مأزق الدراما التليفزيونية في رمضان
د. أمــل الجمل

عنف وقتل ودماء تتناثر هنا وهناك، ملاهٍ ليلية وبيوت للدعارة وأصناف لا تُحصى من الفساد السياسي والاجتماعي والأخلاقي، صراخ مزعج نشاذ يأتي من القصور والحواري وما بينهما على حدّ سواء، جري ومطاردات ومآسٍ يتم توزيعها بلا حساب، إدمان ومخدرات وخيانات، وكأن النماذج السلبية للشخصيات هي القدوة في هذا الزمن. أما الكوميديا فمبتذلة زاعقة مثيرة للاستفزاز إن لم تصب المرء بالغثيان، فتلك الأعمال التي وصفت نفسها أو صُنفت – ظلماً وبهتاناً – بأنها كوميدية هي ليست سوى “اسكتشات” ركيكة مشوهة في أغلبها، تعتمد على الإيماءات غير اللائقة أو العنف والضرب والصوت العالي والسخرية من الآخر، والنتيجة الحتمية التي يخرج بها المتابع لتلك النوعية هو نُدرة كتاب الكوميديا الآن، وإذا كان من المؤكد أن بمصر مواهب قادرة على كتابة الكوميديا لكنها خارج نطاق سوق الإنتاج الحالي، أما الكتاب الحاليون المسيطرون على الساحة فتطغى عليهم حالة من الإفلاس، والدليل على ذلك أنه من بين كل هذا الفيضان لا يوجد سوى عملين هما “لهفة” بطولة دنيا سمير غانم، و”يوميات زوجة مفروسة” بطولة داليا البحيري هما الأفضل نسبياً، بينما العملان نفساهما متوسطا القيمة الفنية في كثير من الحلقات.
إنه طوفان الدراما التليفزيونية الذي ينفجر سنويا في هذا الشهر الكريم، طوفان بمحتواه العجائبي يجعل المتلقي يتساءل عن علاقة ما يُقدَّم على تلك الشاشة بالواقع المعاش؟ هل حقاً تعكس تلك الأعمال التليفزيونية الواقع الخصب بصدق وبكل ما فيه من خير وشر، من فساد أو قيم مجتمعية، من أحداث سياسية أو قضايا اقتصادية ومشكلاتنا المجتمعية؟ بالطبع لن نطالب صُناع تلك المسلسلات بأن يكون إبداعهم – غير العادي – نسخة بالكربون من الواقع، لأننا قطعاً لسنا بحاجة إلى استنساخ الواقع، فإذا كنا نعيشه مرة ونحن غير راضين عنه فكيف نطالب بمعايشته مرتين، إلا لو كان هذا المتلقي يعاني من أعراض المازوخية، أو كانت تلك الأعمال تُعيد تفسير الواقع وتكشف ما خفي منه وتنتقده. في اعتقادي أن المأزق الكبير الذي يُواجه تلك الأعمال أنها لم تنجح أصلا في استنساخ الواقع بكل ثرائه وزخمه، إذ جاء الكثير منها – إن لم يكن أغلبها – مفرطاً في المبالغة والافتعال والمباشرة الفجة، أو مليئاً بالأخطاء التاريخية الكاشفة عن استسهال صُنّاعها.
مع ذلك، ورغم إن مسلسلات رمضان 2015 تجاوزت العشرين مسلسلاً، يمكن استثناء عدد قليل جداً من الأعمال – وأيضاً مع وجود بعض التحفظات الفنية أو ما يتعلق بالصدق التاريخي – منها “حارة اليهود”، “بين السرايات”، “تحت السيطرة”، “استيفا”، وهناك مسلسلات أخرى رغم أي تحفظ على المضمون، لكن يُحسب لها أنها أعادت تقديم ممثلين وممثلات في ثوب وأداء جديد فكانت بمثابة إعادة اكتشاف لهم، مثل غادة عبد الرازق في “الكابوس” بإخراج يكشف عن موهبة فنية لها مستقبل واعد ونقصد إسلام خيري، وفيه تدور الأحداث في جو من الغموض حيث تحاول الأم المكلومة فك لغز مقتل ابنها الذي دللته كثيراً، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة أن تعرف ذلك قبل البوليس لتحمي سمعة ابنها، فتبدأ في التنقيب عن الأسرار التي كان يخفيها ابنها وتعيش فترة سقوطه الأخلاقي. كذلك الراحل سامي العدل الذي شارك في عملين لكنه كان أكثر تميزا في “بين السرايات” الذي اتسم بأداء كوميدي غير مقصود وتلقائي رغم كون شخصية العدل ليست كوميدية. دون أن ننسى الدور اللافت الذي قام به الممثل السوري باسل الخياط في مسلسل “طريقي”.
أستاذ ورئيس قسم الانتهازية

يُثير مسلسل “أستاذ ورئيس قسم” الذي يقوم ببطولته الفنان عادل إمام أكثر من إشكالية سنكتفي هنا بطرح ثلاثة منها: الأول استمرار الرقابة المجتمعية المتمثلة في بعض المؤسسات والجمعيات في الوقت الذي ينادي فيه كُثر من المثقفين والفنانين بتقليص وإلغاء الرقابة الحكومية، فقد حاول اتحاد علماء مصر مصادرة العمل عندما قاموا بمخاطبة القناة التي تذيع المسلسل وطالبوا وقفه بسبب تشويهه لصورة الجامعة والأستاذ الجامعي. وبالطبع ليس في الأمر جديد، فعلى مدار تاريخ السينما والدراما التليفزيونية هناك نماذج عديدة لهيئات ونقابات وجمعيات حاولت ممارسة ذلك الدور الرقابي وهو ما تجلّى في أسوأ صوره هذا العام بالبيان الذي أصدرته نقابة المهن السينمائية ودعت فيه أعضاءها لمقاطعة مثل هذه الأعمال، ومهما كان مستوى الأعمال متدنيا أو حافلا بالسلبيات فليس هذا مبرر لأن تقوم النقابة ��ممارسة دور الرقيب بدلا من ممارسة دورها الحقيقي في حماية الفنان.
أما الأمران الآخران فيكشفان تناقض بطله الفج، فقد كان معروفاً بوضوح – بل بشكل صارخ – مدى حب الزعيم لمبارك وتقربه من نظامه، وقوة إيمانه بالتوريث، وبالتالي موقفه من ثورة 25 يناير، ثم فجأة بين عشية وضحاها يقدم إمام عملاً تليفزيونيا يدّعي فيه مساندة الثورة ويشن هجوماً على مبارك ورجاله ونظامه، مما يطرح تساؤلاً واستنكاراً كيف ومتى ولماذا تحول ذلك النجم إلى مناضل ثوري على الشاشة؟ الأمر الثاني أن الأحداث تُظهر الشخصيات اليسارية بصورة مشوهة وغارقة في المجون، تلك الصورة النمطية التي سبق له إظهارها في أفلامه بمصاحبة المؤلف يوسف معاطي.
وهذا الأمر جعل عدد من الكتاب – ومنهم يساريون – يشنون عليه هجوما لاذعاً ومنهم مدحت الزاهد الذي انتقده قائلاً: “إنه يواصل انحيازه الاجتماعي والفكري ضد اليسار الذى أدمن تشويهه، ويعود يوسف معاطى ليقدم لنا قيادات يسارية مجنونة وغارقة في النساء والخمر، وتقول ما لا تفعل، فضلا عن الإيحاءات المتعمدة للإساءة لشباب الثورة، وإظهارهم على أنهم لا يفكرون. والشخصية المحورية أستاذ جامعي (فوزى جمعة) يقود تلاميذه للكباريهات وميادين وخيام الثورة ويطارد غانيات ويضرب زملاءه بالحذاء، حتى يمتطي ميدان التحرير ومنه إلى الوزارة مدافعا عن الاستقرار الذى هاجمه عندما كان ثائرا.”
نماذج للدراما الفاشلة
وكأن المجتمع المصري أصبح يخلو من المشاكل الحقيقية المتعلقة برغيف الخبز وغلاء الأسعار الفاحش، وتدهور التعليم، وانتشار الأمراض التي تصيب نسبة كبيرة من مواطنيه، وكأن المجتمع المصري حُلّت جميع مشاكله وتفرغت النساء – الأخوات، الزوجتين، والأم – للمشاحنات والخناقات وصُنع المكائد وتدبير المقالب لبعضهن البعض من أجل الفوز بقلب ممثل في مستوى “حمادة هلال” وذلك ضمن أحداث مسلسل “ولي العهد” للمخرج محمد النقلي، وهو في حقيقة الأمر محاولة فاشلة فشلاً ذريعاً في استنساخ حكاية الحاج متولي من دون أن يُدرك صناعه أن مسلسل “الحاج متولي” لم يكن فقط يحكي قصة كل رجل، ولكنه أنجزها في إطار فكري ومن دون أن يغفل طرح ومعالجة القيم والمشاكل المجتمعية بأسلوب جذاب وهادف.
كذلك يعتبر مسلسل “حق ميت” نموذج آخر للافتعال، للميلودراما الزائدة عن الحد، فكثرة المآسي والإفراط في المبالغات جعل المتلقي يضحك على بطله ”حسن الرداد” بدلاً من التعاطف معه، وهو دليل على فشل السيناريو. أما الأعمال الرومانسية – التي كان بعض المشاهدين ينتظرها تعويضاً عن الواقع الدموي أو هروباً من مسلسلات الإدمان والأسلحة البيضاء وغير البيضاء – مثل مسلسل “حالة عشق” الذي تلعب بطولته مي عز الدين فجاء هو أيضاً مخيباً لظن وآمال الجمهور إذ جاء عملاً ركيكاً يدّعي الرومانسية.
استيفا

هناك مسلسلات عندما نقرأ أسماء كتاب السيناريو لها يشعر المتلقي بقدر من الاطمئنان إلى المستوى الفني لها، ومن هؤلاء “مريم ناعوم” التي كتبت “تحت السيطرة”، تامر حبيب” مؤلف “طريقي”، وعزة شلبي والتي قامت بتأليف مسلسل استيفا بمشاركة ورشة عمل، والمسلسل الأخير قام بإخراجه محمد خليفة ويذكرنا ببرنامج إذاعي شهير بعنوان “46120 إذاعة”، ويعتمد على العثور على حل لغز جريمة ما، وتُمنح الفرصة للجمهور أن يكون شريكاً في الحل. يعتمد حل اللغز على محقق أساسي هو عباس أبو الحسن والذي يشاركه في كل مرة أحد النجوم والنجمات، يتميز السيناريو بالحبكة المتقنة جيدة الصنع، وبالإيقاع المشدود، ورغم أنه يُؤخذ عليه عدم المنطقية أو الواقعية في وجود بعض الشخصيات مثل وجود امرأة محققة في المجتمع المصري لكنه أمر يمكن التغاضي عنه، أو يمكن اعتباره توقعا مستقبليا.
أما “تحت السيطرة” فرغم أن أغلب الشخصيات غارقة في الضياع والإدمان لكن صدقيتها الناجمة عن مهارة كاتبة السيناريو مريم ناعوم التي تجعل المتلقي يتورط في التعاطف معها والارتباط بها، والحزن على مصيرها. في حين يتميز “طريقي” بأكثر من أمر أولها السيناريو الذي كتبه تامر حبيب، وأسلوب الإخراج لمحمد شاكر خضير الذي يقترب من اللغة السينمائية بصرياً، بتكوين الكوادر والإضاءة، أضف إلى ذلك وجود الممثل السورى باسل خياط الذي قدم دوره ببراعة، صحيح أن باسل ممثل موهوب وقدم أدوارا جيدة من قبل، لكنه هنا تقدم خطوات للأمام في أدائه الذي يستحق عليه جائزة أفضل ممثل.
أما وجود شيرين عبد الوهاب ومشاركتها في بطولة المسلسل فرغم أنها لازالت غير مدربة بالقدر الكافي على الأداء التلقائي المنساب، ورغم عدم قدرتها على ضبط الحالة المزاجية التي تعيشها الشخصية في اللقطة الواحدة بتنوعها أو في المشهد الواحد، مع ذلك فإن أدائها الفطري، وطزاجتها والقبول الذي يتمتع به وجهها، وصوتها العذب الشجي المبهج والقادر على التلوين، كل هذا يغفر لها عدم إجادتها الكاملة في فن الأداء، والمؤكد أن شيرين في الأعوام القادمة ستكون ممثلة لها شأن كبير لو نجحت في اختيار أدوارها بعناية اختيار أغنياتها.