مهرجانان ومأساة واحدة
أسماء الغول – غزة

“ماء الفضة” إنه فيلم يقتل القلب، ولكن يحيّه مرة أخرى بظهور الطفل عمر في نهايته، فيلم يعيد للتوثيق أصالته، فهو يوثق بدايات الثورة السورية بفيديوهات من هواتف محمولة صورها مواطنون عاديون، وأغلبها فيديوهات ضعيفة أو رديئة.
إلا أنك تكتشف في النهاية أن هذه فعلا مهمة التوثيق، عرض ما لا يعرفه كثيرون أو يعرفوه لكن لم يشاهدوه من قبل، فليس بالضرورة أن يكون الفيلم الوثائقي بصورة عالية الجودة.
ليس هناك ناظم محدد لهذه الفيديوهات المعروضة في الفيلم لكن النص المكتوب الذي جعل الفيلم يشبه رواية مصورة، وصوت المخرجين وهما أسامة محمد ووئام سيماف بدرخان يجعل هذه الفوضى نوعا ما منظمة بل أشبه بسمفونية صاخبة، كذلك الحبكة تضبط هذه الفوضى، وهي التي جاءت لاحقا وتتمثل في تبادل الحديث عبر الإنترنت بين سيماف التي تصور حصار حمص، وبين صديقها المخرج الذي سافر إلى باريس.
كنت أشاهده وأحاول تمييز الفيديوهات، من يضرب من؟ هل جيش النظام يضرب الثوار أم الثوار يضربون ضباطا من جيش النظام؟ وتكتشف أن هناك مقاطع للاثنين معاً أو كما عنون المخرج أحد الأجزاء “الصورة ضد الصورة”.
وربما هذا التنويع في اللوم داخل الفيلم جعل بعض المؤيدين للنظام السوري من الحاضرين في صالة العرض بغزة يبقون حتى نهاية الفيلم، لكن الغالبية من الحضور انسحبت بسبب قسوة مشاهد التعذيب والتي كانت سببباً لتردد المنظمين إذا ما كانوا سيعرضون الفيلم أم يسحبوه من المهرجان.
“المطلوبون الـ18”

في كل الأحوال هذه الفيديوهات المجمعة والتركيز على التوثيق لمرحلة وحالة ما، قادتني لتذكر فيلم “المطلوبون الـ18” للمخرجين؛ الفلسطيني عامر الشوملي والكندي باول كوان، إنه يعاكس فيلم “ماءالفضة” نوعا ما في التنظيم والجودة، وهو فيلم أيقونة في الجمال لمرحلة مهمة من الانتفاضة الأولى، فهو يتحدث عن ثماني عشرة بقرة اشتراها أهالي بيت ساحور وأخفوها عن الاحتلال الذي اعتبر هذه البقرات تحدياً له.
إنه فيلم يقصّ حكاية نضال عائلات مسيحية في تلك المنطقة، وكيف أصبح شرب الحليب من بقراتهم الخاصة دون شراء الحليب الإسرائيلي أو دفع الضرائب، نضالاً أرّق اسرائيل التي خشيت من طبيعة العصيان المدني أو أن ينتقل إلى المدن الفلسطينية الأخرى.
فيلم رائع ومحبوك وغير ممل على الرغم من أنه يستمر حوالي ساعة ونصف، فهو يستخدم أكثر من أسلوب إخراجي؛ دوكيودراما، وصور أرشيفية، ورسومات كاريكاتورية ثابتة، والأنيمشن “رسوم المتحركة”، ولقاءات شخصية، إضافة إلى ذات المخرج التي تظهر أول الفيلم وآخره.
لا توجد منطقة واحدة ضعيفة في الفيلم الذي حصل على عدة جوائز دولية، ولكن هذا يحيل إلى العقل تساؤل: أليس الفيلم التوثيقي يجب أن يكون طبيعياً وبريئاً أكثر من هذا التدخل في التحكم بالصورة والسرد والتشدق الفني في تكنيكه؟
هذه المقارنات توالت وأنا أحضر فيلم “ماء الفضة” الذي لا سبيل إلا التركيز على مشاهدته ليس بدافع التشويق بقدر ماهو دافع الفضول الإنساني البحت، وهو أيضا ليس أمرا سهلا ليثيره فيلم وثائقي عن الثورات.
روشميا
هي مقارنات سرعان ما أخذتني إلى فيلم “روشميا”، وهو فيلم تسجيلي طويل آخر، فيلم حي إلى أبعد حد، للمخرج سليم أبو جبل، فيلم يسجل يوميات رجل مسن وزوجته بتفاصيلهما في منزلهما الصفيح وسط وادي روشميا المهجور على أطراف مدينة حيفا.
وكانت إحدى المحاكم الإسرائيلية حكمت بأخذ بيتهما رغما عنهما ودفع تعويض لهما، ويتركك الفيلم تعيش حياة هذين المسنين وسط البرد والطبيعة دون استخدام أي من مقومات الحياة الحديثة سوى الراديو.
لا تتأقلم مع الفيلم في بدايته أو بالأحرى تجهل الهدف من تصوير رجل وامرأة كبيرين بالسن وبطيئين، ولكنك سرعان ما تقع في حبهما، وتتأثر بحياتهما فتختفي حدود الفيلم وتشعر أنك معهما، بالضبط كما تتماهى الكاميرا والمخرج مع مكونات بيت العجوزين وتبقى تسجل لساعات وساعات دون أن تتبدل عادات العجوزين للحظة.
تشعر أنك تريد أن تمد يدك لتنقذهما من جحيم الخوف من المدينة والشقة التي سينتقلان اليها بعد إجبارهما على ترك عاداتهما اليومية البسيطة مثل لف السجائر وأكل البرتقال، والشجار المتواصل.
إن أبعاد الكادر السينمائي اختارها المخرج أن تكون4/3 كأنه يريد أن يقول هذا تحديا آخر، كي نكره الفيلم الضيق المخنوق بشخصياته وكآبتها، لكن العكس تماما ما يحدث، فقد استخدم ميكانيكة العرض للتأثير في درامية الشخصيات، فكل هذا الضيق من شح الأمل وحدود الكادر وصوت الجرافات الإسرائيلية التي تعب الأرض حول بيتهما الفقير، يتسع ويتسع بوسع قلب هذين العجوزين، فتبكي معهما وتضحك معهما، ولا تنساهما، بل يبقى الفيلم معك كأنه كائن حي ثالث يضاف إليهما.
مهرجانان

هذه الأفلام الثلاثة تم عرضها إلى جانب أفلام أخرى في مهرجانين بقطاع غزة؛ الأول مهرجان كرامة غزة أو مهرجان “السجادة الحمراء” الذي استمر منذ 12 إلى 14 في مايو الجاري، والثاني بعده بيومين مهرجان “أنا لاجئ” وقد كان أقل صخبا من الأول، واستمر منذ 17 إلى 19 الشهر الجاري.
والصخب الذي صاحب الأول يعود إلى السجادة الحمراء التي افترشها مدير المهرجان المخرج خليل المزين وسط دمار حي الشجاعية، ومن ثم علق شاشة العرض البيضاء على ما تبقى من أحد البيوت الذي دمرته قذائف الدبابات الإسرائيلية وسط تجمع حاشد من أهالي الحي.
وقال المزين للجزيرة الوثائقية “عادة من يمشي على هذه السجادة الحمراء كبار المشاهير والممثلين، ولكنا أردنا اليوم أن نقول أن نجومنا هم من ضحايا الحرب، فهذا مهرجان حقوق إنسان لا يستحق أن يمشي على سجادته سوى من انتُهكت حقوقهم”.
لا نصنع فيلما للسينما بل للممول
واشترك المهرجانان في عرض أفلام تركز على المأساة والألم والقتل والتعذيب، وحجة منظمي المهرجان الأول كانت أنه مهرجان حقوق الإنسان، لذلك يركز على القضايا القادمة من مناطق الصراع، كما وضّح مديره المزين، أما الآخر فيتبين من عنوانه أنه عن حكايات اللجوء.
ويقول المخرج فايق جرادة مدير مهرجان “أنا لاجئ” في غزة والذي موّلته مؤسسة هاينريش بول: “حاولنا أن نقدم في ذكرى النكبة مهرجان لأفلام غير نمطية، وقصص أيضا غير نمطية عن اللاجئ الحديث، إنه اللاجئ عقب الأزمة في سوريا”.

والتساؤل الكبير؛ كيف لم يخطر على بال المنظمين أن أهالي قطاع غزة شبعوا من التراجيديا والمأساة، ولم يعودوا راغبين برؤية الألم مرة أخرى بعد أن عايشوا 51 يوما من الحرب لم يمر عليها العام بعد؟
ألم يخطر على بال أحدهم أن غزة حين تضع بها شاشة عرض سينمائي بهذا الحجم أول مرة منذ سنين، فهي بحاجة لأسبوع الفيلم الكوميدي، أو أسبوع أفلام الرسوم المتحركة، أو أسبوع الفيلم الأوروبي، وبطبيعة الحال لن أطالب بأسبوع الفيلم الرومانسي لأن سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة التي تقودها حركة حماس، والتي تشاهد لجنة منها بشكل مسبق جميع الأفلام، لن تسمح لهم بذلك. وربما السؤال الأعمق من جغرافيا غزة والذي يجب سؤاله بحق: منذ متى أصبح الفيلم يصنف ليناسب حالة حقوقية.. أو يُصنع ليكون فيلم حقوق إنسان..؟ هل يمكن القول بأن رواية ما جيدة لأنها تدعو إلى الديمقراطية؟ أو لأنها حقوقية؟ أين معايير الأدب والجمال والحياة العادية المليئة بكل شيء دون تصنيفات؟!
هل يجوز أن نقول هذه اللوحة التشكلية جميلة لأنها تراعي الجندر؟ ..كيف نعيب أدلجة السينما بالفكر الإسلامي إذا كنا نحن نتعمد أدلجتها بثقافة الحقوق وصناعة الحالة المناسبة لمرحلية أجندات الممول الحقوقية ..
أرفض أن يكون الفيلم نسخة عن الواقع دون رؤية للمخرج، فالفن سيكون لحظتها مجرد عار آخر يضاف إلى الوضع المزري، ولكن أرفض أيضاً أن تصبح معايير الأفلام خارجة عن الفن، أرفض أن نصنع أفلاماً تفتقد البراءة الأولى.