مهرجان وهران: الحاجة إلى الاستمرار

الجزيرة الوثائقية – وهران

تراجع مستواه، تعثّر سنوات، وتخلّف سنة واحدة، وبتاريخ الثالث يونيو أطلق مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي دورته الثامنة باحثا عن حظوظ جديدة لاسترجاع مكانته التي كان عليها في عهد محافظه الأسبق “حمراوي حبيب شوقي” الذي تمكّن في مدة قصيرة من جعله مهرجان نجوم بامتياز وحدث هام ينتظره سنويا الإعلام العربي وفنانو المنطقة، لكن ومع انطلاق ثامن دورة بدا أنه لم يتلخص بعد من عقدته ولم يجد الإدارة والطاقم المناسب الذي يضمن استمراره واستقراره.

 فمنذ سقوطه في آخر ثلاث دورات لم يستطع النهوض من جديد ويرفع من مستواه التنظيمي، في وقت ينتظر الجزائري مسؤول ومواطن أن يُعرّف المهرجان بالمدينة التي تزخر بمكنونات ثقافية وتاريخ فني كبير ومعالم سياحية هامة بشهادة أبناء البلد وضيوفه على غرار ما يقوم به مهرجان مراكش، قرطاج و أبوظبي ومدن عربية أخرى اتخذت من مهرجاناتها السينمائية والفن عموما سبيلها لخدمة قطاعات أخرى.

غير أن جمال الباهية وهران يترك انطباعا طيبا في نفوس من يزورها، وبعيدا عن الانزلاقات المتكررة التي يقع فيها المنظمون بسبب عدم استغلالهم الجيد للتظاهرة العربية الوحيدة بالمنطقة التي تحتفي بسينمانا، وجب القول أن المهرجان يحتاج في المرحلة المقبلة إلى الاستقرار في طاقمه حتى يتسنى له التحكم في الأمور التنظيمية والإعداد لرؤية مستقبلية ووضع خارطة عمل تمتد لسنوات، وهذا لن يتحقق إلا بتكاثف الجهود والاعتماد على أهل الاختصاص ليعاد تشييده من جديد.

 كما أن استمراره لثمانية أعوام كاملة يعدّ خطوة هامة وتحدٍّ كبير قامت به المحافظات السابقة، ومسؤولية تقع على عاتق الإدارة الجديدة أو القديمة المتجددة في بعض عناصرها التي باشرت عملها في ظرف ضيق وقصير بعد تعيين الشاعر “إبراهيم صديقي” على رأس اللجنة المنظمة للفعالية،  والتي لم تكن انطلاقتها موفقة بداية من حفل الافتتاح الذي جاء مخيبا للآمال، وعلى المباشر توالى استقبال الضيوف ومعه الهفوات التي باتت تتكرر في كل مرة.

وهذا يعود لافتقار الجزائر إلى الخبرة في تنظيم المهرجانات وأيضا عامل الوقت، بالمقابل وجب الوقوف عند أهم المكاسب التي حقّقها المهرجان هذا العام وهو نوعية وجودة الأفلام المشاركة في الأصناف الثلاث، والأسماء الفنية المدعوة خاصة تلك التي ضمتّها لجان التحكيم والمكونة من نقاد، مخرجين وأكاديميين وباحثين وحتى مدراء مهرجانات دولية.

وزير الثقافة يعد بمدينة سينمائية
افتتاح الدورة الثامنة تميّز بحضور عدد من المسؤولين والفنانين وكذلك وزيري الاتصال والثقافة “حميد قرين” و”عز الدين ميهوبي” الذي كشف عن نية الوزارة في إنشاء مدينة سينمائية، وهذا لن يكون طبعا إلا بعد حلّ بعض المشاكل العالقة، وفي مقدمتها قاعات السينما التي ورثناها عن المستعمر واليوم أكثرها مغلق، أغلبها غير مستغل والآخر غير خاضع للوزارة الوصية والبقية مهجور أو اتخذته العنكبوت بيتا لها.
 فسابقا ورغم قلة الإنتاج كان يمتلك الفرد الجزائري ثقافة سينمائية ومعتاد على صالات العرض، واليوم نجد مشاريع سينمائية متباينة المستوى تُخصَّص لها ميزانيات ضخمة تكتفي بعرض أول ثم تختفي ولا تأخذ حقها في التوزيع والسبب طبعا قاعات السينما، وخلال كلمته أمام ضيوف المهرجان وجمهوره، لم يكن من اللائق أن يضع وزير القطاع مهرجان وهران في مصافّ مهرجانات دولية كبرى لها شهرة واسعة وتاريخ كبير كأيام قرطاج السينمائية، مهرجان مراكش، دبي السينمائي وغيرها، فمهرجاننا لا يزال ينظم في الوقت المستقطع ويغير من طاقمه من سنة لأخرى، ويبحث عن فرصة ليفرض نفسه، وهذا لن يتأتى إلا بالعمل ووجود أناس أكفاء على دراية بكل التفاصيل وعلى قدر كبير من المسؤولية والقدرة على ضمان الاستمرارية.

بينما أصاب الوزير حينما قال أن اختيار موضوع “الواقع في دور البطولة” كان موفقا، لأن الواقع العربي اليوم يعرف ويعيش تحولات اقتصادية، سياسية واجتماعية، ومن غير الممكن ألا يترك هذا التحول بصمته وأثره في السينما العربية، ليكون بعد سنوات وبفضل التوثيق، حاضرا في الذاكرة.

أفلام الدورة: كل يحكي واقعه
12 فيلما روائيا طويلا سيتنافس وحتى12 يونيو على الوهر الذهبي، وسيكون البلد المنظم مشارك بفيلمين “راني ميت” لمحمد بن حاج و”الدليل” للمخرج المغترب عمور حكار، ويبدو أن المخرج السوري “باسل الخطيب” أتى للمهرجان بجزء ثاني عن فيلم “مريم” الذي تُوِّج مناصفة بالجائزة الكبرى منذ سنتين كونه اعتمد تقريبا على نفس الممثلين والتيمة وعنوان فيلمه الجديد “الأم”، وستكون سوريا ممثلة هذا العام أيضا بفيلم “الرابعة بتوقيت الفردوس” لمحمد عبد العزيز، وتحضر المخرجة الفلسطينية “نجوى النجار” رفقة بطليها المصري “خالد أبو النجا” والجزائرية “سعاد ماسي” لعرض “عيون الحرامية”، ويمثل المغرب في المسابقة الرسمية فيلم “جوق العميين” لمحمد مفتكر، أما السينما الأردنية حاضرة بفيلم “ذيب” لناجي أبي نوار.

كما تشارك أفلام اخرى من لبنان ومصر وتونس, والفيلم الوحيد الذي سيمثل منطقة الخليج هو “من ألف إلى ياء” للإماراتي علي مصطفى.
أما قائمة الأفلام الوثائقية فتضم 12 عملا منها وثائقي “حي يروح”  للمخرج محمد أمين بوخريص و”فاطمة” لعامر غيلوفي من تونس، وغيرها من الجزائر وسوريا والمغرب وفلسطين ومصر.
ويشرف على رئاسة وعضوية لجان التحكيم الثلاث خيرة السينمائيين العرب وحتى الأجانب باعتبار تركيا ضيف شرف الدورة، حيث يرأس الباحث اللبناني “إبراهيم عريس” لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، بينما عُيِّن المخرج الجزائري “محمد حازورلي” كرئيس لجنة الفيلم القصير، ويشرف الجزائري “نور الدين عدناني” على لجنة الأفلام الوثائقية.

تكريمات الدورة لقامات الأدب والسينما
أسماء فنية عدة رُوِّج لحضورها قبل انطلاق الدورة الثامنة من مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي ولكنها غابت عنه كالمخرج “أحمد علي بدرخان” رائد السينما المصرية الذي كان سيرأس لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، “نور شريف”، “سلوم حداد”، “سولاف فواخرجي” “سوزان نجم الدين” وغيرهم، ليكتفي ببعض الأسماء كـ”يحيى الفخراني”، “ليلى علوي”، “وفاء عامر”، الإعلامي “مفيد فوزي” من مصر، الايطالية “كلوديا كردينال”، الفنانة السورية “صباح الجزائري”، النجم “خالد أبو النجا”، إلى جانب صاحب رائعة وقائع سنين الجمر “محمد لخضر حمينة” باعتباره الرئيس الشرفي للمهرجان، الفنانة الجزائرية “سعاد ماسي” وأسماء أخرى لا يتسع المجال لذكرها كلها.
 وعكس الدورات السابقة لم يعتلِّ ضيوف المهرجان المنصة ليلة الافتتاح عدا الفنانة “ليلى علوي” التي تقدمت بكلمة أمام الجمهور شاكرة حفاوة الاستقبال والترحيب بعد أن تسلمت التكريم من وزير الإعلام، لتمتد باقي التكريمات طيلة أيام المهرجان.

واعترافا بإسهاماته الأدبية وممارسته الكتابة لأزيد من 50 عاما تم تكريم الأديب “رشيدة بوجدرة” صاحب رواية “الحلزون العنيد”، وبعد رحيلها تذكرتها الجزائر بالتكريم هي الأخرى الأديبة “آسيا جبار”، وكذلك سيدة الشاشة الراحلة “فتيحة بربار”، الفاتنة “فاتن حمامة”، عراب السينما الجزائرية “عمار العسكري” والفنان المبدع “سيد علي كويرات”، القلم المتميز والناقد السوري الراحل “قصي صالح درويش”، هي أسماء فقدتها الجزائر والوطن العربي ورثاها المهرجان على طريقته محاولا التعريف بها حتى بعد رحيلها من باب العرفان والتقدير.
 وفي غمرة الاحتفال اسم أخر يضاف لقائمة المغادرين المخرج السينمائي “بن عمر بختي” (1941-2015) الذي توفي عشية افتتاح المهرجان، وكان لرحيل ابن مدينة تلمسان الأثر البالغ في نفوس وملامح رفقاءه وجمهوره الذي عرفه في “الشيخ بوعمامة” وأحبه في “الطاكسي المخفي” فالرجل قدم الكثير للسينما والتلفزيون وكان يطمح للمزيد من المشاريع، كما انفتح المهرجان هذه السنة على فقرات جديدة ترافق الحدث لأول مرة ولها صلة وثيقة بعالم السينما والتلفزيون والإنتاج الفني كـ”الصالون العربي للسينما والتلفزيون” الذي أشرف على افتتاحه رسميا أول أمس كل من وزير الاتصال الجزائري ونظيره الفلسطيني، ويهدف هذا الفضاء الذي يضم إعلاميين، منتجين وسينمائيين من عشرين دولة إلى اكتشاف مواهب جديدة في التقديم التلفزيوني والتمثيل.

وفي سياق آخر تم استحداث جائزة النقد لتشجيع الأقلام الصحفية والنقدية المختصة على الإبداع والتميز، وتجدر الإشارة إلى أن الجائزة هذه كانت من التقاليد المرافقة للمهرجان في دوراته الأولى لكنها اختفت في باقي الدورات.

اختار الميدان فاحتواه شهيدا
يعد فيلم “العقيد لطفي” لمخرجه أحمد راشدي الذي افتتح المهرجان من الأعمال الثورية والتاريخية المخلدة لبطولات أبناء الجزائر على اختلاف مستوياتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، العمل جاء ليؤكد مرة أخرى مدى التفاف الشعب حول ثورته جاعلا من صموده أكبر التحديات المرفوعة في وجه فرنسا الاستعمارية، وقد بدا في السنوات الأخيرة مدى اهتمام راشدي بتصوير بطولات شخصيات تاريخية بارزة كان لها أثر بالغ في مسار الثورة التحريرية وولاءها الوحيد كان للوطن، كـ”بن بولعيد”، “كريم بلقاسم” و “بن علي دغين” الاسم الحقيقي للعقيد لطفي قائد الولاية التاريخية الخامسة، هذا وقد حاول كاتبا السيناريو “أحمد راشدي” و “الصادق بخوش” أن يكون العمل ملما بكل جوانب الشخصية، وبقليل من التركيز على البعد الثقافي والرصيد المعرفي للعقيد لطفي الذي كان دائم الاطلّاع على أعمال الأديب المصري “مصطفى لطفي المنفلوطي” حتى بعد التحاقه بجبهات القتال.

 كما استعرض الفيلم محطات الرجل السياسي والمناضل الثائر الذي كان يفضل الكفاح المسلح على النشاط السياسي – كونه كان دائم التفكير بما يحدث للمجاهدين في الجبال- كما فضل سابقا ترك دراسته للالتحاق بجيش التحرير الوطني سنة 1955، كما أظهر المخرج تدرج العقيد لطفي في رتب جيش التحرير وعلاقته بهواري بومدين، العربي بن مهيدي، عبد الحفيظ بوصوف وقادة الثورة الذين خاطبهم ببعض اللوم لغياب أو تغييب المرأة عن القيادة وهو ما يعكس سمو فكره وبُعد نظره وقوة شخصيته، ولم يخلُ العمل من بعض الخطابات السياسية المباشرة، كما كان للخيانة الموجدة في كل ثورات العالم مرور أيضا والتي قد تكون سبب الإطاحة بالعقيد لطفي (1934-1960) وكشف مخططه بجبل بشار (الجنوب الجزائري) الذي ضمّه شهيدا بعد معركة استمرت لساعات، معارك أحسن المخرج وطاقمه تصويرها وباحترافية عالية تمكن الممثل “يوسف سحايري” من تأديتها.


إعلان