“بتوقيت القاهرة”.. نوستالجيا للماضي وعشق آخر

د. أمل الجمل 

جائزتين دفعة واحدة حصدهما الفيلم المصري “بتوقيت القاهرة” في مهرجان وهران السينمائي الثامن. الجائزة الأولى في التمثيل واستحقّها عن جدارة الفنان المصري القدير نور الشريف كأفضل ممثل، والجائزة الثانية كانت من نصيب السيناريو الذي كتبه مخرج العمل أمير رمسيس. 

 ينهض “بتوقيت القاهرة” للمخرج الشاب أمير رمسيس على دراما اليوم الواحد. فالسيناريو تتفرّع منه خطوط درامية كثيرة لكنه يستعرض بشكل أساسي ثلاث قصص متوازية مركبة تمثل شرائح لأجيال مختلفة، يقوم ببطولتها ثلاثة من الممثلين الشباب في مقابل ثلاثة من جيل الكبار. هو عمل فني – رغم أي ملاحظات فنية أو نقدية قد تُؤخذ عليه – يتميز بخفة الظل، وبمسحة كوميدية، وبالسخرية التي تفجرها بعض المواقف وسلوك بعض الشخصيات، وفي نفس الوقت لا يخلو من عمق وجدية خصوصاً إذا تمت مقارنته بطوفان الأفلام التجارية المبتذلة، أو حتى تلك التي جاءت مؤخرا بتوقيع مخرجين كبار لكنها جاءت مزيفة ومدعية تكشف عن أفكار قديمة مستهلكة تجاوزها الزمن.

في “بتوقيت القاهرة” تتكشّف القصص تدريجيا، وكذلك دخائل الشخصيات المرتبكة المتناقضة التي تعاني ضغوطاً مجتمعية أو دينية، وذلك من خلال رحلات ثلاث تجمع بين الأبطال في إطار اجتماعي إنساني. تبدأ الأولى من الإسكندرية مع الفنان والممثل المخضرم نور الشريف الذي يجسد شخصية “يحيى شكري مراد”، نفس الاسم الذي حملته شخصيته في “حدوتة مصرية” للمخرج يوسف شاهين، وهى الشخصية التي طالما استخدمها شاهين في ثلاثية السيرة الذاتية الخاصة به، وهى بادرة تمثل تحية من صانع العمل لشاهين والشريف في آن واحد.  

هنا نرى يحيي رجل مسنّ يعاني من الزهايمر، لكنه – ومع ذلك – أبداً لن ينسى أنه يبحث عن سيدة لا يعلم عنها شيئاً، سيدة كل ما يتذكره عنها مجرد إحساس بأنها كانت تمثل له شيئاً مهما في حياته، وفي محاولة لتبرير خطأ درامي – قد يكون مقبول – يُؤكد بطلنا أن الإنسان عندما ينسى الناس والأشياء تبقى لديه فقط المشاعر إزاءهم، سواء بالحب أو الكره. لذلك يقرر يحيي أن يهرب إلى القاهرة بحثاً عن تلك المرأة المجهولة، ولا يصطحب معه سوى ساعة حائط قديمة ضخمة في دلالة رمزية لتمسكّه بزمنه الماضي. وأثناء ذلك نعايش قسوة ابنه المتطرف دينياً – بأداء مبالغ فيه – الذي لا يتورع عن ضربه وإهانته ولا يغفر له أنه تزوج من أمه المسيحية بينما هو مسلم، في حين تدافع عنه الابنة التي تجسد دورها القصير الممثلة “درة” بأداء جيد لكن يُؤخذ عليها اهتمامها بمظهرها وأناقتها وتسريحة شعرها بشكل يتناقض مع ابنة مصابة بحالة فزع أثناء بحثها عن الأب التائه أو المفقود.

في الإسكندرية أيضاً نتعرف على حازم الذي يعمل “ديلر”، أي موزع للمخدرات، والذي يجسد شخصية الفتى الشقي الفهلوي الساخر دوما من كل شيء وأي شيء، والذي يحكي قصة حياته في كل مرة بسرد متدفق وبشكل مختلف، فمرة يُميت بعض أفراد أسرته، وتارة يبدل أمراضها أو يستبدل دور أخته بحبيبته، مما يفجر الضحك في قاعة العرض من دون أن يهتم المتلقي بمعرفة الحقيقة إذ تأسره شخصية حازم التي أتقن أداءها “شريف حسن رمزي” بشكل لافت. 
    يتقاطع طريق المُسنّ والديلر – في دلالة رمزية للماضي والحاضر، وربما المستقبل المنتظر – عندما تتعطل سيارة يحيي فيُرغَم حازم على أن يصطحبه معه إلى القاهرة بينما كان الأخير في طريقه لتسليم بضاعة لأحد زبائنه. يُتيح ذلك اللقاء للبطلين أن يقدما سوياً واحداً من أجمل الخطوط الدرامية تناغماً في الشريط الفيلمي، أداءً وإيقاعاً، فالشريف هو أيضاً بخبرته ووعيه ومخزونه الثقافي والمعرفي يستفيد من تكأة الزهايمر ليُقدم عدداً من المواقف الكوميدية اللطيفة فيخفف من وطأة مأساته، وليُنقذ شخصيته من الوقوع في فخ الميلودراما، وهو أثناء ذلك لا يغفل لغة العيون التي يتقنها وإيماءات الوجه ونبرات الصوت المتنوعة المغموسة بالحزن أحياناً والضاحكة المفعمة بالفرح وبهجة الأطفال أحياناً أخرى.

ثنائي كوميدي آخر
    في الرحلة الثانية نتعرف على الممثلة المعتزلة المحجبة ليلى – تقوم بدورها الفنانة ميرفت أمين – والتي يبدو أن الحال تدهور بها، إذ تزور زميلها الفنان سامح الذي قدمت معه أدواراً سينمائية مشتركة في الماضي. والآن هي على وشك الزواج برجل متشدد دينيا يشترط عليها أن يتم طلاقها من سامح أولاً، لأنه يعتقد أن زواج الممثلين على الشاشة صحيح شرعاً، ولذلك فهي تحتاج للطلاق قبل أن تشرع في الزواج مرة ثانية. والفكرة استلهمها المؤلف أثناء كتابة السيناريو من واقعة حقيقية عندما تطوع أحد الشيوخ بتقديم تلك الفتوى التي انتشرت آنذاك في المجتمع المصري لتكشف مدى وخطورة تأثير الإعلام في حياة الناس.

هنا يلعب الفنان سمير صبري دور سامح الممثل السابق الذي يعيش وحيداً بعد هجرة ابنه إلى كندا، ويحاول أن يُغوي صحفية شابة جاءت لإجراء حوار معه، لكن ليلى تفاجأه بزيارتها ومطلبها الغريب. هنا، في هذا العمل، يُوظِّف سامح كل طاقته، بالعقل والمنطق وخفة ظله، وروحه المرحة للسخرية من ليلى ومن العبث الذي تطلبه، مذكراً إياها باختلاف ديانتهما، وعندما يُدرك مأزقها وتدهور وضعها يُشفق عليها، ولكي يُنهي هذا الأمر يقوم بتصوير مشهد يجمعهما سوياً يعلن فيه أنه يُطلقها. اللافت هنا، أن دور صبري يتميز بأنه دور قريب من شخصيته التي اشتهر بها كممثل برع في أداء أدوار الشاب الرومانسي المرح خفيف الظل في الماضي، مما ساعد المخرج على توظيف صوره وأغنياته القديمة ولقطات من أفلامه مع ميرفت أمين. وليقدما سوياً ثنائياً كوميديا في عدة مشاهد موسومة بالأسلوب الهزلي، مشاهد لا ينقصها الجدة والبكارة والطرافة التي تفجر الضحك طويلاً، ولا يعيبها سوى بعض التطويل والتكرار إذ كان من الممكن الاختصار من دون الإخلال بمضمون اللقاء.

أضعف الحلقات 

تُعد الحكاية الثالثة التي تقوم ببطولتها آيتن عامر وكريم قاسم أضعف أجزاء الفيلم، والسبب الرئيسي هنا هو المبالغة على مستوى الكتابة وعدم قدرة المؤلف على صياغتها بنفس القدر من المهارة في الحكايتين الآخرتين. مع ذلك لن نغفل الإشادة بمشهد تخيل القبض علي الحبيبين الشابين، فهو مكتوب ببراعة تفجر الضحك عالياً بشكل تلقائي جميل.
    في تلك الحكاية نرى الفتاة وهى تتعرض للتحرش بينما كانت في طريقها لكي تلتقي بحبيبها في شقة أحد أصدقائه. يُفهم ضمنياً أن اللقاء هدفه حميمي، وأنها بمجيئها قد وافقت مسبقاً على ذلك لأنهما على علاقة حب عُذري منذ ثلاث سنوات بسبب ظروفهما المادية التي تمنع زواجهما حاليا. لكن الفتاة التي تبدو وكأنها مُصابة بوسواس النظافة، ولديها ولع باستخدام المطهرات طوال الوقت لتتأكد من نظافة الأماكن والأشياء التي تلمسها، ستتراجع، أو ستبدو مترددة، ثم سرعان ما تبدأ في صدّ حبيبها والهجوم عليه، وانتقاد ازدواجية المجتمع الذي يُعامل المرأة بأسلوب مغاير تماماً لما يعامل به الرجل، فالأخير مسموح له بإقامة العلاقات مع النساء، والمجتمع سيغفر له هذا، وسيمنحه وسام الجدارة والتفوق الذكوري، بينما تُوسم المرأة بالعار. ورغم أن الأفكار السابقة التي تعبر عنها الشخصية الدرامية صادقة تماماً، لكنها بدت مُقحمة على العمل، أساساً بسبب بناء الشخصية في السيناريو. صحيح أنها شخصية قلقة وخائفة ومتناقضة وفي ذات الوقت تكشف عن تناقض المجتمع، لكن هذا وحده لم يكن كافياً، فبنائها وتطورها، وحتى صراعها الداخلي والخارجي لم يتم بالطريقة المُثلى التي تمنحها المصداقية التي تتمتع بها الشخصيات الأخرى. 

عاشق آخر 
    قد يبدو أن “بتوقيت القاهرة” فيلما يفتقد إلى اللغة السينمائية، سواء بصرياً أو في إيقاعه وزمنه النفسي، وأنه يعاني من بعض المبالغات التي شابت أحياناً الأداء التمثيلي وبعض مناطق الكتابة. مع ذلك يظل عملاً فنياً مثير للبهجة لأكثر من سبب؛ في مقدمتها أنه أعاد للشاشة الفضية نجوما من الزمن الجميل، نجوماً في قامة نور الشريف وميرفت أمين وسمير صبري، وأنه جمع بينهم وبين جيل من الشباب متفاوت في تجاربه السينمائية السابقة، فكانت فرصة رائعة للبعض منهم ليُثبت أنه ممثل موهوب إذا تم تسكينه في الدور المناسب المرسوم بحرفية ومهارة كما حدث مع شريف رمزي، ولأنه أيضاً في ظلّ الظروف الصعبة التي تمر بها السينما المصرية، أساساً، بسبب شركات الإنتاج التي لا يهمها سوى المكسب التجاري السريع والتي تسيطر على السوق بأفلامها المبتذلة، فإذا بنا نفاجأ بمنتج مثل سامح عجمي يتحمس لفيلم “بتوقيت القاهرة”، فيؤكد أنه عاشق آخر للسينما، وليمنحنا أملاً جديداً في الغد.


إعلان