والمحترفين من صناع السينما في لجان التحكيم. كذلك في عام 1995 أنشأ “جيل جاكوب” القسم الأخير من المسابقة الرسمية: Cinéfondation أو “درس السينما” والتي تهدف إلى دعم ومساندة صناعة السينما والأفلام في العالم، إلى جانب المساهمة في إدخال كتاب سيناريو جُدد إلى دائرة الضوء، وقد نالها بعض التعديل والإضافة في عامي 2000، و2005.

وكان جيل جاكوب قد تم اختياره كرئيس شرفي للمهرجان في عام 2000 . وبشهادة كثر من السينمائيين أنه يعود الفضل إلى جاكوب في إبعاد النفوذ السياسي عن “كانّ”، فلم يعد كما كانت الحال في العهود السابقة، وتحوّل المهرجان “الكاني” في عهده إلى أهم تظاهرة ثقافية في العالم.
ورغم الدور الكبير الذي لعبه مهرجان كان في اكتشاف وتسليط الأضواء على أفلام وصناع أفلام لكن جاكوب ظلّ يُردد مقولته: “إن المهرجان لا يخلق الموهبة، بل يساعد الموهبة في أن تكون، نحن نساعد الأفلام على أن تحيا وتبقى، نحاول أن نكون سنداً للسينمائيين.”
العرب والسعفة الذهبية
طوال دورات المهرجان الماضية نجح ثلاثة مخرجين عرب فقط في اقتناص السعفة الذهبية؛ الأول هو المخرج الجزائري محمد لخضر حامينا عام 1975 عن فيلمه “وقائع سنوات الجمر” بينما نالها يوسف شاهين تكريما له عن مجمل أعماله عام 1995، وفي عام 2013 نالها المخرج التونسي “عبد اللطيف كشيش” عن فيلمه “حياة أديل” لكن الفيلم تحقق عن طريق الإنتاج الفرنسي.
كما أن فيلم “الأرض” ليوسف شاهين، كان مرشحا للسعفة الذهبية عام 1970 لكن الجائزة ذهبت للفيلم الأمريكي “ماش”، ويُعد خروج فيلم “الأرض” من دون السعفة نموذجاً واضحاً للسياسة عندما تتدخل في توجيه كفة الجوائز، لأن “ماش” رغم أنه يدور حول الحرب الفيتنامية، لكنه متوسط القيمة الفنية والفكرية مقارنة بمستوى فيلم “الأرض” الذي يعد أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية والعربية.