موريتي: الوضع مقلق في السينما الإيطالية

د. أمل الجمل

هذا الاختراع العظيم المسمى الإنترنت، الذي يكسر حاجز المسافات مهما بعدت، مَنْ كان يتخيل منذ سنوات قليلة مضت أن كل إنسان في أي مكان على وجه الأرض يمكنه متابعة فعاليات الأولمبياد السينمائية التي تجري وقائعها وأنشطتها وعروضها السينمائية القوية والجميلة في “الكروازيت” حتى لو كان غير قادر على السفر إلى أرض الميعاد السينمائي لحضور مهرجانها الأشهر، فمن خلال الشبكة العنكبوتية يمكن للمرء على الأقل حضور المؤتمرات الصحفية منذ لحظة دخول النجوم والنجمات إليها وحتى لحظة مغادرتها، ومعايشة كافة فعاليات مهرجان كان السينمائي وكأنه في قلب الحدث. بالطبع لن يتمكن المرء من مشاهدة الأفلام، لكنه سيتمكن على الأقل من متابعة حية للنقاش والجدل المثار عقب عروض كثير من الأفلام والتعرُّف على آراء وأفكار المخرجين الكبار مثل ناني موريتي، أو وودي آلان، أو جاك أوديارد، وغيرهم، فرغم عدم القدرة على حضور الفيلم لكن تبقى هناك متعة التواصل الآني والفوري مع ذلك التفاعل الثقافي السينمائي. تلك الأفكار جالت بخاطري وأنا أتابع على موقع مهرجان كان السينمائي المؤتمر الصحفي لفيلم “أمي” جديد المخرج الإيطالي ناني موريتي الذي قدّم العديد من التحف السينمائية الهامة منها فيلم “غرفة الإبن” عام 2001 والذي نال عنه السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي، كما شارك في لجنة التحكيم الرئيسية قبل عامين.

 من خلال الشريط الدعائي للفيلم، ومن خلال النقاش الخصب الذي دار في المؤتمر الصحفي يتضح أن الفيلم تحية للسينما، وكأنه مرآة عن عالم السينما والتصوير والإخراج، فهو فيلم داخل فيلم، إذ يسرد قصة “مارجريتا” المخرجة السينمائية أثناء تصوير فيلمها والذي يلعب فيه دور البطولة ممثل أمريكي شهير وعنيد ولا يجيد الأداء التمثيلي. ثم تجد مارجريتا نفسها وسط دوامة من التساؤلات والارتباكات التي تسبب لها التوتر المتصاعد مما يُكسب شخصيتها بعض العنف، فأمها تحتضر في المستشفى، وابنتها التي تدرس اللاتيني في أوجّ أزمة المراهقة، وهى غير راضية عن عملها في الإخراج وتشعر أنها أقل من مستوى التوقعات. وأثناء ذلك، ورغم أن موريتي أكدّ أكثر من مرة أثناء ردوده على الصحفيين والنقاد في المؤتمر الصحفي بأنه أراد لفيلمه أن يكون مختلفا عن فيلم مارجريتا – لكن موريتي اعترف أيضاً بأن شخصية مارجريتا فيها أشياء منه، وهو أثناء ذلك يُظهر كواليس صناعة الأفلام في بلاتوهات التصوير، وتفاصيل الحياة الشخصية والعائلية من خلال زيارة والدتها المريضة في المستشفى وحديثها مع أخيها وخلافاتها مع ابنتها. فاعتناء المخرجة بأمها المحتضرة، بالتوازي مع التصوير، بدا للبعض وكأن العمل إسقاط على المرحلة الراهنة من تاريخ أوروبا، وكأن موريتي ينعيها.

في الدور الرئيسي تُجسِّد شخصية الأم ممثلة المسرح “جوليا لازاريني”، وتقوم بدور المخرجة “مارجريتا بووي”، وقامت بدور الابنة المراهقة الطفلة الموهوبة “بياتريشي مانشيني”، أما الممثل الأمريكي الذي لا يعرف كيف يمثل بشكل متقن فقام بدوره “جون تورتورو”. في حين تعددت أدوار ناني موريتي، فإلى جانب الإخراج والبطولة شارك أيضاً في كتابة القصة والسيناريو. اللافت في الأمر أن  قصة الفيلم شارك في كتابتها أربع مؤلفين، في حين قام ثلاثة آخرين بكتابة السيناريو. وفي السطور التالية نلقي الضوء على أهم التساؤلات التي أثيرت وكيف رد عليها المخرج الإيطالي.  

* داخل فيلمك يتحدث الناس عن السينما، فما هو حالة السينما في المجتمع اليوم في رأيك؟

موريتي: كما تقول مارجريتا في الفيلم؛ سأقول بعض الأشياء بينما أفكر في أشياء أخرى. أردت لفيلمي أن يتكلم عن الناس وعن الحياة عموما. فنحن أثناء التفكير في عمل أفلام جديدة لابد أن يكون لدينا إحساس بأنه عمل جديد بالفعل، أننا لم نشاهده من قبل، ليس فقط مرات عديدة، بل لم نشاهده من قبل نهائي. وحتى يصنع المرء فيلماً جيداً لا توجد موضوعات معينة أو مميزة لها خصوصية تضمن أن يكون الفيلم ناجح وجيد، فأي موضوع يمكن أن يكون موضوع لفيلم جيد أو موضوع لفيلم سيء.

* في نهاية الفيلم تجعلنا نفكر في مستقبل السينما والعالم والناس ومنهم الأم والابنة؛ فكيف يرى ناني موريتي مستقبل السينما في إيطاليا وفي أوروبا اليوم؟
موريتي:
عندما أفكر للغد لا أريد أن أشير إلى مستقبل أوروبا.. لكن طبعا المشاهد يستطيع تفسير الفيلم بطرق مختلفة. فهو يحكي عن الموجودين والناس التي تعيش معنا، يتحدث عن الناس الذين ماتوا، أو تركونا ورحلوا، الفيلم به الذكريات التي تبقى، به الجدة وأصدقائها، وبه مارجريتا. أما فيما يتعلق بمستقبل السينما الإيطالية فلا أدري ماذا أقول. هناك ثلاثة أفلام إيطالية داخل المسابقة الرسمية إلى جانب أفلام أخرى في الأقسام الموازية. أعتقد أن هناك مبادرات فردية، وأنه لا يوجد تيار سينمائي قوي، هناك مخرجين ومنتجين أفراد يحاولون فقط وهذا كل شيء، الجو الخاص بالسينما الإيطالية مقلق جداً، وما هو موجود في مهرجان “كان” لا يُمثل السينما الإيطالية بدقة، ولا يمكن وصفه بأنه تيار يعبر عن السينما كظاهرة فنية وكصناعة.

*  ما هو الجزء الحقيقي منك الموجود في الشخصية الرئيسية مارجريتا؟
موريتي: لو تحدثنا عن شخصية مارجريتا، فلم أعتقد أبدا أن المخرج في الفيلم من الممكن أن يكون رجلا، شعرت منذ البداية بأن الشخصية الرئيسية لابد أن تكون امرأة، ومباشرة فكرت في مارجريتا. بالطبع هناك الكثير مني في شخصية مارجريتا، فجيوفاني كان يحب أن يكون مثل شخصية مارجريتا. 

* يوجد مشهد في الفيلم مؤثر جدا ويقول الكثير عندما يقول جيوفاني: الآن أعود إلى الواقع، أعود إلى أن أكون ممثل، بعدها مباشرة يتم القطع وتنتقل بالكاميرا لنرى الأم في المستشفى وهى تحتضر، هذا المشهد الجميل يقول أشياء كثيرة، إنه يتكلم عن الواقع المرعب، وعن الفاصل أو المسافة بين الواقع وبين التمثيل، وكأنه تغطية على الواقع المرعب..
موريتي:
لم أقصد أبداً التغطية على الواقع، أو تمييع الأشياء. أثناء كتابة السيناريو وإخراج الفيلم حاولنا المزج بين مستويات مختلفة من الواقع، فهناك الذاكرة والفانتازيا والأحلام. الوقت بالنسبة لمارجريتا فيا يتعلق بالزمن كل الأشياء لها وجود. مشاكلها مع ابنتها، في العمل، كل هذا يمزج بالذكريات بالأحلام، أحيانا لا نعرف هل ما تراه أو تفكر فيه هو الواقع أم الحلم أم الفانتازيا؟ أحببت هذا المزج واللبس، وكنت أقصد هذا. رغم أن الفيلم يتحرك في مستويات مختلفة، كما في المشهد الذي ذكرته، في السيناريو كان هناك مشاهد أخرى بين مشهد جون تورتورو وبين مشهد المستشفى، لكن أثناء المونتاج قررت القطع والانتقال لمشهد الأم في المستشفى، وأن أجعل الواقع هو المشهد التالي مباشرة.

* المخرجة تقول في الفيلم أنها لم تعد قادرة على تفسير الواقع، لكني أشعر بعكس ذلك، الفيلم كان يوضح الواقع ويفسره بوضوح، كما أن التوزيع الموسيقي للموت في الفيلم كان رائعاً لأن الفيلم يخلق هذا التوازن بين الحياة والموت. كان هناك الكثير من الألم بالفيلم، وبه أيضاً مشاهد مليئة بالحيوية. كنت فنان وأنت تُفسر الواقع. الفيلم كريم ومتميز جدا..

موريتي: المؤتمر الصحفي الذي عُقد لمارجريتا في الفيلم كان حقيقياً، لم أكن بحاجة إلى فيلم سياسي. إنها تتحدث عن الواقع الموجود للبلد، فنرى الواقع من زاوية مختلفة، من زاوية عواطف وأحاسيس الناس، فيلمي مختلف عن فيلم مارجريتا التي تصوره. هي ليدها إحساس بأنها ليست في المستوى الذي يرضيها، وفي المؤتمر شعرت أنها لم تكن في مستوى توقعات الناس، كما أن فيلم مارجريتا تعامل مع الواقع بطريقة مختلفة عن الطريقة التي أتعامل فيها مع فيلمي، فعندما نتحدث عن “أمي” نتحدث عن مخرجين مختلفين، أنا ومارجريتا.

* استخدمت الموسيقى بطريقة مختلفة عن الأفلام الأخرى، هي فقط لا تمثل الحالة، ولكنها شديدة الأهمية، بعضها يتسلل إلى الفيلم لكنها تبقى أساسية وضرورية. وماذا عن علاقتك بالشخصيات، ولماذا اخترت جون تورتورو؟
موريتي: أحيانا في المونتاج أختار أشياء معينة ثم أتخد قرارات أخرى. هنا قررت أن أستخدم الموسيقى التي تم تسجيلها فعلاً. أحياناً أغير رأيي بشأن ما تم تسجيله، وأحضر موسيقى تانية، وأحيانا لا أستطيع التفسير لماذا أخذت هذا القرار؟ فهذا أمر صعب بالنسبة لي. هنا لم أكن أريد تأليف موسيقى خاصة بالفيلم فاخترت موسيقى موجودة بالفعل. أما عن علاقتي بالشخصيات، فأحيانا يكون لدى المخرج تصور للطريقة التي سيمثل بها الممثل، لكن عندما يحتك بالشخصية يبدأ في تغيير رأيه نتيجة اختلاف هذا الممثل الذي يقف أمامه عما تخيله، أنا أحياناً أتخد قرارات لكن لا أتمكن من تفسيرها. أما عن اختيار تورتورو، فقد قام بالتمثيل في أفلام إيطالية من قبل، وقام بعمل أفلام وثائقية، وله علاقة بإيطاليا، ربما لهذا اخترته.

 * أحد المخرجين الكبار قال ذات يوم: أحيانا المخرج يختفي وراء الممثل، أي أنه يضع شخصيته في الممثل ويختبئ وراءه، فهل ناني موريتي اختبأ في شخصية مارجريتا؟
موريتي:
كمخرج للفيلم لم أفكر أبدا في هذه الزاوية، أي الاختباء. لكن الفكرة أنني كنت أريدها دائما غير راضية، دائما متوترة، فيها شيء من العنف وهى تعمل، شعرت أنه سيكون مثير للاهتمام أن أعطي الدور لامرأة وليس لرجل، فالشخصية مختلفة جداً، فهي حريصة على الناس، دائما في مكان آخر وهى تعمل في نفس المكان، ذهنها مشغول بأشياء أخرى أثناء عمل الشيء الذي في يدها، لأنها غير واثقة من نفسها، وتجد صعوبة في السيطرة على حياتها. الأم كان لديها أشياء غير مؤكدة، والابنة كذلك، ولم أرد أن يُعبِّر الفيلم عن أحاسيس شخصية.

*  ما هو رأيك وإحساسك بالنسبة لمهرجان “كان” وأنت تتعرض لجمهور مختلف غير الجمهور الإيطالي؟
موريتي: في إيطاليا توجد عوامل تأثير مختلفة، إنهم لا يفكرون في مواقفي السياسية، لأن الجمهور الإيطالي يعرف تاريخي ونشاطي وآرائي السياسية، وبالتالي طريقته وأسئلته في التعامل معي تختلف، وردود الفعل أيضاً تختلف.  

وسُئلت ممثلة المسرح جوليا لازاريني كيف تعامل معها كل من مارجريتا وموريتي فأجابت: أعتقد أن مارجريتا كانت طوال الوقت تقع تحت ضغوط، لذلك كانت عنيفة. لابد أن أعترف أنني محظوظة لأنني تواصلت مع مارجريتا وموريتي، فقد كانوا قريبين. كنت لا أعرف ماذا يحدث في العالم الخارجي، أقصد خارج إطار دوري، لكني عرفت عندما شاهدت الفيلم. صحيح أنني قرأت السيناريو بالطبع، لكن القراءة وحدها لا تكفي، لأنها لا تقول لك كيف سيكون الفيلم بعد انتهاءه.

ومارجريتا كانت شخصية رائعة في التعامل، ولديها خبرة جميلة، وكنت سعيدة بتجربتي مع موريتي، وأننا تفاهمنا وتبادلنا أحاسيس التعاطف، رغم أنني لم أكن أعرفه عن قرب من قبل. كان من الرائع أن أكون جزءا من هذا المشروع. أنا تفهمت شخصية الأم التي يريدها وحاولت بقدر الإمكان أن أكون حساسة ومهتمة وحريصة، فأصبحت الأشياء مريحة أثناء العمل، خاصة أنه لم يرغمني على شيء. فقط، ومن دون أن يشرح ما الذي يريده كان يحركني بطريقة رقيقة جداً. بعد عدة لقطات أصبحت قادرة على تغيير بعض الأشياء، فأنا جئت من عالم المسرح، ولي طريقة في الأداء تختلف عن السينما، كنت أقوم بعمل أشياء أكثر من السينما، فحاولت أن أسترخي وأن أبتعد عن التوتر كي تسير الأمور بشكل أفضل، لا أعتقد أنني تمكنت من فعل كل ما كان يريده في الدور بشكل كامل، لكني حققته إلى حد كبير.


إعلان