الوثائقي والمؤسسات التعليمية

المصطفى الصوفي

أصبح من الضروري لدى العديد من الأكاديميين والباحثين والنقاد السينمائيين، انفتاح الممارسة السينمائية على المؤسسات التعليمية والجامعية، وذلك بهدف تقريب ثقافة الصورة إلى الطلبة المتعلمين، ومختلف التربويين، وجعل السينما أداة من أدوات التواصل والتعلُّم، فضلا عن تبسيط المنظومة التربوية، وتوافقها مع البرامج التعليمية، كحل مناسب، يضاف إلى حلول أخرى، للنهوض والسمو بالممارسة التعليمية.
ولعل الفيلم الوثائقي، الذي حظي باهتمام كبير من قبل الطلبة والباحثين في أطروحاتهم العلمية والجامعية، أصبح واحدا من الخصوصيات، الثقافية والإبداعية، التي استهوت الكثير من المخرجين هواة ومحترفين، من أجل ولوج الحرم الجامعي والتربوي، وكشف القناع عن الكثير من الجوانب المغيبة في تلك المؤسسات، وطرح العديد من الإشكاليات وفق منظور سينمائي وإبداعي هادف، وتسليط الضوء على ظواهر عدة تُميِّز العديد من المؤسسات، لطرحها ومناقشتها مع المهتمين والفاعلين، ضمن استراتيجية سينمائية تربوية تخدم في العمق العملية الإبداعية والتربوية معا.

خلق ثقافة سينمائية
في هذا الإطار، شهدت مدينة خريبكة، التي تحتضن العديد من التظاهرات السينمائية الوطنية الدولية، من أبرزها مهرجان السينما الإفريقية، الذي يعد أكبر تظاهرة سينمائية على الصعيد الإفريقي، والذي يقام منذ سنة 1977، فضلا عن المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، تنظيم الدورة الخامسة من مهرجان الشريط الوثائقي التربوي من 8 إلى 10 من شهر مايو الجاري، والذي  تعقده جمعية الأنشطة السينمائية التربوية بالتعاون مع شركاء عدة من بينهم المركز السينمائي المغربي، ونيابة وزارة التربية الوطنية، والمجمع الشريف للفوسفات، وغيره.

وتروم هذه التظاهرة السينمائية الوثائقية التربوية دمج الوسائل السمعية البصرية في المنظومة التربوية باعتبارها، عملا أساسيا للارتقاء بالأداء التربوي، وذلك من أجل خلق ثقافة سينمائية، تُحقِّق للمتعلمين القدرة على الفهم الصحيح والسليم لفلسفة الصورة ودلالتها، وتحليل الخطاب السينمائي وفق نسق علمي وإبداعي وتوظيف مكوناته في البرامج التعليمية.

عشرة أفلام وثائقية
وطيلة أيام المهرجان، الذي عرف تنظيم سلسلة فقرات خصبة من ندوات، وورش، وعروض أفلام متميزة تخدم صالح المنظومة التعليمية، استحسنها المتتبعون، وذلك ضمن مسابقة رسمية أشرفت عليها لجنة متخصصة ترأسها الناقد السينمائي والأكاديمي خليل الدامون رئيس جمعية نقاد السينما في المغرب، وضمت في عضويتها كلا من السينمائي عبد الله المركي، والإعلامي والناقد السينمائي سعيد المزواري.

وقد أجمعت لجنة التحكيم بالمناسبة، على تميز أفلام المسابقة الرسمية، التي بلغت عشرة أفلام وثائقية، وذلك عبر تنوع مواضيعها وتيماتها، وقوة مستواها شكلا ومضمونا، صوتا وصورة، وبحثا حثيثا من أجل إقناع المشاهد بجدوى السينما الوثائقية في علاقتها بالنسق التربوي، وجعل الفيلم مادة خصبة للتربية والتعلم.
وقد عادت الجائزة الكبرى لهذا المهرجان لفيلم (كيو ـ كناوة) لمخرجه عبد الحكيم الجعواني من مدينة الصويرة، وذلك لبعده الشاعري والجمالي، وتسليطه الضوء على جانب مهم من المنظومة التعليمية وهو النشاط الموازي للدروس النظامية، فضلا عن تركيزه على موسيقى (كناوة) بأبعادها الإفريقية والكونية والتربوية الهادفة.

أما الجائزة الثانية فعادت للفيلم الوثائقي (كلام لحشومة) لمخرجه محمد برادة من مدينة تطوان شمالي المملكة، وذلك لقوة الموضوع، وبعده التربوي والأخلاقي الراقي، وجرأته وتسليطه الضوء على تيمة مسكوت عنها في المؤسسات التعليمية، تروم في الأساس تهذيب السلوك لدى المتعلمين. فيما آلت الجائزة الثالثة لفيلم (التوأم لغز التشابه) لمخرجه عمر ملوك من مدينة السمارة من الإقاليم الصحراوية.

السينما الوثائقية أداة معرفية
وإلى جانب الورش واللقاءات بين النقاد السينمائيين وضيوف المهرجان، والطلبة، والتربويين، تم تنظيم لقاءين فكرين مهمين، أطرّهما باحثون ومتخصصون، وذلك لمقاربة قضايا الفيلم الوثائقي في علاقته بالمنظومة التعليمية والتربوية، بهدف إذكاء روح الإبداع السينمائي الوثائقي لدى الطلبة، وجعل السينما الوثائقية أداة معرفية وتواصلية، تروم تطوير المواهب، والمدارك وملكات المعرفة والإبداع. ويتعلق الأمر بالدرس السينمائي الذي قدّمه الناقد السينمائي مجيد سيداتي الأستاذ الباحث في مادة التواصل والسينما بكلية الآداب ابن مسيك بمدينة الدار البيضاء، حول مقومات الكتابة السينمائية في الشريط الوثائقي، فضلا عن ندوة فكرية تمحورت حول موضوع السينما الوثائقية والتعليمية، والفيلم الوثائقي بين التوثيق والتخييل.

الفيلم الوثائقي يزهر داخل المؤسسات

ومن أجل تسليط مزيد من الضوء على هذه التظاهرة السينمائية، التي تزاوج بين الوثائقي والتربوي، وفق صورة إبداعية رقيقة، قال مدير المهرجان الأكاديمي والسينمائي عبد اللطيف ركاني في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية بالمناسبة، إن هذه التظاهرة المهمة للفيلم الوثائقي التربوي ليست استنباتا طفيليا، ضمن شبكة من المهرجانات الوطنية، والتي يقر أكثر من متتبع أنها وصلت إلى حد التخمة، مما خلق نقاشا حول مدى صحية هذه الظاهرة وهو نقاش مشروع، كما أن هذا المهرجان ليس ترفا فكريا وانجرارا وراء موضة اسمها المهرجانات، بل هو استجابة لحاجة ملحة، لجعل الفيلم الوثائقي يزهر داخل المؤسسات التعليمية، وجعل أجيال الغد من التلاميذ والطلبة، يستمتعون بثقافة الصورة، التي تعد أداة حقيقية للتثقيف والتعلُّم، وتهذيب الذوق الفني والجمالي، وبتيمات الفيلم الوثائقي التي يشتغل عليها المخرجون كل واحد على حدة، هذا فضلا عن مواكبتهم لما جد في مجال السينما الوثائقية التعليمية والتربوية، في أفق استثمار الخطاب السينمائي الوثائقي، كمرتكز حقيقي لتخصيب المدارك المعرفية والأنساق البيداغوجية في المؤسسات التعليمية.

الريبورتاج يطغى على السينما الوثائقية 
وأضاف ركاني أنه إذا كان من وراء ظهور السينما الوثائقية على مرّ التاريخ السينمائي العالمي، عدة عوامل منها ما هو ذاتي وما هو موضوعي، كالتطور التقني المتمثل في ظهور كاميرا محمولة، ذات ضجيج ضعيف أثناء التصوير، وقادرة على التسجيل المتزامن، لكل من الصورة و الصوت، فضلا عن كون السينما الوثائقية أو الفيلم الوثائقي يظلّ حبيس التعريف المتداول ألا وهو المعالجة الخلاقة للواقع، فإننا نعيش اليوم ظروفا تتميز بثورة معلوماتية يمكن القول معها أن كل فرد تقريبا أصبح متملكا لـ “كاميرا” (كاميرات رقمية صغيرة الحجم و متطورة، هواتف نقالة…) إضافة إلى إمكانية ولوجه إلى برامج المونتاج… هذه الوضعية كرّست هيمنة تقنيات المباشر وجعلت الريبورتاج يطغى على السينما الوثائقية  يتكلم باسمها، والأخطر من ذلك هو أن الواقع صار مختزلا في مظاهره، والفن في تسجيله الخام لهذه المظاهر، متناسين أن قيمة الفن تكمن في مدى قدرته على إظهار المخفي.
ولفت ركاني إلى أن التفكير في خلق المهرجان الوطني للفيلم الوثائقي التربوي بخريبكة أملته الحاجة إلى الانفتاح على تجارب راقية وطنية وعربية ودولية، خلق فضاء لتأطير الطاقات الشابة التي وجدت نفسها حاملة للكاميرا، وشغوفة بتوثيق كل ما تراه يستحق المشاهدة، نظرا للجو العام الذي ذكرناه، دون أن تكون لها دراية بالثقافة السينمائية و بقضايا الكتابة – القراءة السينمائية، وبالتالي فإن النظرة التي تحكمت فينا منذ البداية هو أن نجعل من هذا المهرجان فضاء للتفكير في السينما بصفة عامة، وفي الفيلم الوثائقي بصفة خاصة، وربط ذلك بالمدرسة، آملين في جعل ممارساتنا سواء تعلّق الأمر بالتعبير بواسطة الفيلم أو باستعمال الفيلم كوسيلة بيداغوجية أو ديداكتيكية ممارسات واعية.

ترسيخ قيمة الفيلم الوثائقي
وشدّد مدير المهرجان بالمناسبة على أن المتتبع لسلسة الأنشطة التي نقوم بها يدرك جليا توجهات هذا المهرجان الفريد، من خلال فيض من الندوات الفكرية، والدروس السينمائية التي تعاطينا معها مثل “إشكالية الصدق والكذب في الفيلم الوثائقي”، “الفيلم الوثائقي بين الإخراج وحجة الصورة”، “العملية التعليمية التعلمية، السينما الوثائقية: الفيلم الوثائقي بين التوثيق والتخييل”، “مقومات الكتابة السينمائية في الفيلم الوثائقي”، الأمر الذي يوضح أننا نعطي قيمة فضلى للفيلم الوثائقي، عرضا، ومناقشة، بين المهنيين والباحثين والأكاديميين، والتربويين، وذلك من أجل الرقي، بثقافة الفيلم الوثائقي، داخل المؤسسات التعليمية، التي تُعتبر فضاء راقيا ومهما، لإشاعة وترسيخ فلسفة هذا المكوِّن الإبداعي والثقافي والجمالي.

وأضاف أن ترسيخ قيمة الفيلم الوثائقي، من خلال هذه التظاهرة السينمائية التي تعد شامة الثقافة الفوسفاتية نسبة إلى عاصمة الفوسفات مدينة خريبكة، يأتي أيضا بالإضافة إلى الندوات الفكرية وحلقات النقاش، من خلال تنظيم العديد من الورش التكوينية للطلبة والتلاميذ، أو من خلال عرض عدد من الأفلام المقترحة، وهذه السنة تم عرض جملة من الأفلام الوثائقية المغربية والعربية الجميلة، وهي “الحال” للمخرج المغربي أحمد المعنوني، و”صداع”  للمخرج الفلسطيني رائد أنضوني، و”الماء الفضي” للمخرج السوري محمد أسامة و “أشلاء” للمخرج المغربي حكيم بلعباس، وهي تجارب سينمائية وثائقية، وإن كانت مختلفة، لا أنها تقدم إشراقات وإطلالات إبداعية مهمة، ونماذج فيلمية ممتعة، يستشف من خلالها المتلقي والجمهور، كم هو جميل وساحر هذا الإبداع السينمائي الوثائقي، الذي يلامس قضايا، ومواضيع ذات أبعاد اجتماعية ووجدانية وإنسانية مشوِّقة للغاية.

التخييلي أكثر عكسا للواقع
كما أشار ركاني إلى أن تنظيم الدورة الخامسة من المهرجان تحت شعار “علينا تخييل الواقع لجعله قابلا لإعمال الفكر فيه”، لم يكن عبثا، بل جاء بوعي كبير اليوم، على أن الحدود بين السينما التخييلية والسينما الوثائقية تظلّ وهمية، مدركين أن طبيعة السينما نفسها (أضواء على شاشة) تجعل منها حتى في أقصى درجات الواقعية، كذب يمكن أن يقول الحقيقة، مضيفا أن تاريخ السينما يزخر بالعديد من المفارقات، فكم من فيلم وثائقي مسخ الواقع، وكم من فيلم تخييلي كان أكثر عكسا للواقع، وأكثر مصداقية، مؤكدا على أن إدارة المهرجان الوطني للفيلم الوثائقي التربوي بخريبكة تعمل قدر المستطاع من أن تُغيِّر بوصلة التقابل، من بوصلة وثائقي في مقابل تخييلي إلى بوصلة الإبداع. و في هذا الإطار فإن الأفلام الوثائقية التربوية المنتجة إلى الآن وإن حققت تقدما ملموسا على المستوى التقني، فإن البعد الجمالي الإبداعي لا زال يشكل بالنسبة  لنا مطمحا كبيرا، ورهانا مستقبليا كبيرا من الضروري كسبه والحفاظ عليه.


إعلان