عرض أول للوثائقي “عالسكة يا تران”
الجزيرة الوثائقية – بيروت

استعادت المخرجة زينة حداد سكة القطار كمحطة في مرحلة مزدهرة من تاريخ لبنان الحديث، وذكرى تركت انطباعا لدى من عايش مرحلة عمل القطار قبل اندلاع الأحداث اللبنانية.
حدّاد افتقدت كما الكثيرين لصفير القطار يعبر بين المدن والقرى، ساحلا وجبلا، رغم أن القطار لعب دورا اقتصاديا وتجاريا مهما مطلع القرن الماضي وامتدادا حتى السبعينيات، ولم يؤدِّ دورا اجتماعيا، فلم يعمد لنقل الركاب على نطاق واسع، ولم يتعود المواطنون عليه كوسيلة نقل بوجود آليات برية مريحة ورخيصة نسبيا كباصات النقل الكبيرة التي تأسست لها شبكات نقل منتظمة. إلا أنه استُخدم من قبل هواة أحيانا للتنقُّل السياحي.
ومن الغايات التي حققها القطار ربطه للمناطق اللبنانية بطريقة غير مقصودة، فقد عبرت سكته ساحلا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مرورا بالمدن والبلدات التي يعبرها، ومن بيروت باتجاه البقاع عبر طريق ضهر البيدر الجبلي، حيث تفرع في شتورة، بعد ضهر البيدر إلى خطين، واحد عبر سهل البقاع وصولا إلى سوريا، والثاني وصل إلى الحدود الشرقية لبنان عند نقطة المصنع المشتركة مع سوريا، ومنها إلى أنحاء مختلفة من العالم العربي.

وتبقى أهمية بالغة للقطار في تشكيله لخط النقل السريع مع أوروبا فيما عرف بـ”خط الشرق السريع” الذي أمّن الانتقال من لبنان إلى أوروبا مرة أسبوعيا، وبسعر بسيط، وسهّل وصول مئات الطلاب للتعلُّم في الجامعات الأوروبية.
الفيلم من خمسين دقيقة، لكن العمل استغرق عشرات ساعات التصوير، كما تقول مخرجته حداد التي أطلقت عليه عنوان “عالسكة يا تران”.
حداد قالت لـ”الجزيرة الوثائقية” إن الفيلم “هو أول إنتاج خاص، وقد استغرق العمل جهدا كبيرا استمرّ ما يناهز الست سنوات، بالطبع بشكل متقطع”، مضيفة: “عملت بداية على تأمين الإمكانات التي تؤهلني للتصوير على جميع السكك في لبنان، الخط البحري والخط الجبلي، والفيلم جاء نتاجا ملخصا لعمل واسع وكبير”.
ليست حداد قادمة حديثا إلى الوثائقي، فقد أحبته بعد أن تطلب عملها في وزارة السياحة وضع كثير من الوثائقيات، فتفاعلت مع المواقع والقصص التي كانت تتابعها، وأحبّت التوثيق، ووجدت فيه ما تتمتع به. قالت: “أحب الوثائقي لأنه يتضمن رسائل، وقد تدربت على التوثيق كجزء من وظيفتي في وزارة السياحة اللبنانية، وذلك في قطاع الإنماء السياحي. كما أنني تدربت على الإرشاد السياحي، وهذا ما خلق عندي حبا للبنان ومواقعه الأثرية والتراثية المتنوعة، وأحب أن أجمع تاريخ لبنان، بمدنه وقراه. ويمكن القول أنه عندي شيء من الفضول لأعرف المزيد عن لبنان، وأُعرّف لبنان على العالم”، مضيفة أنه “من هذا المنطلق، كان الوثائقي منطلقا لي أتمكن من خلاله من تعريف الناس على لبنان، وعلى كل ما أحب فيه”.
عن موضوع الفيلم أي السكك الحديدية، تصفه بالهام جدا للبنان، فقد ساهم في نهضته بشكل كبير، ولكن الأهم اليوم هو إعادته للعمل”، متسائلة: “لماذا تهمل السلطات هذا القطاع رغم أهميته؟ سؤال أطرحه دائما على نفسي وأستغرب. وأتساءل عن أي قرار سياسي منتظر سيعيد تسيير الخط؟”

حداد أفادت أنها جمعت المعلومات من عدة مصادر ومنها جمعية “تران تران”، ومن أشخاص يملكون من عناصر السكك العديد من الأشياء، ومن العمل الميداني، مردفة:
“كنت أتجول شخصيا على السكك، وحيث ما تزال قائمة، ومعي مصور، ونقوم بالتصوير والأبحاث عليها، وكنا نتجول بالسيارة ونبحث عن أماكن لا تزال السكة فيها ظاهرة، كما مررنا بالأنفاق، واضطررنا أحيانا للاستعانة بالجيش اللبناني فقد وصلنا إلى الناقورة وهي على الحدود الجنوبية للبنان مع الأرض المحتلة. كما استعنت في رأس بعلبك بإذن من الجيش لأن محطة رأس بعلبك يستخدمها الجيش حاليا، كما وصلنا إلى النهر الكبير الفاصل بين الحدود اللبنانية والسورية لجهة الشمال، وهو اليوم في وضع أمني صعب، وشهد الكثير من التطورات الأمنية، وليس من السهل الوصول إليه في السنوات القليلة الماضية. كما وصلنا إلى يحفوف على خط رياق – دمشق”.
يذكر أن سكة الحديد اللبنانية تعرضت للكثير من الاعتداءات، فزال قسم كبير من أجزائها. الخط الحديدي انتُزع من أرضه، وسُرق في غياب السلطات والرقابة، وبيع الحديد. وأصيبت أجزاء من السكك في الاعتداءات الإسرائيلية، أما الأبنية والمنشآت المتعلقة بالقطار، فقد تآكلها الزمن بنسبة عالية، لكن لا تزال أجزاء منها ماثلة للعيان. أما الأنفاق التي خصصت للقطار فلا تزال قائمة، ولا تصلح للمرور حاليا.
أمور كثيرة متعلقة بالقطار دفعت عددا من المهتمين بالاهتمام بالسكك، منها “جمعية تران تران” التي سعت لتجميع وتوثيق كثير من الصور والمعلومات.
حداد أعلنت أن الجمعية المذكورة أعطتها صورا بالأسود والأبيض من أرشيفها، وهي جمعية تعنى بشأن “التران” وتسعى لإعادة تشغيله، وتساعد كل من يرغب بإجراء أمر ما من دراسات وأفلام وكتب يمكن أن تخدم هدف إحياء السكك، كما أن شربل متى، كما قالت حداد، هو “من الأشخاص المهتمين بالتوثيق، وحصلت منه على عدد من الصور”.
وتحدثت حداد عن أهمية القطار في ضوء ما قامت به من جمع للمعلومات. قالت: “هو صلة وصل، ونبض الشرايين في لبنان، ويربط المناطق بعضها ببعض. يُخفّف من الازدحام، ويوصل الإنسان إلى مقره بانتظام، وفي توقيت محدد متلافيا زحمة السير التي لم تعد تحتمل، والتي تستغرق من اللبنانيين الكم الكبير من أوقاتهم. كذلك، ساهم في تسهيل نقل البضائع، والمواشي، وفي التجارة، وازدهار الحركة في لبنان، ووصل لبنان بأوروبا عبر خط الشرق السريع”.
حداد أضافت: “سكك الحديد وضعت لبنان على الخارطة العالمية حيث وصلت لبنان بأنحاء مختلفة من العالم. واستخدم القطار للسياحة، ونشط الحركة السياحية في زحلة والبردوني التي شهدت أهم المناسبات التاريخية والثقافية والفنية، وانتقل الناس للترفيه على ضهر البيدر بالثلج في القطار الذي أسموه قطار الثلج، ذلك أن خط القطار لم يكن يغلق بسبب تزوده بآلة مخصصة لفتح السكة ومنع الثلج من إقفالها”.
حداد ختمت معربة عن “استعدادها لعرض الفيلم مجانا لمن يشاء من جمعيات وبلديات ومؤسسات ثقافية وسفارات يمكن أن تطلع الناس على قصة التران وتاريخه وأهميته”.
عُرض الفيلم لأول مرة في احتفال أقيم في قصر الأونيسكو في بيروت منتصف الجاري بدعوة من جمعية “تران تران” ورعاية وزارة الأشغال العامة والنقل، ومنه نسخة باللغة الفرنسية إلى جانب العربية.
يذكر أن حداد أعدّت الكثير من الوثائقيات لتلفزيون لبنان، عن الآثار والتراث والمياه اللبنانية، والسينما في لبنان، وهي تتجاوز التسعين فيلما، وهي حلقات من نصف ساعة لكل حلقة.
حداد أفادت أيضا أنها متخصصة إخراج في الجامعة اليسوعية، ثم إخراج تلفزيون في اليسوعية، ودراسات عليا في الآثار في الجامعة اللبنانية، وتحضر الدكتوراه، وتحمل شهادة الماستر بالسياحة المستدامة من إسبانيا.