مسلسلات رمضان: ما لم يتُه في الزحام

ندى الأزهري

لقطة من مسلسل “العراب”

في رمضان، أمام كثرة الخيارات، لا وقت ولا مجال للتردد. حين تقع على بضعة مشاهد من مسلسل تلفزيوني ما، يتم اتخاذ القرار توّا. إما أن يشدك العمل فورا وتقرر متابعته، أو تضعه على لائحة الانتظار إذ يبدو صالحا للمشاهدة إنما ثمة ما هو أكثر إثارة أو تجاوبا مع الأهواء في الوقت الحالي، أو… تمسحه نهائيا من اللائحة فلا اليوم ولا غدا!
ماالذي يدفع باتجاه أحد هذه القرارات؟ يعود هذا إلى ثقافة الفرد وطبيعته وطباعه كما إلى هدفه من مشاهدة المسلسلات، أهو مجرد التسلية وقطع الوقت في أي شيء كان؟ أم لعلّه ولع خاص بهذا النوع من الأعمال التلفزيونية الذي يعتمد التسلسل وبالتالي التشويق عبر الانتظار  ويتيح في الآن ذاته العيش مع شخصيات وهمية حقيقية لأيام ومرافقتها في مصائرها، إنه نوع من العودة إلى ” الحكواتية” و الموروث الشعبي الذي حفل بفن القصّ المتسلسل وهذا من أيام  شهرزاد وشهريار.

وإن كان البعض لا يعبأ بالجانب الفني للعمل ولا باسم المخرج بل ينصبّ جلّ اهتمامه على أسماء النجوم (حين يغيب هؤلاء قد يلتفت  للممثلين المشاركين) و مضمون القصة وسير الأحداث، فإن بعضا آخر قد يكتفي بمشهد ليقرر المتابعة وهو يحكم على جودة أو سوء العمل لا من حيث القصة العامة فحسب بل تبعا لغنى الحوار والحبكة و أسلوب الإخراج من زوايا تصوير و حركة كاميرا و أداء ممثلين، أي كل ما يعطي للمسلسل قيمة فنية.

العراب وسيلفي وحارة اليهود

لكن ثمة عوامل أخرى تتدخل منذ البداية فتجذب انتباه الجمهور نحو مسلسل بعينه، وعلى سبيل المثال قد يشكل العنوان أو الضجة التي يثيرها المسلسل في الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي بعد عرض حلقات قليلة منه، أو الاثنان معا، حافزا إضافيا يثير انتباه من لم ينتبه ومن لم يقرر المتابعة من البدء.
خلال رمضان الأخير، كان مجرد اختيار عنوان ” حارة اليهود” لمسلسل مصري كفيلا باستقطاب الكثيرين، فكيف بعد ما أثاره من جدال إعلامي و”عنكبوتي” حول مضمونه و مدى التزامه بالوقائع التاريخية كما حول صورة شخصيات من اليهود فيه بدت للبعض” إيجابية” أكثر من اللازم بل و ” وطنية؟”.  لقد ساهمت البرامج الحوارية التلفزيونية حول” حارة اليهود” في إثارة فضول من لم يجذبه العنوان في البداية وشكلت دعاية له. وعلى كل يحسب للمسلسل، على الرغم من كل ما قيل، فكرته الجديدة والأداء المتميز لعديد من أبطاله.

لقطة من مسلسل “حارة اليهود”

وفي المجال نفسه جذب عنوان آخر اهتمام، ولكن أيضا، انتقاد المشاهدين والنقاد. ” العراب” الذي اختير عنوانا لعملين سوريين، عرضا في رمضان كذلك، كان هدفا لانتقادات لاذعة من نقاد رأوا في الاقتراب من تحفة المخرج الأمريكي فرانسيس فورد كوبولا، المأخوذة بدورها عن رواية “العراب” لماريو بوزو، “جريمة لا تغتفر”! إذ ينظر هؤلاء إلى الأعمال التلفزيونية نظرة دونية مقارنة بالفن السابع، فكيف إن تجرأت تلك واقتبست عملا يعتبر من روائع السينما العالمية؟ كما اعتبر البعض أن “غنى” الواقع السوري بالأحداث والقضايا ولاسيما في السنوات الأخيرة يغني عن أي اقتباس. وكانت شركة إنتاج “العراب – نادي الشرق” الذي أخرجه حاتم علي، قد استبقت الانتقادات بالإعلان بأن المسلسل وإن استلهم حكاية فيلم  The Godfather  واقتبس منها بعض أحداث محورها الرئيسي لكنه “سرعان ما ينفصل عنها، ومنذ الحلقة الأولى فيؤسس ويبني لنفسه حكايته الخاصة راسماً خطوطه الدرامية المستقلة”.

وقد أثار المسلسل فضول السوريين، فهو بنكهة عربية وإضافات قصصية ويبتعد قليلا عن الرواية الأصلية لتقترب أحداثه مما يجري في مدينة ساحلية سورية تعجّ بالمافيا لكن على الطريقة السورية كما يبدو. كذلك حاول العمل الثاني “العراب” الذي أخرجه المثنى صبح التنصُّل من الشبه بينه وبين “عراب” كوبولا فصرح مؤلفه حازم سليمان، لـ CNNبالعربية بأن مَنْ يريد مشاهدة “عراب كوبولا”، من الأفضل له شراء الفيلم لأنه لن يجد ضالته في المسلسل.” مشيراً إلى أنّه استغنى عن قرابة الـ 80% من النص الأصلي المرتبط عضوياً ببيئات،  وطروحات، وأحداث تاريخية، واقتصادية، وسياسية لم تعرفها المنطقة.”

وثمة مسلسل آخر حظي بتغطية إعلامية ضخمة لاسيما إحدى حلقاته التي تناولت بأسلوب ساخر تنظيم الدولة “داعش” ما أثار انتباه الجمهور واهتمامهم لمتابعة حلقات من مسلسل “سيلفي”.  الذي هدف “للعودة إلى الكوميديا الاجتماعية الجادة، التي تصوب نقدها البناء على بعض أماكن الخلل في مجتمعاتنا، وذلك ضمن أجواء تمزج بين الابتسامة والرسالة الاجتماعية بطريقة متوازنة”، بحسب بطل العمل السعودي ناصر القصبي.
وعلى الرغم من أن القصبي بطل العمل له شعبيته بالأصل، فإن اللقاءات والتعليقات ركزت على مضمون الحلقة “الجريء”. وقد يكون المسلسل نجح في الهدف الذي حدده، وعلى الأقل في حلقته تلك.

غدا نلتقي

أما المسلسل الذي أرضى الأذواق ويمكن القول أنه من ضمن تلك المسلسلات التي تشدّ المشاهد من مشهد واحد فكان “غدا نلتقي”. نصّ متقن كتبه الممثل السوري إياد أبو الشامات وأخرجه رامي حنا الذي شارك أيضا في كتابة القصة والبناء الدرامي للعمل.

من المشاهد الأولى التي نقع عليها في زحمة المعروض في رمضان، يتوقف البحث عن وجهة أخرى وتستقر اليد بعد طول عبث بجهاز التحكم. مشاهد مدروسة بكادرها وإضاءتها وحركة ممثليها و تعبيراتهم وتعابيرهم.

في أسلوب اعتمد السخرية المريرة “الأكثر قدرة على فهم الواقع وتفاصيله” كما عبر المؤلف، يرصد المسلسل واقع المهجرين السوريين في لبنان بكل مآسيه إنما كذلك بجزء من أفراحه النادرة.

لقطة من مسلسل “غدا نلتقي”

نازحون مجتمعون هنا في مبنى بائس شبه مهدم من مخلفات الحرب الأهلية اللبنانية، هم صورة بعلاقاتهم عن مجتمع متعدد الأهواء والتوجهات، السياسية منها على وجه الخصوص. رصد واقعي بعيد عن أي مغالاة يغور في عمق المشاعر الإنسانية لشخصياته. الحوارات مدروسة وليست كلاما فارغا فقط لتعبئة الحلقة. يعتمد العمل لغة شاعرية تعزز مأساوية الحدث الكابوس، ورمزية بعيدة عن الافتعال، فالشقيقان المهجران اللذان يقطنان معا في المبنى “جابر” بائع الأقراص المدمجة الموالي للنظام السوري و “محمود” الشاعر المعارض، يحبان الفتاة ذاتها “وردة” الحزينة مغسلة الموتى. “”وردة” هي  سورية التي تغسل موتاها كل يوم.

الممثلون، تحت إدارة مخرج متمكن، يبرعون. “عبد المنعم عمايري” هذا اللاهي الجاد، اللعوب والمدعي البراءة، المخدوع المخادع… تجتمع فيه الشخصيات، يبرزها في الموقف الملائم وقد يجسدها معا في وقت واحد بأسلوب متفرد يبرع به, إنه هنا الشاعر محمود الذي تغادره زوجته إلى أمريكا بعد الحرب و هو من تغرق في حبه “وردة” غسالة الموتى الجميلة التي تخفي حقيقة عملها.
“كاريس بشار” في هذا الدور تفرض شجنها على الشاشة، كآبتها مرسومة في عينين حزينتين راغبتين بتصديق ما لا يصدق، فهل هذا المثقف الوسيم الذي يشاركها النزوح قادر على حب واحدة في وضعها؟ الكل أبطال في هذا العمل حتى هؤلاء الذين لا يظهرون كثيرا. “ضحى الدبس” في بناية المهجرين تلك هي الأم التي تواجه مسؤوليتها ورعايتها المادية والمعنوية لابنة شابة باستسلام أحيانا وبقوة الحكمة أحيان أخرى. ضحى الدبس ممثلة تجسد الحنان بنفس قدرتها على تجسيد القسوة، هي في نظرة واحدة تفرض حضورها على الشاشة، وثمة ترقب يصاحب ظهورها، متعة بهذا الحضور، مهما كان الوجع الذي تجسده الشخصية.

نال “غدا نلتقي” إجماع من الناس والنقاد بفضل مستواه الرفيع، ولكن كان لافتا تعرض بعض مشاهده لمقص الرقابة لدى عرضه على محطة “الإمارات”، كما  اتهامه “بالعنصرية” من قبل محطة MTV  اللبنانية في إحدى نشراتها الإخبارية.
دللت المحطة على اتهامها في مشهد وصفته بالعنصري لأنه “يجسد واقعا مزيفا كاذبا عن تعاطي اللبنانيين مع الشعب السوري (…) واتهام منطقة الأشرفية بالتعصب علنا”، وبأنه حتى السيدة فيروز “رمز لبنان وأيقونته” لم تسلم من نص الكاتب المتعصب! كل هذا لأن شخصية أجابت على سؤال إن كانت تحب فيروز بالقول بأن الفنانة الشهيرة ترتبط في ذهنها بمواقف وأشياء لا تحبها. فهل الكل مجبر على حب فيروز، وهل عدم حبها يبرر الوصف بالعنصرية؟!

في العادة يشتكي الإعلاميون من الرقابة وهنا حصل العكس إذ لامت المحطة اللبنانية الرقابة لعدم تدخلها!
” غدا نلتقي” يعيد الأمل بالإنتاجات السورية من المسلسلات بعد أن بدأت تلك تتوه قبل الحرب التي لم تزدها إلا توهانا في المجمل، وكانت مبررا أحيانا لتنفيذ أعمال كيفما كان اعتمادا على سمعة وتعاطف مسبقين.

 الخاتمة
في النهاية يمكن القول أنه في رمضان تتوفر مسلسلات ترضي إلى حدّ ما جميع الأذواق،  وثمة عشرات عرضت هذا الموسم، ضاعت من ضمنها أعداد ضمن الزحام، إنما قد تلقى تلك فرصتها الحقيقية بالعرض خارج الموسم منضمة هكذا إلى عشرات أخرى انتظرت دورها إلى ما بعد انتهاء الشهر الكريم.


إعلان