“غدا نلتقي”و”وجوه وأماكن”: الثورة والثورة المضادة

يامن محمد

لقطة من مسلسل “وجوه وأماكن”

منذ عامين كتبنا في هذا الموقع عن الانزياح الحتمي الذي سيطال الدراما العربية والسورية بشكل خاص أي في اتجاه الاقتراب من المفاهيم العامة الجديدة التي خلقها أو عزّزها الربيع العربي بعد العام 2011، بالرغم من أن التلفزيون الرسمي العربي وبحكم نشأته وتطوره والأشكال الفنية التابعة له (الدراما التلفزيونية) شكّل رأسَ حربة للأنظمة العربية ووسيلة أساسية في ترسيخ سلطتها على المجتمع، مع تعزيز دور التلفزيون و “فنونه” بما يمتلك من خاصية التوجيه المركزي التي أشد ما تناسب طابع السلطة المهيمنة، بالتوازي مع محاربة وإضعاف أشكال الفنون الأخرى بالأخص منها ما يمتاز بطابعٍ – احتفالي – لحظة وصولها إلى المتلقي كالسينما والمسرح والأوبرا وغيرها.. وبما تتضمنه من حيز للفردية، في الإرسال والتلقي على حدٍّ سواء، يضمن “للمواطن” مجاله الخاص، ورأيه الخاص، واحتكاكه وتفاعله مع آراء الآخرين الخاصة أيضاً.
على هذا الأساس أمكننا مناقشة مسلسل ولادة  من الخاصرة في جزئه الثالث 2013 وتفنيد الاتهامات الموجهة ضده على المستويين الفني والسياسي من قبل جزء لا يستهان به من الجمهور.

فما كان يؤخذ عليه من حياد النظرة السياسية، بل ما كان يبدو في مواضع معينة: تبنِّي للرأي الرسمي أو الانحياز إليه، ليس في جزء منه، وبحسب شروط صناعة الدراما التلفزيونية نفسها، إلا ما يعود إلى طبيعة هذه الدراما بحكم التكوين، بل إن ما يفاجئ حقاً هو قدرة الدراما (هنا الولادة من الخاصرة) على “الانزياح” عن قوالبها السابقة، والقدرة مثلاً على أن يجسد فيها ممثلٌ موالٍ للسلطة دور بطلٍ إيجابي (وليس سلمياً) من أبطال الثورة السورية، أو جرأة تصوير مظاهرة سلمية ضد النظام وقتل الأمن للمتظاهرين بشكل مباشر.
 وما يؤكد هذه الرؤيا التحليلية ما صدر فيما بعد من كلام لكاتب المسلسل “سامر رضوان” يتهم فيه المخرج “سيف الدين سبيعي” بتحريف السيناريو عبر طريقة إخراجه ليقول ما انتقده جمهور الثورة عليه (كما انتُقِدَ أيضاً من جمهور موالٍ).. هذه صناعة الدراما التلفزيونية عندنا وهنا تكمن صعوبة الخروج عن قواعدها.. لكن لا ريب أن انزياحاً ما قد حصل وأن تمايزاً يسم تطورها المتسارع قد ظهر واضحاً للعيان.

بالنظر إلى المشهد العام للدراما السورية وما قدّمته في رمضان 2015 سنتأكد أن الفرز والتمايز قد مضيا أشواطاً أخرى، وأن التقييم ومعاييره مضى إلى ما هوَ أبعد من كون العمل التلفزيوني، إلى جانب الحراك الثوري أو إلى جانب النظام وفق التقسيم التبسيطي الذي كان سائداً.. وهنا سنتوقف عند ما أشرنا إليه أعلاه: المفاهيم العامة الجديدة ومعناها العميق لدى المتلقي.. المتلقي “الجديد” أيضاً إذا جازت التسمية. وذلك بالإشارة إلى مسلسلين أثير حولهما هرجاً هما “وجوه وأماكن” للمخرج هيثم حقي، ومسلسل “غداً نلتقي” للمخرج رامي حنا لكاتبيه “إياد أبو الشامات” ورامي حنا.
ربما فاجأ القائمين على المسلسل الأول “وجوه وأماكن” الذي يعلن “انتماءه” وانحيازه للثورة بشكل مباشر، رفضٌ عام من جزء وازن من جمهور الثورة عينه بما يشي بإخفاق بات واضحاً للمسلسل خصوصاً في القسم الأول منه (كتابة هيثم حقي نفسه) ولم يكن من الصعب على الكثيرين من المشاهدين العاديين، عداك عن غيرهم من النقاد، تحليل أسباب هذا الإخفاق وذكرها على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى في الأيام الأولى لعرض المسلسل.

لقد بدا البون شاسعاً بين عمل “حقي” وبين القفزات التي شهدها عالم الصورة بعد 2011 على مستوى الميديا والكتابة وقوة الصورة (والحكاية المصورة) التي أصبحت في متناول الجميع. أكثر من ذلك، إن هذا الفارق/التأخر عاد بالمسلسل إلى ما دون مستوى الأعمال قبل 2011. بما يشبه نكوصاً يُذكِّرنا بدراما الثمانينات المصرية تحديداً، وليس المقصود إنتاجات “أسامة أنور عكاشة” ومثيلاتها! بل مسلسلات أخرى كثيرة جداً كنا نخالها انقرضت بعد فترة التردِّي الدرامي في تلك الفترة.
 قصة تقليدية، كتابة بدائية تعتمد الجذب الرخيص (أي السهل، كإغواء امرأة جميلة لرجل رب عائلة وفق تحدٍ سخيف مع صديقتها) ركاكة في الحوار ومباشرة كان “خلّصنا” منها الأدب الفلسطيني منذ غسان كنفاني. بناءً على هذا التأسيس الخاطئ لم يستطع الممثلون القيام بأي شيء إضافي سوى التخبط في فراغ لا نهاية له رغم استعانة المخرج بنجوم معروفين وآخرين جدد لا يستهان بإمكانياتهم. لم يشفع للقائمين على هذا العمل إشهارهم تبنيهم للثورة وقضية الشعب السوري كما لم يخفف من وقع المباشرة تأخرها عدة حلقات عانت من التطويل وضاعت في شرح سطحي للشد والرخي بين الغاوية و”الضحية”.

لقطة من مسلسل “غدا نلتقي”

لكن مسلسل “غداً نلتقي” الحائز على إقبال جماهيري هو الأكبر لهذا الموسم والذي نستطيع أن نأخذ عليه ما أُخذ على “الولادة من الخاصرة” وفق قراءة سطحية، سيكون أقرب لمعايير أخرى تتجاوز أي تقسيم سطحي وسيصعّد من الجدل السوري نفسه في أبعادٍ متعددة. أدرك أصحاب العمل هنا ضرورة الخروج “الكلي” عن القوالب الماضية، تحديداً “الماضية” حتى وقت قريب، أي ما بعد 2011.
في سكن مشتركٍ للاجئين السوريين لم يقتصر خيار “حنا” و”الشامات” على تبني الرأي الحاد للفئة التي استهدفها النظام بالتهجير وهو ما حصل في الواقع، أي إن غالبية المهجرين خارج سورية إنما غادروا وقبل كل شيء نتيجة عسف النظام، من المناطق الخارجة عن سيطرته، هذه حقيقة، لكنها حقيقة عامة، العمل الفني مناطٌ به أيضاً التحلي بإمكانية التحرر من العموميات للوصول إلى الحقيقة. هذه الحرية الفنية بالضبط، هي ما تعيد العمل الفني إلى تصور أصدق للواقع وأقرب للحقيقة، بغض النظر عن الرأي السياسي لأصحابه.

كان هنا الاقتراب الأول من الواقع والحقيقة هوَ: التصور الواعي “للشخصية” على أنها كتلة من التناقضات والنوازع، وهي محكومة بظروفها وعياً ورأياً سياسياً بل أيضاً بمصالحها. هيَ إذاً الشخصية الإنسانية عينها ولكن بتمظهرها الفني هنا، وبحريتها، أي حرية “مؤلفها” و”مخرجها” كما حرية الممثل الذي يؤديها.. في استقلالهم جميعاً عن الأشكال والقوالب المهيمنة.
 لم يكن بعيداً عن الواقع أيضاً المضي أكثر في خيار المسلسل الرئيسي بأن يكون قطبا الشخصيات جابر (أداء: مكسيم خليل) ومحمود (أداء: عبد المنعم عمايري) أخوين برأيين وموقفين سياسيين متناقضين ويسكنان غرفة واحدة. على هذا التأسيس الجيد لم يعانِ المسلسل بكل مكوناته من فراغ وازن عبر حلقاته الثلاثين رغم محدودية أماكن التصوير، في بناء لسكن اللاجئين في لبنان، التأسيس الذي في القلب منه بناء “شخصية” درامية “إنسانية” تستطيع أن “تعيش”، بشرط عمل المخرج على الممثلين لاستكمال إحيائها وهوَ ما تم بشكل ملفت في هذا العمل، استناداً كما يبدو على خبرة واضحة في مجال العمل المسرحي تأسيساً.

هكذا “عشنا” نحن أيضاً مع شخصيات فريدة أداها كل من “عبد الهادي الصباغ” و”تيسير إدريس” و”ناظلي الرواس” وبقية الممثلين الذين أعادوا إلينا الإنسان المغيَّب بالقصف والرعب والتهجير في بلد اسمه سوريا، هكذا بالضرورة ينتصر المسلسل للشعب السوري.
 على التأسيس الجدي عينه استطاعت الكتابة والإخراج بناء رمزية إضافية والخروج من الواقعية المفرطة إلى فضاءات تعدد المعاني والقراءات، تعدد أصوات، يناسب الحالة الواقعية السورية بتعقيداتها مضفياً على العمل طابع جمالي جديد، يناسب متلقي جديد، لم تعد تقنعه أحادية الخطاب. هذه هي إذاً بعضٌ من قيم جديدة أصبحت أكثر رسوخاً لدى المتلقي المشار إليه، وهوَ ما التقطه أصحاب العمل. في المقابل على ماذا يلام “غداً نلتقي”؟ ومن أي باب نستطيع انتقاده؟

نبدأ بانتقاده عند تخليه عن منطلقاته ذاتها، كإهماله عن قصد أو دونه، لمنطق شخصية ما في لحظة ما بما يخالف تركيبها، كأن يسمي محمود “عبد المنعم عمايري” ما يجري في سوريا بالحرب، بدلاً من “ثورة”، مثل هذا الفعل يصعب على شخصية مثله حتى لو كان مقتنعاً أنها مجرد “حرب” هوَ الذي دفع ثمناً باهظاً يعادل حياته لخياره بالوقوف إلى جانب ثورة السوريين! وقع العمل في مطب آخر عندما ابتعد عن حياديته أيضاً أو عن قراره التأسيسي بعدم القول المباشر والمُقحَم، حصل ذلك بقصدية واضحة عن طريق المخرج/الممثل الذي أدى دوراً لشخصية وافدة جديدة إلى مبنى اللاجئين عندما سرد قصته في سوريا، حيث أسعف في مكان عمله في ريف دمشق عسكرياً نظامياً فاعتقله المسلحون على فعلته وأذاقوه العذاب، ثم أسعف عسكرياً من المسلحين ليعتقله النظام ويذيقه العذاب أيضاً.
تبدو هذه المقاربة “الحيادية” غير حيادية وفقاً للواقع ومجريات الأحداث في سوريا، إذ يصبح من حق المنتقد هنا اتهام العمل بالمساواة بين “جلاد وضحية” أو أقله اتهامه بقصور قراءته السياسية للواقع السوري “العام”.

كما حصل أيضاً عندما صرخت إحدى الشخصيات أثناء احتراق غرفة وردة بسبب شجار محمود مع أخيه جابر (يكفي لقد أحرقتما بشجاركما الغرفة). لكن في كل الأحوال حتى لو فرضنا جدلاً صحة اتهامه بخلل يجعله يميل إلى كفة دون أخرى من الوجهة السياسية؛ يبدو هذا العمل المؤسَّس على قواعد احترافية وأصول فنية فوق – اعتبارية شخصية – وعلى روح ديمقراطية وإنسانية في طابع تركيبه وطريقة الشغل عليه، أقربَ إلى صميم الروح الثورية وحراك بعد 2011 منه إلى عمل آخر يلهج بثوريته المعلنة لكنه في الحقيقة قد يعبِّر من خلال تفاصيله و “سلوكه” عن ثورة درامية مضادة !


إعلان