صورة المعاق في السينما
المصطفى الصوفي

أجمع نقاد وأكاديميون ومتتبعون للخطاب السينمائي في علاقته بقضايا المجتمع، وبخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة، على أن هذه الفئة في المجتمع تشكل معادلة مهمة وصعبة في المنظومة الإبداعية بشكل عام، وفي الحقل السينمائي بشكل خاص، معتبرين الشخص المعاق سواء كان وراء الكاميرا أو أمامها وجها لوجه، فإنه يعد أحد مبدعي هذا الفن الجميل، وأحد صانعي الفرجة الحقيقية التي لا تختلف عن باقي الفرجات التي يقدمها مبدعون آخرون لا يعانون أية إعاقة أو نقص جسماني أو عقلي.
الوثائقي يرد الاعتبار للمعاق
وأوضح هؤلاء المتهمون في درس سينمائي نظم بالعاصمة المغربية الرباط، بمناسبة انعقاد الدورة التاسعة لمهرجان أندي فيلم، المخصص للسينما والإعاقة، حول موضوع( صورة المعاق في السينما) أن العديد من المعاقين قدموا للسينما العالمية عبر تاريخها الطويل مشاهد حية استمتع بها الجمهور كثيرا، فضلا عن تتويجها بجوائز مهمة في كثير من التظاهرات والمحافل السينمائية الدولية، وأن صورة ذوي الاحتياجات الخاصة تطورت في السينما العالمية بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، وذلك من خلال العديد من الأعمال التي تجاوب وتعاطف معها الجمهور، وهو ما حقق لتلك الأعمال إيرادات مالية مهمة ومتابعات وشهرة كبيرة.
كما سجلوا بالمناسبة اهتمام السينما الوثائقية كثيرا بالشخص المعاق، وهو اللون الفني الوحيد، الذي رافق بشكل قوي حياة هؤلاء الأشخاص ونقل معاناتهم وأحلامهم، وحالاتهم الإنسانية، وذلك من خلال قصص واقعية، تحكى بنبرات حزينة تدمي القلب وتجرح الأعماق.
كما اعتبروا السينما الوثائقية، التي اشتغلت على تيمة الإعاقة، من خلال حالات حقيقية ووجوه مكشوفة، وتجارب قاسية، ردت الاعتبار لهذه الفئة ، ولعبت دورا كبيرا في الخروج بهؤلاء الأشخاص من دروب العتمة والتهميش إلى دائرة الضوء والنور، وذلك من أجل إسماع صوتهم المبحوح إلى من يهمهم الأمر، والكشف عن حالاتهم المستعصية، والتعبير بكل صدق وحرية عن معاناتهم واحتياجاتهم، كصورة حية من صور السينما الوثائقية التي تظل بالفعل تلك المعالجة الخلاقة والبلورة الحقيقية والمبدعة للواقع المعيش، لهذه الفئة التي دخلت عالم السينما فأنعشته، موضحين في نفس الإطار أن السينما الوثائقية عكس وسائل الإعلام، التي همشت هذه القضية في برامجها.
وفي هذا السياق أكد الأكاديمي الإيطالي جيامبيريو كريفو، الذي ألقى هذا الدرس السينمائي، أن الشخص المعاق في السينما لا يجب أن ينظر إليه بعين العطف والرحمة والشفقة فقط لأن لديه نقصا ما، بل يجب أن ينظر إليه كمبدع حقيقي، يقدم الشيء الأجمل والأروع بالرغم من إعاقته، وهو الأمر الذي يجب أن يصل إليه خيال الجمهور، مبرزا أن الشخص المعاق الذي امهتن الفن السينمائي قادر على إمتاع الجمهور، وقادر على تمكين المتلقي من لحظات ممتعة للغاية، وهو أمر رائع لا محالة، بالتالي على الجمهور والمتتبعين تقديم كل الدعم لهذا الشخص، الذي يعد عنصرا فاعلا في المجتمع.

وشدد الأكاديمي الإيطالي جيامبيريو كريفو، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومن بين الفاعلين الحقيقيين في بلورة وصياغة المعاهدة الأممية الخاصة بحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، على أهمية ترسيخ روح وقيم حقوق الإنسان في السينما، في بعدها الكوني والعالمي، وذلك بهدف رد الاعتبار لهذه الشريحة المهمة في المجتمع، وإعطائها الحقوق المدنية والإبداعية والفنية التي يجب ان يستفيد ويتمتع بها مثله مثل باقي أفراد المجتمع.
كما انتقد كريفو في أطروحته، والذي تحفظ كثيرا على مصطلح ذوي الاحتياجات الخاصة، لكون المعاق له احتياجات عامة وطبيعية بالنظر إلى دوره الكبير، ومساهماته وما قدمه للبشرية، كفان غوخ، وستيفن هوكينغ وغيرهم من المبدعين المعاقين، وانتقد كريفو العديد من السينمائيين، وبخاصة المخرجين الذين قدموا في كثير من أفلامهم مشاهد خاسرة تسيء إلى الشخص المعاق، وتحط من قيمته ومن كرامته، وتقدمه ككائن دوني وشرير، وعاجز ولا يستحق الرحمة والحنان والحياة، مبرزا في ذات الوقت أن مسالة توظيف الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في السينما تتأرجح بين أمرين اثنين، إبراز قدرات وذكاء وبراعة هؤلاء الأشخاص، أو الوقوف على بعض الخصال الشريرة، وهي مسألة وإن كانت مرغوبا فيها، تماشيا مع تسلسل أحداث السيناريو، ورؤية الكاتب والمخرج، فإنه يجب أن يكون للممثل البطل في الفيلم، رؤية ايجابية وليس العكس، صورة تنم عن كون الشخص المعاق فاعلا ومساهما حقيقيا في التنمية والإبداع، مثله مثل باقي عباد الله الأسوياء.
الكلاسيكية تتجاهل القيم الروحية
وسلط كروفو، الذي قدم محاضرات وعروضا بعدد من المهرجانات واللقاءات والتظاهرات السينمائية العالمية، درسه السينمائي بفضاء سينما النهضة، الضوء على كثير من الأعمال السينمائية العالمية، التي استأثرت باهتمام الجمهور، والتي وظفت عاهات الصم والبكم والشلل وغيرها من العاهات، بدءا من أفلام السينما الكلاسيكية والفيلم الأول عن الشخص المعاق لمخرجه (ديفريك بيكر)، وحتى الآن، معتبرا أن العديد من الأفلام في تلك الفترة، تجاهلت القيم الروحية التي يتميز بها الشخص المعاق، وأفرغت تلك الشخصيات من محتواها وقيمها الإنسانية والوجدانية والروحية، وركزت فقط على المظهر الخارجي، وهو امر فيه الكثير من المغالاة ومغاير للطبيعة. وقد أعطى كريفو بالمناسبة نموذجين سينمائيين في هذا الشأن، ويتعلق الأمر بفيلم( الطفل المتوحش) لمخرجه فراسنوا تريوف الذي أنتج عام 1970، وهو فيلم مقتبس عن قصة واقعية لطفل يدعى تريفو إبان القرن ال 18، يعيش إعاقة متقدمة، مثل الحيوان، في الأدغال، هذا الطفل كان محروما من أبسط شروط العيش الكريم، ولم يلق أية مساعدة، من قبل الآخرين حتى يخرج من محنته ووضع المأساوي، ويندمج في المجتمع مثل باقي الناس.
كما سلط الضوء أيضا على تجربة فيلم آخر وظف الشخص المعاق كصورة سلبية، وهو فيلم( الطفل ذو الشعر الأخضر)، والذي يقدم هو الآخر، صورة قدحية ونمطية للشخص المعاق، قد لا تساعده على ان يكون عنصرا مهما في المجتمع، وكمظهر سلبي غير قادر على الإنتاج. داعيا بالمناسبة إلى إعطاء الشخص المعاق في السينما مكانة خاصة، كشكل من أشكال الدعم القوي للشخص المعاق، حتى يجد له موطئ قدم داخل مجتمع يؤمن بالمساواة بين الجنسين مهما كانت إعاقتهم الجسدية أو الذهنية، وحتى يكونوا مساهمين وفاعلين في نماء وازدهار المجتمعات.
سحر (الجميلة والوحش) و(أفاتار)

كما أشار كريفو في درسه السينمائي إلى أن المخرجين والسينمائيين خلال السنوات الأخيرة الماضية غيروا من نظرتهم تجاه الشخص المعاق، ما أفرز أعمالا ممتعة، تشيد بجهود هذه الفئة وبمواهبهم الخلاقة والمتقدة، والقدرات التي يمتازون بها، عكس أعمال السينما الكلاسيكية، حيث وقف كثير على عدد من الأعمال الحديثة المعاصرة من أبرزها فيلم( القدم اليسرى) الذي أخرجه الايرلندي جيم شريدان عام 1989، وهو من بطولة الممثل دانيي لدي لويس، والذي يحكي قصة واقعية للفنان كريستي براون، الذي أبهر العالم برسوماته الرائعة برجله اليسرى رغم إعاقته وشلله الدماغي، حيث حصل هذا الفيلم الرائع على جائزتي الأوسكار كأحسن ممثل رئيسي، وأحسن ممثلة مُساعدة، التي حصلت عليها الممثلة بريندا فيكر.
هذا بالإضافة إلى فيلم (سقم الحياة) للمخرج دينو روسي الذي يحكي قصة رزانا بينزي، فضلا عن الفيلمين الشهيرين( الجميلة والوحش) لمخرجه كريستوف غانس، وهو إنتاج فرنسي ألماني أدت فيه دور البطولة النجمة الفرنسية (ليا سايدو) الحائزة على جوائز دولية عدة، وفيلم (أفاتار) الساحر لمخرجه جميس كاميرون. هذان الفيلمان اعتبرهما كريفو من الأعمال المتميزة والنموذجية رغم قصصهما الخيالية، إلا أنهما أبانا عن تغيير جذري في رؤية المخرجين للشخص المعاق، وقد تأتي ذلك ـ يقول كرفو ـ من خلال التطور الاجتماعي والثقافي ووعي المجتمع بقيمة الشخص المعاق الروحية قبل الجسدية، وهو ما يجعل الشخص المعاق مساهما حقيقيا في تحقيق الفرجة في مجال السينما، فضلا عن بناء الصرح الحضاري للأمم، ومعادلة أساسية في المنظومة المجتمعية والثقافية والحضارية للشعوب.
قيمة إنسانية نبيلة مفعمة بالحب
ولاحظ الأكاديمي الإيطالي أن هذه الأفلام الحديثة، قدمت النموذج الإبداعي الحقيقي لصور سينمائية رائعة وجماليات فنية مشوقة وممتعة في السينما، خلقت توافقا بين المبنى والمعنى وبين الشكل والمضمون، ونوعا من الانسجام بين السينمائي والخيالي، وبين الشخص المعاق والسوي، وذلك بهدف تصحيح حوادث وأخطاء الماضي في السينما الكلاسيكية، والمواقف والمفاهيم، وبالتالي، تقديم الشخص المعاق، كبطل قادر على التضحية، وإيجاد الحلول وعدم إيذاء الآخرين، إذ أصبحت له أيضا قيمة إنسانية نبيلة مفعمة بالحب والأمان والتضحية والشعور بالآخر، عكس ما قدمته السينما الكلاسيكية، وهو الأمر الذي غير الصورة الدونية للشخص المعاق، ما يعطي لهذا الأخير إحساسا قويا بأهميته في المجتمع، ويفتح له آفاقا واعدة في العطاء والخلق والإبداع.
كما كشف القناع بالمناسبة عن وجود نقص وتقصير في الاهتمام بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في المشهد السينمائي الأوروبي، وذلك بسبب ندرة المهرجانات الخاصة بهم، والتي تكاد تكون محسوبة على الأصابع، فضلا عن تهميش التلفزيون لهذه الفئة، ورفضه لها، وحتى إن تم قبولها، تعرض في غير أوقات الذروة، بل في أوقات تكون فيها نسبة المشاهدة قليلة، مما يستوجب على المسؤولين تغيير سياستهم الإعلامية والسينمائية تجاه الشخص المعاق، مؤكدا على تقصير كبير للسينما التي تهتم بالشخص المعاق في منطقة الشرق الأوسط مقارنة مع أوروبا وشمالي إفريقيا.
لكل شخص إعاقته
يذكر أن هذا الدرس السينمائي أطرّه الناقد السينمائي أحمد بوغابة، هذا الأخير شدد في كلمة له على قيمة السينما الوثائقية في طرح هذه الإشكالية ومتابعتها، وأهمية بعض التجارب المغربية، كتجربة المخرج المغربي عبد السلام الكلاعي، كما عرف نقاشا مستفيضا بين عدد من المتدخلين، لامسوا في تدخلاتهم القضية من وجهة نظر اجتماعية وثقافية وإبداعية وإنسانية وقانونية وحقوقية، داعين الجهات المعنية الى إبلاء مزيد من الاهتمام بالشخص المعاق في الخطاب السينمائي، وكان من أبرزهم الممثلة المغربية سليمة بنمومن التي تحدثت عن تجربتها السينمائية، وبخاصة في فيلم(نساء ونساء) لمخرجه سعد الشرايبي، والذي طرح جانبا من القضية في فيلمه، فضلا عن ضرورة تغيير الصورة السائدة لدى الرأي العام تجاه الشخص المعاق، الذي من الواجب تقبله كخاصية طبيعية، وكقوة إبداعية وثقافية وسينمائية من شانها كسب الرهان بالتحدي والعمل والمواجهة بدل الانكماش والإحساس بالنقص.
وأكدت الممثلة بنمومن في هذا الدرس خلال هذا المهرجان الذي عرف تكريم عدد من المبدعين، أن لكل شخص إعاقته الخاصة به، رغم كونه سويا، مبرزة في نفس الوقت دور السينما الوثائقية في كشف النقاب عن الكثير من الحالات الإنسانية التي تحررت من إعاقتها، وأبدعت في كثير من المجالات الفنية ومنها السينما كصورة ورؤيا وإبداع جميل، فكانت إبداعاتها صورة سينمائية تبهج العين وتريح القلب والجوارح.