“تلّ الزعتر”: في وداع مخرجته نبيهة لطفي
الجزيرة الوثائقية – بيروت

حضر فيلم “لأن الجذور لا تموت” إلى بيروت أياما قليلة بعد وداع المخرجة السينمائية نبيهة لطفي، وعرضه “نادي لكل الناس” في صالة مترو المدينة في الحمراء ببيروت.
“الجذور لا تموت” توثيقي لمأساة مخيم “تل الزعتر” التي وسمت الحرب الأهلية اللبنانية في أول سنتين من اندلاعها بطابع خاص يتعذّر معه عبور ذكر الحرب دون التوقف عند المأساة الرهيبة التي أحاطت بحصار المخيم، وبإزالته نهائيا من الوجود.
يفاقم عرض الفيلم الآلام التي تجتاح لبنان والعالم العربي جراء الأحداث المندلعة فيه بما يقدمه من مادة حية توثيقية للمخيم، ولحظات حصاره التي كادت تكون تلخيصا دقيقا لحياته، ومجريات أحداثه، في أقل من ساعة من الوقت (54 دقيقة).
يبدأ الفيلم بأغنية لشيخ المطربين السياسيين الراحل الشيخ إمام: “يا تل الزعتر” وفيها: “يا حكاية كل الناس.. من قلب الناس للناس للناس.. تبقى في ضمير الناس.. وتغيب في عيون الناس.. يا تلّ الزعتر”.
عايشت لطفي أحداث الفيلم معايشة تامة، فجاء محييا واقعه المنقرض كأنه في اللحظة الراهنة. توثيقي ثانية بثانية بصورة تامة، لا يترك فراغا لروايات غير حقيقية. واكبت لطفي المخيم قبل الحصار، وخلاله، قدمت حياة الفلسطينيين فيه، طريقة حياتهم التقليدية، الخبز والصاج، وسوق الخضار، ومعاناتهم قبل الحصار، وهي قاسية، فكيف بعد الحصار: الدمار تدريجي وصولا إلى التدمير الشامل، القتلى المنتشرون في كل مكان، روايات إخراج أعداد من الجرحى بالتفاوض مع حزب “الكتائب اللبنانية” الذي حاصرت ميليشياته المخيم، ودخول القوات السورية طرفا في النزاع. نجحت لطفي في تصوير الجنون والهوس الذي ينتاب الحالات الطائفية والسياسية التي تؤسِّس عادة لاندلاع الحروب الأهلية. زخر العمل بالأبحاث والدراسات واللقاءات مع السكان، والتسجيلات المتفاوتة التواريخ. يعرض كيف اعترضت الميليشيات على وصول الطعام والشراب للسكان، وكيف كانت لحظات الحصار وتداعياتها بالصور الفوتوغرافية الموثقة، وبالفيديو.
يذكر أن المخيم أقيم مثل العديد من المخيمات، عقب نكبة فلسطين 1948. يومئذ تنافست البرجوازيات اللبنانية على إقامة تجمعات للفلسطينيين المشردِّين على مقربة من مراكز أعمالهم في الصناعة والزراعة، فكان مخيم نهر البارد خزان يد عاملة لسهل عكار الذي ملكه إقطاعيو المنطقة، وبعض العائلات البيروتية كـ”إده” و”خوري” وسواهم. كذلك مخيم البداوي الذي قدم اليد العاملة لبساتين الزيتون والليمون التي ملكتها عائلات طرابلسية، وكان تل الزعتر يؤمِّن اليد العاملة للمدينة الصناعية في بيروت التي تنتشر مصانعها في محيط واسع حول نقطة تل الزعتر في المنطقة التي عُرفت إبان الحرب الأهلية بالمنطقة الشرقية ذات الغالبية المسيحية. وازدادت أعداد الفلسطينيين الذين وفدوا إليه بثلاثين ألفا نتيجة نكسة حزيران 1967.
يأتي عرض الفيلم في ظروف قاسية يعاني منها اللبنانيون، والعرب عموما، جرّاء تناوب الأحداث وتتاليها، وما يرافقها من أهوال بالجملة، ولا داع للتفصيل. فيضيف جراحا على جراحهم، ويزيد آلاما على معاناتهم، هم بغنى عنها، وعن أقل ما يمكن قوله في أي حدث إضافي على المأساة العربية المستمرة.
ولو لم يكن العرض مترافقا مع وداع لطفي التي رحلت لأيام قليلة خلت، لسُجِّل على النادي العريق بالعمل السينمائي سوء الاختيار لما تثيره عروض الفيلم من جروح بات المجتمع اللبناني مثخنا بها جراء الأحداث المتتالية التي لم تتوقف، وهي مستمرة بلا هوادة.
عنها

تركت لطفي إرثا سينمائيا هاما، وشاركت في تمثيل بعض منه، أشهرها في “رسائل البحر” لداوود عبد السيد، وفي هذا الفيلم، أدت نبيهة دور “فرنشيسكا” الإيطالية، ولها حضور مميز في فيلم “باب الشمس” عن رواية لإلياس خوري، كما لعبت في مسلسل “الخواجة عبد القادر” دورا أثبتت فيه قدرتها على الملاحظة والترصد.
أما فيلمها “كاريوكا” عن الفنانة الشهيرة تحية كاريوكا فيعتبر من أهم إبداعاتها، صورت فيه وجوه الفنانة المتعددة، والتي حولت الرقص إلى تعبيرية فريدة مميزة بعيدا عن الهز والإثارة.
كذلك أنتجت لطفي فيلما عن المخرج المصري شادي عبد السلام الذي كانت تكن له كما لكاريوكا، حبا وإعجابا كبيرين. وقد انتهى إنتاج فيلم عبد السلام في فترة زمنية قليلة قبل وفاتها.
المخرجة لطفي (1937- 2015) لبنانية الأصل، من مدينة صيدا، بحثت بعمق في المواضيع التي تتبعتها، وغامرت من أجل الحصول على لقطات قليلة آمنت بأهميتها لفيلم أو لموقف.
رحلت من لبنان إلى مصر هربا من التوتر السياسي في لبنان الخمسينات، وشاركت بمظاهرات اعتراضية على قيام حلف بغداد، فطُردت من الجامعة الأميركية في بيروت حيث كانت تتابع دراستها. وعند لجوئها إلى مصر التي فتحت أبوابها للنشطاء السياسيين، التحقت بالمعهد العالي للسينما وكانت أول مخرجة من خريجي طلبة المعهد سنة 1964.
من أفلامها أيضا : “لعب عيال”، و”صلاة من وحي مصر العتيقة”، و”شارع محمد علي”، و”عشش الترجمان”، و”عروستي”، ودير القديسة كاترين”.
تزوجت من علي المختار، الطبيب المصري، والقومي العربي، الذي أحب الفن التشكيلي، بعد أن تعرفت عليه لدى وفودها إلى مصر، في أجواء الانفتاح التي سادت تلك المرحلة، لكن المختار توفي مبكرا وهو في الثانية والخمسين، ولم يحل ذلك دون متابعتها لحياتها، وتربيتها لابنيها على الطريق الفنية التي خطتها مع زوجها الراحل. نجم عن ذلك أن أنشأت ابنتها منى مكتبة جميلة، ثم دارا للنشر باسم والدها الراحل، أما الابن ياسر فقد لمع كعازف بيانو في ألمانيا ومصر. وقد رحلت نبيهة لطفي قبل قليل من موعد حفلة كان سيعزف فيها ابنها ياسر ليل 27 حزيران الفائت في كونشرتو بيتهوفن.