“الزيارة”.. شهادة فنية على الصراع الفلسطيني
عندما يُذكر اسم قيس الزبيدي في وسط سينمائي، أو في نقاش نقدي سوف يُستدعى مباشرة عمله الروائي الطويل “اليازرلي” الذي جاء ضمن أهم مائة فيلم عربي في قائمة مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013. وسيطول المديح والإشادة بالفيلم وكأن “اليازرلي” هو أهم ما قدّم صاحبه، ثم بعدها تبدأ صفات أخرى مهمة في التداعي واحدة تلو الأخرى مثل كونه يجمع بين المونتاج والإخراج والتصوير، أنه عمل كاتباً للسيناريو، وكاتبا في الصحافة والنقد السينمائي والترجمة في سوريا، ولبنان، وألمانيا، وهو أمر – نقصد الجمع بين كل هذه التخصصات – ربما يحمل في ثناياه هاجس يشي بتعطيله عن الإخراج، لانشغاله بأمور أخرى، لكنه أيضاً يتضمن ميزة كبرى إذ هذا التنوع في الخبرات ساهم في ثراء تجربته الإبداعية ومنحها مزيداً من الخصوبة.
بالطبع دون أن نغفل قدرته على التنظير السينمائي بشكل لافت، وتأكيده المستمر في حواراته على ضرورة استناد المخرج إلى نظرية لتكون أعماله ناجحة فنياً، وعلى أهمية أن يكون المبدع مسلحاً بالتنظير السينمائي لخدمة أعماله وتطويرها.
الزيارة الأهم
مع ذلك، ورغم أهمية كل ما سبق، لكن عندما يُذكر اسم قيس الزبيدي أمام كاتبة هذه السطور – أو عندما تستدعيه ذاكرتها – أول ما يخطر في بالها هو فيلمه “الزيارة” روائي تجريبي قصير مدته 9 دقائق، فهو عمل استثنائي وأكثر أهمية من “اليازرلي” رغم الأهمية الفكرية والجمالية التي يتمتع بها الأخير. وصحيح أن تجربة المخرج قيس الزبيدي تجربة ثرية وخصبة – من دون شك – تستحق كتاباً بمفردها حتى لو تباينت درجات الإعجاب بأعمال مثل: إننا محكومون بالأمل – شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب – بعيداً عن الوطن – ألوان/ جبر علوان – مياه قيد الاحتلال، لكن يظل لفيلم “الزيارة” خصوصية متفردة عن بقية أعماله.
عندما شاهدته للمرة الأولى بدا وكأنه مصحوباً بهالة ساحرة تلمس جدران الروح والوجدان، فأعدت مشاهدته مرات عدة متتالية، وبين الحين والآخر يأخذني الحنين لمشاهدته مجددا لتأمله، كأنه عمل موسيقي أشتاق إليه، فأجدني أعيد اكتشافه، لذلك، ولأنه تجربة تستحق أن تُفرد لها مساحة من الإضاءة، وجدتني اليوم أتشارك أفكاري عنه مع القارئ من خلال إعادة قراءة عناصره الفنية.
في”الزيارة” قام الزبيدي بالتصوير وكتابة السيناريو والإخراج، ورغم أنه درس المونتاج أساساً، ومارسه كثيراً، لكنه لم يقم بأعمال المونتاج بنفسه لهذا الفيلم، وأتاح الفرصة لهيثم قوتلي كي يُنجزها ببراعة. ربما هي الرغبة في وجود عين أخرى ترى وتنتقد لصالح الفيلم، ومن ثم تساهم في تطوير رؤيته. وأقول ربما استناداً على جملة يروق للمخرج استخدامها أحياناً وهو يستعيرها من كتاب “فن الفيلم” يقول محتواها: “المخرج يدفن الفيلم، والمونتير يُعيده إلى الحياة.”
أعمدة الضياء
يبدأ المخرج عمله من أبيات لمحمود درويش بقصيدة “رسالة من المنفى”: هل يذكر المساء/ مهاجرا أتى إلى هنا ولم يعد إلى الوطن/ هل يذكر المساء/ مهاجراً مات بلا كفن؟” ثم تتوالي الأشعار تسرد القصة الفيلمية والواقعية إلى أن تصل إلى ذلك البيت لدرويش يقول فيه: “لا تدفني موتاك/ خليهم كأعمدة الضياء.” ثم في أعقابه يختتم مباشرة بأبيات محمود درويش في “يوميات جرح فلسطيني”: كل من ماتوا، ومن سوف يموتون على باب النهار/ عانقوني، صنعوا مني.. قذيفة.
وما بين نقطتي البدء والختام يروينا الألم بتفاصيل أخرى إنسانية لنفس الحكاية يسردها الشعر مثلما نرى بعد المشهد الافتتاحي لذلك الفلسطيني العائد إلى داره إذ يقول درويش في قصيدته “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”: إن الوطن أن أحتسي قهوة أمي/ أن أعود آمنا، مع المساء، أو كما في خياله الذي يقاوم بكلمات مثل: “سآتيك كما في كل ليلة/ أدخل الشبك/ في الحلم وأرمي لك فلة/ وعندما لا يبدأ الحصار يختار المخرج كلمات محمود درويش في “القتيل رقم 18”: لا تلمني إن تأخرت قليلاً/ إنهم قد أوقفوني/ إنها الأبيات التي تتلو القبض عليه وتوقيفه، وفي نفس الوقت جاءت تلك الأبيات مكتوبة على صورة لتلك الأم المسنة الموقوفة من جنود الاحتلال، وكأنه إيقاف يرد على إيقاف، الأم موقوفة، الابن والزوج موقوف، والزوجة هي الأخرى في طريقهم إليها لإيقافها.
هكذا، ما بين البداية والنهاية السابقتين نعايش الحصار والقتل والإيقاف الذي تم تصويره بطريقة غير تقليدية وبأسلوب يمكن اعتباره تجريبي إبداعي، فهناك دوما مشهد تمثيلي يعقبه شعر مدون على صورة واقعية للفلسطينيين، أو يعقبه لوحة وأحياناً تتوسطه اللوحة مرات لغرس دلالة رمزية، قبل أن يتلوها مشهد تمثيلي آخر يستكمل الحكاية أو يؤكدها، وأحيانا رغم تباعد المشاهد التمثيلية لكنها تؤكد نفس الحالة، فمثلاً كما في حالة قتل المرأة أو قتل الرجل، فقبل أن تسقط تماماً المرأة الشابة التي تلعب دور الأم والزوجة الشابة نراها تنهض لتقف مرات ومرات في لقطات متتابعة كأنها ترفض السقوط وتقاوم بشموخ، تتبعها لقطات مختلفة لها على خلفيات بيضاء وأخرى سوداء أثناء النهوض والالتفات إلى طفلتها المريضة قبل أن تسقط عليها متألمة ثم تموت. إنها لقطات تبدو فكرتها بسيطة لكنها جميلة فنياً ولها إيقاع ودلالة رمزية لا يمكن تجاهلها.
كذلك المشهد التمثيلي الذي يحاول فيه البطل الفرار من أعدائه، فيه يُوحي التصوير وكأنه يفر نحو قرص من الضوء. فالمخرج والمونتير قررا أن تُعاد لقطة إفلات البطل من حصار الجنود الإسرائيليين الثلاثة مرات ثلاث، فكلما يفلت منهم ويجري تُعاد اللقطة مجدداً في دلالة لتكرار الحصار وتكرار الإفلات والانطلاق وتأكيد على المقاومة وعدم الاستسلام، ففي عمق الصورة قرص من الضوء في قلب الظلام يجري البطل باتجاه، ثم ينتقل المخرج إلى بيت شعري يقول: “ثم إنه الآن طليق.”
أما مشهد المطاردة فمختلف. فيه نرى فقط أقدام البطل تجري على الأرض يظللها شبح اللون الأزرق المتداخل مع الضوء العادي، ثم ينتقل بين كل مرة وأخرى بين صفارات الجنود واحداً تلو الآخر. فالصفارة تصرخ دون هوادة، ثم ينتقل إلى لقطة علوية للكاميرا حيث نرى البطل محاصراً بين الإسرائيليين الثلاثة، وهنا تكشف الزاوية العلوية ضعف موقفه رغم شجاعته، والمخرج أثناء ذلك يقطع بين ثلاثة أحجام للكادر، في كل مرة يقوم بتضييق الزاوية في دلالة رمزية لتضييق الخناق والحصار عليه.
وفي اللقطة الثالثة يظل الرجال الثلاثة يقتربون ويقتربون حتى يهمسون في أذنيه وهنا تظل الكاميرا تدخل وتقترب منه أكثر حتى تصبح اللقطة “كلوز” أي مقربة جداً لوجهه هو فقط وهو مرفوع لأعلى كأنه يستغيث بالسماء، ويصبح الرجال الثلاثة خارج الكادر. ثم يقطع المخرج على لقطة للقمر مكتملاً في ظلام الليل الكاحل السواد. هنا لابد أن نستعيد الكلمات الشعرية السابقة على ذلك المشهد: “لابد أن يزورني النهار”، فالنهار هنا يحتمل تفسيره على أنه الموت.
صحيح أن البيت الأول لدرويش ينبئ بالخاتمة، لكنه لا ينفي الإرادة المتفجرة، جراء العنف الإسرائيلي، والمتمثلة في أبيات مثل: (لن تستطيعوا هدم إيماننا/ إنه الآن طليق كفراشة/ إنه الآن يغني/ في مكان ما، ويبني/ إنه إنسان عقيدة.) الإرادة المتفجرة كما في تلك اللقطة الرائعة التي نرى فيها إصبع العدو وهى تبدأ في الضغط على زناد البندقية فينتقل المخرج بالصورة إلى بيت الشعر: هنا سفر تكوينهم ينتهي/ هنا.. سفر تكويننا في ابتداء.
فيلم “الزيارة” بأكمله قائم على التجريب، يخلو من أي حوار منطوق، لكنه ينهض على حوار آخر، حوار إبداعي نفهم لغته ورسالته كلما انتقلت الكاميرا بين الممثلين وبعضهم البعض، أو بينهم وبين اللوحات والصور، أو بينهم وبين أبيات الشعر التي تعبر عن حالتهم التي يختار المخرج أن يركز عليها بوسائل عدة منها اللقطات “القريبة” بأساليب متباينة للاهتمام بشخصية وإهمال أخرى بنفيها خارج الكادر كما فعل مع جنود الاحتلال.
كما فعل بأسلوب مماثل عند توظيف الأبيات الشعرية إذ لجأ إلى تظليل بعض الكلمات دون غيرها كنوع آخر من التركيز ليلفت الانتباه إليها. كذلك نجد الخط الذي كُتب به الشعر به مستويات من الاهتمام، فبؤرة الاهتمام مكتوبة بالأسود، والمناطق الأخرى مكتوبة بألوان درجاتها فاتحة.
حينما كانت تتاح لي فرص إنتاج حرة كنت أسعى للتجريب
يعتبر “الزيارة” نموذجاً للفيلم التجريبي الإبداعي الذي يمكن تدريسه في المعاهد السينمائية، وللراغبين في أن يسلكوا طريق الإخراج السينمائي، عمل يمكن أن يقام من حوله ورشة عمل مهمة متخصصة، فكل عنصر فني يتضمنه يحكي قصة وتجربة لها خصوصيتها من دون شك، خصوصاً أنه عمل يزاوج بين أربـعـة أجـنـاس إبداعية هي الشعر والتشكيل والموسيقى والتصوير السينمائي في بنـيـة فـنـيـة متماسكة.
عمل عند الحديث عنه لا يمكن أن نكتفي بالقول أن اللوحة الفنية به تحاكي القصيدة الشعرية والحدث السياسي وفقط، ولكنهم جميعاً مضفورون في نسيج موسيقي بديع أقرب إلى القصيد السيمفوني الذي يرصد معاملة إسرائيل غير الشرعية بحق الفلسطينيين بأسلوب مبتكر تجريبي، والذي نرى من خلاله الممثلين أمام الكاميرا، لكنهم مع ذلك يختفون أحياناً وراء الإضاءة المستحوذة على المشهد بدلالتها الرمزية.
وهنا أستدعي ما قاله مخرجه: “حينما كانت تتاح لي فرص إنتاج حرة كنت أسعى للتجريب، و”الزيارة” عن فلسطين، مثله مثل «بعيدا عن الوطن»، لكن صيغته الشعرية تشكلت من عناصر فنية تنتمي إلى الرسم والشعر والموسيقى الشرقية والغربية والفونغراف والبانتوميم.”
تبدو الأبيات الشعرية – المقتبسة من أشعار محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد – في سياق الفيلم وكأنها تحكي القصة، واللوحات التشكيلية كذلك، إلى جانب الأداء التمثيلي، مما يجعل المتلقي، الباحث المتأمل لحالة خلق العمل الإبداعي يتساءل هل كانت الأبيات المختارة من القصائد وراء الفكرة الأولى لفيلم “الزيارة”؟ بمعنى آخر، هل ولدت الفكرة من الشعر أم من القصة أم كانت الصور الفوتوغرافية والرسومات هما – مجتمعتين أو منفصلتين – مصدراً للوحي والإلهام؟ وكيف تطورت الفكرة ومراحل نموها؟
فلماذا قرر المخرج أن يمزج بين الصور الفوتوغرافية لجورج خوري وبين اللوحات التشكيلية لنذير نبعه، خصوصاً أنه اعتمد على الممثلين؟ فهل كان للفوتوغرافيا قوة لا يمكن التخلي عنها أو استبدالها؟ تساؤلات مهما حاول الناقد الاجتهاد للإجابة عنها فمؤكد أن إجابتها الشافية والصادقة تسكن فقط عند قيس الزبيدي وحده، أو ربما أيضاً عند بعض من شاركوه التجربة.
حتى اختياره للإضاءة يطرح الأسئلة، ففي مستهل الفيلم ومنذ البداية تفترش الإضاءة الزرقاء الأرض، تنحصر الزرقة في الممر المظلم على الطريق الضيق، تتقدم الكاميرا باهتزازه خفيفة في ذلك الممر المعتم إلا من الضوء الأزرق قادماً من بعيد، تحاصره أشجار عاليات، لكن ذلك اللون الأزرق لن يتخلى عن مرافقة جميع اللقطات طوال الفيلم بدرجات متباينة، فهل خطط الزبيدي وقرر توظيف الإضاءة الزرقاء كرمز للموت منذ البداية أم أنه كان خيارا جماليا؟
بدورها تطرح الموسيقى تساؤلات إضافية، كيف تم العمل عليها؟ بمعنى آخر؛ هل تم تأليفها استناداً على قراءة الأبيات الشعرية، أم حدث ذلك بعد انتهاء التصوير؟ أم كانت هناك جلسات عمل أثناء التصوير بين الزبيدي وبين مؤلفي الموسيقى صالحي الوادي وسهيل عرفة؟ هل وافق المخرج على جميع المقطوعات كما قدمها أصحابها أم أنه طالب بتعديلات؟ وهل قدم اقتراحات باستخدام آلات موسيقية معينة كالعود والقانون والناي والفيولين والإكسليفون أم أنه ترك لهم حرية الاختيار والتأليف؟ كم من الوقت استغرق مونتاج الفيلم؟ وهل واجهته عقبات ومعضلات فنية معينة أثناء المونتاج، خصوصاً فيما يتعلق بالتجريب؟ وإن كان ذلك فكيف تغلب عليها؟ تساؤلات عديدة تأتي أهمية الإجابة عليها أنها ربما تساهم في البنية التأسيسية والتشكيلية لوجدان بعض من عشاق السينما والكتابة النقدية خصوصاً هؤلاء الذين يبدأون حياتهم المهنية.