“الجمعة السوداء”

أسماء الغول – غزة

عند الساعة الثامنة صباحاً في الأول من أغسطس في صيف 2014، كان من المفترض أن تبدأ هدنة في قطاع غزة فتضع الحرب أوزارها لساعات، لكن فجأة أعلنت إسرائيل أن جنديا من صفوفها تم خطفه في رفح، وكان معظم أهالي المدينة في الشوارع أو يستعدون لزيارات أقاربهم الذين انقطعوا عنهم لأيام طويلة قضوها مختبئين في منازلهم، ولم يكن أغلبهم سمع بأخبار خطف الجندي مع ساعات الصباح المبكرة.
وكانت الصدمة حين بدأ الهجوم العشوائي عليهم بقذائف وصواريخ إسرائيلية، تحديداً على شرق مدينة رفح، وقُتل يومها 140 شخصا من الأطفال والرجال والنساء في الشوارع أو داخل منازلهم.

إنه موت الحرب الذي يهطل بكثافة ومجانية، لا يتبعه إحساس بالندم إذا تركت ابنك ملقا ومشيت، بل عليك أن تنجو ببقية عائلتك وبنفسك، كما لا يتبعه وداع ولا طقوس الموت من حزن ودفن، فتتحول الحكاية بعد وقت إلى سرد على شاكلة “- ابني مات.. – كيف مات؟.. -كانت حرب.. “، كأن موتها أخف وقعا على النفس من موت المرض أو الغرق.. إنها الحرب التي هي أقوى من الجميع، ولا تزال تحوِّلهم إلى عاجزين عند مجرد تذكرها.
هذه الحكاية بكل تفاصيلها؛ السياسية والإنسانية، والفلسفية غير المقصودة على لسان أصحابها تجمعت في فيلم “الجمعة السوداء” للمخرج يوسف نتيل، والذي صوره حسين جابر، ومنتجه محمود أبو غلوة، وأنتجه مركز الإعلام المجتمعي بتمويل من مؤسسة هاينريش بول الألمانية.

وقد حضرت مراسلة الجزيرة الوثائقية العرض الأول في مدينة الفيلم ومدينة الوجع؛ رفح، وامتلأت القاعة بأهالي المدينة الذين تشعر كأنك رأيت طعم الحرب على شفاههم وهم يشاهدون أحداثه التي حبست أنفاسهم حتى النهاية.
فالفيلم الوثائقي القصير قدّم لنا حكاية يوم الجمعة بذكاء، حين بدأ بقصة الجندي المختطف لتعتقد للوهلة الأولى أنه سيقدم لك خفايا اختطافه ومكان النفق الذي تسلّل منه المقامون لخطفه، ولكن هذا كان مجرد مدخلاً مشوِّقاً لحكايات أخرى تداعيت بعد كسر الهدنة.
يعرض الفيلم ثلاث حكايات بتوازي؛ الأولى للأب صلاح أبو حسين الذي هرب بصحبة عائلته من منزله، وسط القذائف، فتعثرت ابنته الكبرى أسيل في الطريق ولكنهم تابعوا الهروب من الموت، وحكاية الرجل عبد القادر أبو شلوف الذي حاول الاختباء لكن كان كل مكان يقترب منه ينهال عليه القصف، إلى أن تم اعتقاله من قبل جنود الاحتلال وهددوه بالقتل، ونقلوه إلى إسرائيل وحقّقوا معه ثم أطلقوا سراحه بعد عدة أيام.

أما الحكاية الثالثة فهي لراوي قصة المدينة كلها، وشاهد على الخوف والموت، إنها الصحافية هداية شمعون التي كانت مع زوجها الحقوقي محمد عبدالله يوثِّقان جرائم الحرب المحطية بهما.
 ثلاثية من الحكايات لم تغرق بالنواح ومشاهد الموت والقتل، فجميعها لشخصيات قوية تتحدث عن لحظات الفقد بقوة ووضوح، ويتتبعها الفيلم إلى أن تنتهي بحديث الأب عن إيجاده لابنته بعد انتهاء الحرب تحت شجرة عنب، وهي عبارة عن جثة منتفخة ومتحللة.

هذا التتبع والتشويق كوّن الخط الدرامي، فقد كان الانتقال من شخصية إلى أخرى عبر سرد الأحداث التي مشت بتقنية “Fast Motion” وأخرى بفيديوهات مصورة من هاتف محمول كاستهداف مستشفى أبو يوسف النجار وإخلاء المرضى منه.

ففي 25 دقيقة انعكست 24 ساعة من عمر المدينة التي شهدت هجوم دامٍ على معالمها، ما جعل توفير صور وفيديوهات لمدينة رفح التي شحّ فيها الإعلاميين خلال الحرب أمراً رئيسياً للتوثيق، في وقت تركز فيه الإعلاميون بمدينة غزة، بعد أن أعلنت إسرائيل عن تطبيق قانون “هنيبعل” وهو قصف كل شيء يدخل ويخرج من وإلى المدينة بهدف عدم نقل الجندي المخطوف.
المخرج يوسف نتيل يقول للجزيرة الوثائقية: “كان أمرا صعبا للغاية أن نجمع المادة الأرشيفية للهجوم على مدينة رفح، وقد توجهّنا إلى منازل شباب وفتيان صوروا مشاهد نادرة خلال الهجوم بهواتفهم النقالة وضمنّاها في الفيلم”.

ويبقى الفيلم يتأرجح بين هذه الفيديوهات التي توثِّق القصف والهروب والقتلى والإسعاف، وهي سريعة وصاخبة تعيدك إلى حالة الحرب كأنك شممت رائحتها المألوفة لأصحابها فقط، في تناقض مع ثبات الشخصيات الثلاثة وهدوء الأجواء المحيطة بهم، فتكون الحركة والتي أتقن المونتاج اللعب بها، لازمة الفيلم المتكررة، ما جعل المشاهد يتوقع الرجوع إليها ويحبس أنفاسه انتظارا لها.
عبد القادر أبو شلوف جاء وشاهد نفسه في عرض الفيلم بمدينة رفح، يقول للجزيرة الوثائقية: “إنها حقيقة الحرب بقبحها، لا أحتاج إلى مشاهدة الفيلم لأتذكر، فكل يوم أتذكر”.

والد الشهيدة أسيل صلاح يقول للجزيرة الوثائقية عقب مشاهدته العرض: “بكيت.. بكيت كمشاهد وبكيت كأب”. إحدى المشاهدات التي بقيت جالسة في القاعة تنظر إلى الشاشة على الرغم من انتهاء الفيلم تقول للجزيرة الوثائقية: “شعرت أنني هناك في ذلك اليوم وتلك اللحظة.. أرجعوني إليها.. إلى الحرب”.
إن الفيلم لم يعرض قتل كل هؤلاء الناس وتكدُّس جثثهم في ثلاجات الخضار والآيس كريم في مدينة رفح كي يؤثر على المشاهد، بل نقل ذاكرة موجعة من تاريخ المدينة وحكايات أهلها بأن أعادهم إلى الحاضر بذكاء توليف الصورة.


إعلان