“جيرارد دوبارديو”: الحضور الطاغي
ندى الأزهري

فيلمان وثائقيان عن “جيرارد دوبارديو” Gérard Depardieu الممثل الفرنسي الشهير. جاء الثاني وكأنه رداً على الأول رغم أن التحضير له بدأ منذ ثلاثين عاما!
دوبارديو، الرجل الذي كان أبوه “لا يحادثه” للفرنسي جيرارد ميلر، قراءة في سيرة غير عادية لهذا الذي طبقت شهرته الآفاق، بثته القناة الفرنسية الثالثة في مارس الماضي، فيما عُرض “جيرارد دوبارديو: بالحجم الطبيعي” لريشار ملّول في مهرجان كان الأخير قسم “كلاسيكيات” وأعادت عرضه القناة الفرنسية الخامسة مؤخرا.
ثمة فارق بين الفيلمين, فعملاق السينما الفرنسية صاحب “سيرانو دو برجراك” رفض المشاركة في الأول مجيبا على اقتراح ميلر بلقائه ليشرح له الفكرة بأنه لا يرغب بذلك. هذ الرجل الحرّ والمتمرد كما يوصف والذي لا يتوقف عن إدهاش الفرنسيين وغيرهم بسلوكه وتصريحاته وقبل هذا وذاك بأدائه المتميز، ظهر بصورة جديدة في فيلم ميلر. كان هدف صانع الفيلم تحليل شخصية الممثل ومدى تأثرها بالعلاقة مع الأبّ والتي لم تكن علاقة “ابن – أب”. فدوبارديو، برأي ميلر، كان يبحث عن أب طوال حياته و هو نفسه “لم يستطع أن يكون أبا”.
لقد فقد هذا العملاق ابنه الممثل والمغني غيليوم وهو في عمر الـ 37 عاما، و جاء موته بعد معاناة و حياة صاخبة وقلقة ومليئة بالأزمات، تاركا ندبة في قلب الأب لا تمحى. سعى المخرج لرسم صورة لدوبارديو في محاولة لفهم دوافعه وشرح ردود أفعاله ولا سيما منها هذا التغير الذي أصابه في السنوات الأخيرة. لقد حصل الممثل على الجنسية الروسية منذ أشهر وهو يدافع عن بوتين في الوقت الذي ينتقده السياسيون والإعلاميون في فرنسا وأوروبا, بيد أنه لا يعبأ بأحد ويفعل دائما ما يحلو له، ففي طفولته “لم يمنع عنه شيء وهو لا يمنع اليوم عن نفسه أي شيء” كما يحلل المخرج.

يعيد الفيلم كذلك كشف حدث لم يلقَ في الماضي اهتماما خاصا، لكنه اليوم أثار اهتمام كثيرين، دوبارديو (67 عاما) الذي نشأ في عائلة فقيرة في مدينة شاتورو ومارس مختلف أنواع الموبقات في صغره وشبابه، غادر بلدته الصغيرة إلى باريس وهناك أتيحت له الفرصة لحضور حفل في الأولمبيا. لم يكن معروفا حين وقع أسير سحر صوت “سيدة الشرق”، لقد أحدث غناء أم كلثوم انقلابا في حياته دفعه لاعتناق الإسلام الصوفي، فتردد يوميا و خلال سنتين على جامع باريس لأداء الصلاة. هذا هو دوبارديو الذي يذهب في كل شيء إلى حدّه الأبعد، وعندما تتحكم به رغبة ينطلق فيها إلى مداها الأقصى.
” لم يرغب بي أحد”
أما الفيلم الثاني للمصور ريشار ملّول “جيرارد دوبارديو: بالحجم الطبيعي” فقد جاء مغايرا للأول، معبرا عن رؤية ذاتية وحميمية للممثل الشهير، فالمصور صديق له، عرفه عن قرب ورافقه منذ ثلاثين عاما في بيته وفي مواقع التصوير… التقط أقواله، صورا له، بعضا من أحواله بعيدا عن النمطية و تُصحِّح أفكارا متداولة عنه وسوء فهم لكثير من تصرفاته.
في هذا الوثائقي يختفي المصور المخرج تماما، يترك العنان للممثل ليدلي باعترافات غير مسبوقة حول طفولته، بداياته في باريس والمهنة التي عشقها ومارسها في المسرح والسينما، علاقته بالموت الذي اختطف أحبابه… اعترافات أغنتها مشاركات زملاء وأصدقاء لدوبارديو. تأتي شهادات المخرج برتراند بلييه وجال فيبير والممثلان ميشيل بلان وبيار ريشار كإضافة أساسية في فهم شخصية هذا العملاق شكلا ومضمونا.
ينسف الفيلم الصورة التقليدية التي عُرفت عن دوبارديو وتلك التي أظهرها الفيلم الأول، لا سيما لجهة الحديث عن مرحلة الطفولة و العلاقة مع والديه. هنا يحكي عنهما كما لم يفعل من قبل وهو لم يرد أبدا الحديث عن أبيه كفاشل أو كعاجز بل كأب رائع لم يسعَ لترك بصماته على أولاده ولم يكن ذلك تخليا عنهم بل كنوع من “فانتازية”. يعبر دوبارديو عن فخره بعائلته “لولا حبّ أمي وفانتازية أبي لما كانت لدي كل هذه الثقة بنفسي”. مرحلة الطفولة لعبت دورا رئيسا في صقل شخصية هذا الممثل، و هي قد انتهت كما يقول عند سن السابعة، بعدها كان عليه تدبير أمر عيشه ولم يكن ذلك سهلا بالنظر إلى شخصيته المتمردة، ويُعبِّر في الفيلم ضاحكا عن تلك الفترة “لم يرغب بي أحد لا المدارس ولا الخوري بل فقط الشرطة التي أكنّ لها احتراما شديدا، كنا نضحك سوية”.
لا ينسى دوبارديو الغائبين الذين عمل معهم وأحبهم مثل الممثل جان كارميه (الذي أحس معه بشعور الابن ربما) والمغنية باربرا والكاتبة مرغريت دوراس و بالتأكيد …. الأعزّ على قلبه ابنه غيليوم وصديقه الممثل باتريك دوفير اللذان رحلا باكرين وتركا في أعماقه فقدا موجعا!

طغت على الفيلم عامة أجواء من المأساوية كما ساهمت الموسيقى التصويرية في إضفاء هذا المناخ الجنائزي لا سيما في المشهد الذي يزور فيه دوبارديو قبر صاحبه باتريك الذي شاركه بطولة “راقصات الفالس” (ثمة لعب على الكلمات بالفرنسية في العنوان) لبرتراند بلييه. كان التأثر يبدو على دوبارديو وهو يذكر صديقه، لقد شكلّا ثنائيا رائعا في الفيلم، “أفضل ثنائي وأفضل من نيومان وريدفورت” كما يصفهما المخرج، لقد أبدعا معا في بث شهوة الحياة والحرية كما شهوة إزعاج الآخرين! تحدث جيرارد بحبّ عن باتريك وقال أنه شعر دائما بأن لديه شيئا مؤلما في أعماقه “لقد أحسست دائما بالموت عنده”. أما ابنه الذي صور أيضا فيلما معه فقد قال عنه “في داخل غيليوم ثمة عنف هائل. لقد مات كشاعر مثل رامبو و صرخاته ما زالت لليوم تتردد في البيت”.
لقطات عديدة من مواقع التصوير للفيلم الوحيد الذي صوّره دوبارديو مع ابنه تُظهر كلها كيف كان كل منهما يحمي الآخر ويحيطه بالحب. هنا أيضا ظهر الأمر و كأنه رد على قول مخرج الفيلم الأول بأن دوبارديو لم يستطع أن يكون أبا.
كان من ضمن من شهد في الفيلم أستاذه في فن الدراما وقد وصف إطلالته الأولى حين قدم للدروس “رأيت شخصا يطلّ كواحد من الفايكنغ الضخام، شعره مسترسل على كتفيه وجينزه ممزق ويرتدي بوطا ضخما من الفرو… ولكن، كانت فيه هذه الطزاجة وهذه الهيبة والحضور…”، الحضور ” الاستثنائي” أشار إليه كذلك الممثل ميشيل بلان، فيما اعتبره الممثل بيار ريشار ممثلا كبيرا لأن عيناه كانت تقولان الحيرة والخشية والغضب (دون أن يتكلم).
كل هذه الحماسة، هذه الثقافة، هذه الحياة في هذا الجسد الضخم. لا يختلف اثنان على هذا الحضور له، إنه يطغى على الشاشة، لديه طاقة هائلة وكل ما قيل عن إدمانه للخمر وشرهه للثروة وإقامته في روسيا هربا من الضرائب في فرنسا وعدم قدرته على حفظ الأدوار… كل هذا الحكم بالإشاعات والتعليقات بات بنظر المخرج جاك فيبير”أكثر أهمية من الفعل نفسه” وبالتالي فهو يدعو “النفوس الصغيرة التي تسمح لنفسها بقول أشياء كهذه عنه أن تخرس للأبد” !.
اعتبر دوبارديو مهنته مهنة الحرية، وسعى في حياته لنيل الإعجاب وهذا كما يقول”ليقدرني الآخرون حتى أتمكن بالتالي من تقدير ذاتي”، لكنه اليوم لا يكترث “فإما أن أُقبل كما أنا أو لا”.
يقول المخرج برتراند بلييه عن الممثل الفرنسي جيرارد دوبارديو بأنه حين يكتب فإن صورته تطغى على الشخصية.
الوحش المقدس وحش الشاشة لأنه حين يحضر يغطي الشاشة وليس لأنه يقالب الأمكنة “بالمشاجرات”، هذه الإطلالة وهذا الحضور والهيبة، آخر ما يقوله عن نفسه: “خسرت أشياء بعدم صبري اليوم استمتع بكوني صبورا”.