في ذكرى الحرب: للأطفال الخلود
أسماء الغول – غزة

(طفلٌ يلعب، طفل يعزف موسيقى، طفل يزحف، طفل يتأرجح، طفل يأكل، طفل في السيارة، طفل يحلم، طفلة تسرح شعرها، طفلة تزرع شتلة، طفلة على التلفون)…وهكذا تستمر حالات الأطفال الطبيعية، فجميع أطفالنا يعيشون كل هذه المواقف في حياتهم، لكنها اليوم تحولت إلى مشاهد أمسكتها الفنانة التشكيلية مجدل نتيل، وحبستها في 400 لوحة فنية.
إنها لحظات لأطفال توقفوا فجأة أثناء الانشغال باللعب، إنها 400 حياة كان من المفترض أن يعيشها 400 طفل، لكن الحرب الأخيرة جمدّتهم إلى الأبد.
المعرض نظمه كل من مؤسستي أوكسفام، وGaze On Gaza، وتعاونت معهما مجلة “28” الأدبية، في أول ذكرى للحرب في الثامن من يوليو الحالي، في ساحة ميناء غزة، بين ممرات غرف الصيادين التي أحرقتها القذائف الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة أيضاً.
ويخرج المعرض الفني عن كونه رسمات بسيطة على قصاصات ورقية، بخطوط فنية تعود لمدرسة الـ”naivety” أو خطوط الإدراك الفطري، ليصبح “انستاليشن” تركيب إنشائي، فقد اشتغلت عليه الفنانة مجدل بذكاء، وصبر.
تخيلوا كم من الوقت يحتاج الإنسان ليتصور ويتقمص الحالة الأخيرة لأربعمائة طفل، على أن تكون حالات مختلفة، ولأطفال بأعمار وهيئات مختلفة.

وكان ذكاء العمل التركيبي أن القصاصات الورقية التي رسمت عليها الفنانة اللوحات صغيرة الحجم هي ورق مقصوص من أكياس الإسمنت التي دخلت إلى قطاع غزة لإعادة الاعمار. تقول نتيل للجزيرة الوثائقية “لقد لاحقت مجموعة من التجار في غزة، كي أحصل على أكياس الإسمنت الورقية التي وصلت غزة، وقمت بقصّها إلى مربعات صغيرة ورسمت عليها حالة 400 طفل، وكنت كل طفل أتقمصّه أشعر به وبلحظاته الأخيرة، الأمر الذي أتعبني جدا”.
وعن مغزى عملها التركيبي تقول نتيل أن الأطفال عامل بناء مهم لأي حياة، كما الإسمنت بالضبط لبناء المدن، متسائلة ” لكن أيهما أهم، أن أهتم بإعادة الإعمار والأحجار أم أن أتذكر حياة 400 طفل راحت هباء دون إمكانية إعادتها من جديد سوى بالفن والذاكرة؟!!”.
وترى الفنانة نتيل أن معرضها الذي حمل عنوان “لو لم أكن هناك..”، يعتمد بالدرجة الأساسية على استمرارية اللحظة والحالة التي رسمتها على القصاصات، فلم تتوقف الحياة هناك، بل هؤلاء الأربعمائة طفل لو لم يكونوا تحت القصف لحظتها ويُستشهدوا، لتابعوا حياتهم وأكملوا اللعب والمعيش.
إن إحياء الذكرى الأولى للحرب فنياً لم يقتصر على الفن التشكيلي والتركيبي، بل كأن المؤسسات المنظمة أصرّت على خلق حالة فنية متكاملة من الفنون البصرية، فكان عرض فيلم “كوابيس” وهو فيلم رسوم متحركة؛ عبارة عن نتاج من الرسوم التي رسمها أطفال من غزة والخليل، بعد جلسات تفريغ نفسي نتيجة معاناتهم من الكوابيس.
واستطاع الفيلم الذي تمت منتجته وإخراجه في الضفة، إعادة تحريك جميع رسوم الأطفال ببساطة ولدقائق معدودة، لكنها غاية في الأهمية لأن الطفل يقدم رؤيته للمدينة وعلاقتها بالاحتلال، فنجد أطفال يرسمون مواجهات على الأرض، وآخرين قصف من السماء، وهناك من رسم مواجهات الاحتلال من البحر، فلكل مدينة طفلها ولكل طفل بيئته المختلفة من الكوابيس.

ويجمع الفيلم كل الرسومات في حكاية لطفل ينام وسرعان ما يستيقظ فزعاً على كوابيسه، ويدخلنا إلى عالمه حين يمشي في طريق طويل وعلى جانبيه جميع أنواع المواجهات مع الاحتلال، وتتوالف عناصر الفيلم بحركات بسيطة ومتواترة، وتظهر مشاهد هذه المواجهات من لوحات عشرات الأطفال من الخليل وغزة.
الفيلم الذي أخرجته المخرجة مي عودة وضياء عزه، مؤثر، وسهل ممتنع، فهو يحول كوابيس الأطفال إلى رسوم متحركة، وكأنها أصبحت حية وواقعية ليتخلص منها الطفل للأبد.
وكان القائم على جلسات التفريغ عبر الرسم؛ المجلس النرويجي للاجئينNRC ، كما حرص على تحويل الرسومات لفيلم حي.
يقول “مازن نعيم” من المجلس النرويجي، للجزيرة الوثائقية: ” أتى الفيلم كخاتمة جميلة لمشروع استمر حوالي خمسة أعوام بعنوان نحو تعلُّم أفضل، ولذلك حمل الفيلم اسم (رسم لحلم أفضل)”.
وبيّن أنهم فضلوا عرضه مع المؤسسات الشريكة ضن فعالية ذكرى الحرب الأولى، مضيفاً “كان معرضهم عن الأطفال الشهداء وفيلمنا عن الأطفال الأحياء، فقد أردنا أن نتذكر جميع الأطفال في مثل هذه الذكرى”.
وإذا كانت كوابيس أطفال الضفة ليست ذاتها كوابيس غزة، فكيف ستكون حالات لعبهم؟ بالتأكيد متعددة ومتنوعة، وهنا عودة إلى معرض لوحات الفنانة مجدل نتيل، حيث لا تزال مشاهد الأطفال مفتوحة على اللانهاية.. كما أصبحت أرواحهم الآن بعد صعودها إلى السماء.
فذاك الطفل (خلع سنه الأولى، والآخر يلعب بماكينة الخياطة، وآخر يصطاد السمك، وذاك يلاحق غيمة.. وهكذا..)