“كارلوفي فاري”: اختتام الدورة الخمسين
قيس قاسم – كارلوفي فاري (التشيك)

اختُتمت الدورة الخمسون لمهرجان “كارلوفي فاري” اليوبيلية دون مفاجآت على مستوى الجوائز، فأغلبية الأفلام الفائزة فيها استحقّتها وفي كل الأحوال تبقى مسألة عدالة توزيعها نسبية لأن من يُقرِّر ذلك، وفي كل المهرجانات في العالم، مجموعة صغيرة من المحكمين.
نقاشاتهم فيما بينهم ودفاع كل واحد منهم عن رأيه في الفيلم المعروض ضمن اللجنة التي تتكون منهم، تحدّد في النهاية الأفلام الفائزة ومن هنا جاءت نسبيتها، ومع هذا فالحديث عن الجوائز والتوقعات التي تسبق إعلاناها تستهوي كثر من النقاد والصحافيين لما فيها من حيوية، لكن يبقى الشيء الأهم هو حصيلة ما تخرج به كل دورة، وفي كارلوفي فاري كان هناك بُعداً عربياً لم يكن من قبل بهذه السعة، ما يؤشِّر إلى اهتمام جدِّي به، وعلى السينما العربية أن تستثمره لصالحها عبر إدامة التواصل مع إدراته.
أما على مستوى حضورها واهتمام الجمهور بها، فيمكن الإشارة إلى البرنامج اللبناني الذي استقبله الجمهور بفضول، ورغبة في معرفة سينما منطقة تطغى فيها السياسة على ما سواها من القضايا، وبالتالي محاولة معرفة بعض جوانب الحياة فيها خارج السياق الإعلامي السائد كما في وثائقي نورا كيفوركيان “23 كليو متر” الذي أرادته شخصياً وشديد الحميمية مع تجربة والدها الذي منعه المرض من الكلام فلجأ إلى الكتابة لتوصيل ما يريد إلى متحدِّثه.
فكرة الفيلم عن العجز وضعف الإنسان في لحظة من العمر تُنسي كل ما سبقها من عنفوان، ومن هنا ينبع الألم والحزن على الناس الذين نحبهم وكانوا يوماً ما مثالاً للقوة والعزيمة، اللتان تلامسهما المخرجة اللبنانية عبر مرور سريع وبدون كلام على مراحل من حياة والدها كان خلالها وثّاباً وحيوياً يعمل في أكثر من مهنة بعضها يتطلب مهارات تقنية وصلابة جسدية انعدمت اليوم وأضحى جسده ضعيفاً لا يقدر على انجاز أبسط الأفعال.
لرسم بورتريه والدها سينمائياً تَقْبل كيفوركيان تضمينه معلومات علمية “جافة” عن مرضه، وتعمل على ترويض تقنيات حديثة من أجل استعادة ماضي لم يُسجّل بصرياً بما يكفي ليوفر مادة خام لها، تعينها على مواصلة الرسم وتحديد تفاصيل الصورة التي أمامها، ما جعل من عملها تنويعاً على أساليب قصّ سينمائي شديد الخصوصية، والحقيقة أن هذا الميل لاستثمار كل التقنيات الحديثة والذهاب إلى مناقشة عوالم شخصانية وفردية ظاهرة في كثير من الأفلام الوثائقية التي عرضتها الدورة الـ50 ومن بينها التشكي “كوزا” Koza الذي جمع الروائي بالوثائقي، فجاء ديناميكياً ومؤثراً ومقنعاً في عرض جانب من حياة الغجر من خلال ملاكم يدعى “كوزا”، ترجمتها “العوز”، ودلالاتها اللغوية كثيرة أقربها لحالة الشاب الغجري “العوز والفقر”، لقد سمته والدته “كوزا” لأنه جاء إلى الدنيا وهي في أشد حالات الفقر.

حرص المخرج إيفان أوستروخوفسكي على معاينة فترة من حياة الملاكم سبقت وصوله إلى نهائيات بطولات أولمبية عالمية والفوز ببعضها. ينطلق من بدايات حياة يستحيل لمن عاشها أن يحظى بفرصة نجاح واحدة.
كل الوثائقي يشير إلى خذلان وبؤس حياة الغجري السلوفاكي الذي تزوج مبكراً ويعمل الآن على توفير المال من أجل دفع تكاليف عملية إجهاض زوجته، فهو لا يريد أن يأتي مولوده إلى الدنيا ويعيش مثله، كائناً يراهن على قوة بؤسه التي تُجسِّدها مشاركاته في نزالات محلية، يخوضها لا من أجل الفوز فيها بل من أجل تحمُّل أكبر عدد من الهزائم ليُلبِّي طموح مديره الغجري، بائع خردوات الحديد، به كملاكم قادر على الصمود لجولة واحدة أو اثنتين في أحسن الأحوال.
كان يصعد الحلبة من أجل أن يتلقّى سيل ضربات تكفي لإسقاطه أرضاً والخروج من الحلبة خاسراً، لكنه ومع هذا يظلّ مسجلاً رسمياً كملاكم هاوٍ قادر على المشاركة في نزالات جديدة.
تفاصيل حياته ونتائج نزالاته تكشف عن جسد ضعيف لا يتوفر على اللياقة لقلة وسوء ما يأكله من غذاء.
سقطاته وهزائمه تدعو إلى التعاطف معه ككائن، شبه صامت، قَبِّل بمصيره إلى درجة أنه لم يكن يناقش تفاصيل حياته ولا يسأل لماذا هو في هذه العزلة القاسية، ولماذا لا يُقدِّم أحد له يد العون ولا حتى لماذا لا يُقبَل عضواً في نوادي الملاكمة الرسمية.
المناخ الذي يرسمه “كوزا” سوداوي على طول الشريط، لا يكسر حدّته سوى نجاحه اللاحق حين يحصل على ميدالية ذهبية في إحدى البطولات العالمية، والتي صارت معروفة للمشاهد وبالتالي لا يحتاج صانع الوثائقي إلى إعادة صياغتها وسردها سينمائياً من جديد، فظهر الشريط لهذا السبب وكأن متنه الحكائي قد بُني فقط على الجزء غير المعروف من حياته، أما ما سوف يحققه لاحقاً فيأتي كتأكيد على أن ملاكماً فقيراً عاش في سلوفاكيا ظروفاً شخصية يستحيل معها الوصول إلى نهاية واعدة، ومع هذا حقّق نجاحاً متميزاً.
مقاربات العلاقة بين المدن والفن ظهرت في أكثر من وثائقي، لعلّ أكثرها مدعاة للانتباه فيلم تونسيلاف هريستوف “ذات مرة في حلم.. رحلة في آخر أفلام الغرب السباغتي”. يعود فيه إلى مدينة تابرناس الإسبانية التي كانت ذات يوم ساحة لنجوم سينما “الكابوي”. جاؤوا إليها وكسبوا محبة سكانها الذين شاركوهم صناعة الأحلام ـ السينما.
مدخل الشريط إلى تجربة المدينة في تصوير أفلام الغرب الأمريكي أوروبياً فيها والتي أطلقوا عليها اسم السباغتي، تقرُّباً للسينما الإيطالية، لا يمرّ عبر التسجيلات القديمة ومقاطع من الأفلام المصوَّرة فيها، بل عبر مسح لحالها اليوم وهي تعاني من كساد اقتصادي وبطالة.
المقابلات التي يجريها مع مواطنيها من الذين سبق لهم وأن شاركوا في أفلام صُوِّرت في مدينتهم تكشف عن تبدُّد حلم جميل تصور بعضهم فيه أنه سيصبح نجماً سينمائياً، فغدا بعد سنوات وبعد توقف موجة إنتاج هذا النوع من الأفلام محبَطاً يعيش على ذكريات جميلة تجلي مقدار تقارب الحلم بالسينما.

ثمة إحساس يولده الوثائقي بأن قوة حضور السينما في دواخل البشر تجاوزت الشعور بمتعة الفرجة إلى المعايشة والتماهي مع أبطالها، لهذا يستمتع مشاهد الشريط بالحوارات التي تجري بين من شارك فيها، وعلاقتهم بأبطالها الذين رحلوا عنهم وتركوهم يجترّون الذكريات مع الكثير من الإضافات الرومانسية.
فيلم ممتع يشير إلى حيوية الوثائقي وقدرته على الدخول إلى المدن من بوابة السينما، ومنها يلج إلى مشكلاتها المعاصرة البعيدة عن السينما ونجومها، وبهذا المعنى يتقارب الفيلم السويسري “آفاق” Horizons مع الفكرة ذاتها ولكن هذه المرة عبر العلاقة بين فن الباليه والمدن الكوبية.
أرادت المخرجة “إلين هوفر” عبر ملاحقة تجربة الراقصة الأشهر “أليسيا ألونسو” وقد قاربت التسعين من العمر، التقرُّب من جيل من الراقصات الشابات تمثلهم أماندا فيما يليها جيل من الصبايا الأصغر سناً، وبهذه الملاحقة، تنسج خيوط العلاقة بين الأجيال الكوبية وفن الباليه الذي وجد من يرعاه ويحتضنه في بلاد بعيدة عن المكان الذي ظهر فيه وازدهر.
يفتح “آفاق” الذهن لقبول فكرة كثيراً ما تُطمر وسط فوضى الصراعات الأيدولوجية تقول أن بلدان شيوعية مثل كوبا، وعلى الرغم من قلة مساحات الديمقراطية فيها وضيق فرص حرية التعبير، رعت الفنون وبشكل خاص الباليه، ووضعت فنانيه فوق مستوى الحياة العادية متمتِّعين بامتيازات الرعاية والاهتمام وحب الناس لهم بوصفهم خلاقين لفن راقٍ.
يلازم الشريط الأجيال الثلاثة ويعرض من خلالهم اختلاف رؤيتهم للحياة والمستقبل واشتراكهم بحب فن يحرصون على إتقانه. جولة “آفاق” في رحاب عالم رائع يأخذ معه مشاهده إليه ويغرقه في لجّة بحار من الجمال والموسيقى، وفي نفس الوقت يقرّ بتميز بلاد فقيرة لكنها مُحبِّة للفن ولفنانيها.
على صعيد النتائج النهائية بما فيها الروائية فيمثل فوز الفيلم الأمريكي “بوب والأشجار” Bob and Trees للمخرج دييغو أونغارو بجائزة الكرة الكريستال، تقدُّماً للسينما المستقلة وبرهان على قدرتها في إيجاز التجارب الشخصية القريبة من الحياة نفسها، بعيداً عن الأنماط الهوليوودية، بما يكفي لكسر الحاجز الوهمي بين الشخصيات السينمائية وبين متلقِّيها ليغدو متقاربين فيما بينها.
فيما يُكرِّس فوز مخرج فيلم “باباي” فيسار مورينا حضوراً للسينما الكوسوفية عبر معالجة راقية لموضوع الهجرة إلى الغرب الأوروبي.
أما جوائز التمثيل فذهبت لفيلمين تشيكيين حين حصلت ألينا ميهولوفا على جائزة أفضل ممثلة عن دورها في فيلم “رعاية منزلية”، والممثل كريستال هاديك عن دوره في فيلم “أخوة الثعبان” فيما منحت “فيبريسكي” جائزة النقاد العالمية للفيلم الروماني “بوكس” ونال التشيكي “مالوري” لهيلينا ترشتيكوفا جائزة أفضل فيلم وثائقي.