رحيل “العسكري” و “بن مختار”
ضاوية خليفة

فقدت السينما الجزائرية منذ أيام قامتين كبيرتين قدّم كل منهما إبداعات فنية ترسخت في ذهن وفكر المشاهد، ويتعلق الأمر بالمخرجين “ربيع بن مختار” (1944-2015) و”عمار العسكري” (1942-2015) الذي ينتمي إلى الرعيل الأول من السينمائيين الذين برزوا في فترة ما بعد الاستقلال فاسحين المجال لمخرجين كُثر، وبرحيلهما تكون السينما والثقافة الجزائرية قد فقدت الكثير.
فقد عمل الرجلان على إثراء الإنتاج السينمائي على فترات متقطعة بأعمال نوعية تحمل قيما فنية وأبعادا إنسانية، ترجمت وبقوة النضال التاريخي للشعب وصورّت التنوع الثقافي للبلد، فرغبتهما في تطوير سابع الفنون كانت أقوى من الظروف، وقلة الإمكانيات لم تُقلِّص إرادتهما في زرع ثقافة سينمائية واضحة المعالم والرؤى ونقل ملامح المجتمع الذي يعيشان فيه بكل تحولاته على الشاشة، بل كلاهما كسب الرهان وجعل الصورة تؤرِّخ للذاكرة الجماعية والشعبية بنجاح.
عاد “عمار العسكري” ابن مدينة بونة (عنابة) إلى مسقط رأسه، تاركا خلفه رصيدا سينمائيا ثريا، وتاريخا مشرفا يشهد له بكفاءته وتميز أعماله، فلطالما ارتبط اسمه بأفلام الثورة وقضايا التحرر، إذ عبّر عن هذا التوجه والالتزام بلغة الصورة منذ زمن الأبيض والأسود، سواء في “دورية نحو الشرق” 1971، و”المفيد” 1978، أو بـ “أبواب الصمت” 1989، وصولا إلى “زهرة اللوتس” 1998، وأعمال أخرى مثل “اليوم الأول” الذي يُعدّ أول فيلم أنجزه برفقة الراحل “محمد زينات” بعد تخرجه من جامعة بلغراد حيث درس المسرح، السينما والتلفزيون تخصص إخراج، فقد كان “عمار العسكري” من المحظوظين كونه استطاع إتمام دراساته العليا بين الجزائر ويوغسلافيا، كما نالت أعماله تتويجات عدة في مهرجانات وطنية ودولية بقرطاج (تونس)، فيسباكو “وأغادوغو”، عنابة (الجزائر).

خاض “عمار العسكري” في حياته العديد من المعارك ورفع الكثير من التحديات، فهذا المجاهد والمثقف الذي يعي جيدا معنى الاستعمار وعايش سنوات الإرهاب ظلّ ثابتا على مواقفه، ولم يطمح لأي منصب رغم العلاقات الجيدة التي كانت تربطه بأصحاب القرار وكبار المسؤولين، ولطالما أبدى عدم رضاه عن المشهد الثقافي والوضع الذي آلت إليه سينما بلده التي ولدت من رحم المعاناة وعلى الرغم من إمكانياتها البسيطة والمتواضعة جدا في فترة ما بعد الاستقلال استطاعت فرض نفسها وأسهمت في إثراء الرصيد الفني وشاركت في أكبر المهرجانات الدولية، وكان صاحب “دورية نحو الشرق” يتساءل دائما عن الهدف من إنجاز أفلام لا تجد طريقا أو مكانا للعرض، فلم يكن فقيد السينما مخرج مناسبات، يطلّ على جمهوره في التظاهرات الثقافية حال كثيرين اليوم، بل كان يدعو دائما لإنشاء قاعدة ثقافية بعيدة أو طويلة المدى، وجعل السينما الجزائرية مرجعية الباحثين والدارسين والمهتمين، ومفخرة السينما العربية التي تجمع بين المتعة والتشريف وليس التتويج فقط.
وقد أشاد رفقاؤه من الفنانين والمجاهدين بهذه القامة الفنية التي خدمت التاريخ والسينما والوطن، مؤكدِّين أنه عاش مكافحا ومدافعا عن وطنه وفنه، عُرف بالمنضبط في عمله، الثابت على مواقفه، الوفيّ لإنسانيته، والفخور بانتمائه المغاربي الأفريقي، كما أن رقي فكره وخصوصية السينما التي يقدمها، جعلته يتمتع بسمعة دولية واسعة ويحظى بتكريمات عدة، آخرها كان منذ شهرين بمبادرة من جمعية “مشعل الشهيد”، وقتها لم ينسب التكريم لشخصه بل للفنانين والفنيين الذين أسّس معهم منذ 17 عاما جمعية “أضواء السينمائية” التي تضم اليوم ما يزيد عن700 مشارك، وتحتفظ بتجهيزات وعتاد تقني هام يوضع تحت تصرف المهنيين، وتمتلك أرشيفا سينمائيا قيِّما في الوقت نفسه، فهذه الجمعية التي كانت تمثل متنفسه بعد الكاميرا، كان يعوِّل كثيرا عليها لإحداث نهضة حقيقة في القطاع السينمائي والسمعي البصري، فبعد كل التحديات التي واجهها والخطوات التي قام بها العسكري لفرض هذه المؤسسة غير التجارية هل ستصمد في المرحلة المقبلة والقطاع يشهد توافد كبير للانتهازيين والدخلاء؟!

لاحظ الكثير أن “عمار العسكري” أخذ اهتماما كبيرا في الإعلام والعزاء عكس المخرج “ربيع بن مختار” الذي توفِّي قبله بيومين، مع تسجيل شح كبير للمعلومة في وسائل الإعلام الجزائرية، فقد كُتب لمخرج فيلم “تينهينان” أن يرحل في صمت كما اختار وفضّل العمل دائما، وظلّ يمارس هوايته وشغفه السينمائي بعيدا عن الأضواء، فابن مدينة بجاية الساحلية درس الإخراج بمعهد باريس للسينما ما بين 1964 إلى 1966، واشتغل مدير تصوير في العديد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، كما عمل مساعدا للمخرج “عز الدين مدور” في “جبل باية” سنة 1999، ولـ”إبراهيم تساكي” في “قصة لقاء”، وتعاون أيضا سنة 1996 مع “بلقاسم حجاج” في “ماشاهو”، وبعد هذه التجربة في السينما الأمازيغية وجّه اهتمامه كمخرج للفيلم التسجيلي والروائي، وأثبتت أعماله تعلقّه بالتراث الثقافي للجنوب الجزائري وتمسكه بالإرث الشعبي لمنطقة القبائل، سواء في فيلم “آثار على الرمال” 1975، “مراطون تمنراست” المنتج ��نة 1992، أو في “تينهينان” 2009 الذي كتبه برفقة مولود بلعربي وتناول من خلاله جوانب هامة ومختلفة لملكة الطوارق ملهمة الشعراء والفنانين والمستحوذة على فكر الأدباء والباحثين.
كما واصل في أخر أفلامه “ذات مرة بقرية” أو “من قصة لأخرى” العمل على نفس التيمة، ومن خلال اهتمامه بالتراث الثقافي الصحراوي والأمازيغي يكون “ربيع بن مختار” قد تابع وثمّن جهود “عبد الرحمن بوقرموح”، “عز الدين مدور” وآخرون ممن أرادوا تقديم مواضيع وقصص راسخة في الذاكرة الشعبية، واللغة الأمازيغية جزء من تلك التركيبة التي حافظت على خصوصيتها رغم تفتُّح المجتمع على مواضيع أخرى وتعدد اهتماماته.